ألكسندر كولي ‏

هل تتخلّى كازاخستان عن ماضيها الكليبتوقراطي؟

20 أيار 2022

المصدر: Foreign Policy

02 : 05

رئيس كازاخستان قاسم توكاييف يُلقي خطاباً بناسبة عيد "النوروز" ‏للاحتفال بالاعتدال الربيعي في ألماتي ‏
في شهر كانون الثاني، سادت فوضى عارمة في كازاخستان: بدأت احتجاجات حاشدة ضد الفساد تنتشر في أنحاء البلد، ما دفع الرئيس قاسم جومارت توكاييف إلى مناشدة موسكو لإرسال قوات حفظ سلام من "منظمة معاهدة الأمن الجماعي" التي تقودها روسيا لإعادة إرساء النظام. لكن عاد الهدوء إلى شوارع "ألماتي" ومدن كازاخستانية أخرى اليوم. استعاد توكاييف زمام الأمور، ويبدو أنه يريد أن يثبت للمواطنين في كازاخستان أن بلدهم بدأ فصلاً جديداً من تاريخه، بعد ثلاثة عقود على استقلاله عن الاتحاد السوفياتي.

يعمل توكاييف على تطهير الحكومة من تأثير سلفه الاستبدادي، نور سلطان نزارباييف، الذي حافظ على نفوذ قوي في الحكومة والقطاع الخاص، رغم استقالته من منصب الرئاسة في العام 2019. سبق وأُقيل أفراد من عائلة نزارباييف من أعلى المناصب في لجنة الانتخابات، ومن أقوى جماعة ضغط في القطاع التجاري، وأبرز شركات الغاز والنفط في كازاخستان. كذلك، اعتُقِل رئيس الاستخبارات الكازاخستانية، كريم ماسيموف (حليف سياسي قديم لنزارباييف استلم رئاسة الحكومة مرتَين)، بتُهَم الخيانة. في الوقت نفسه، أعلن توكاييف عن إطلاق تدقيق واسع بصندوق الثروة السيادي في كازاخستان وإعادة هيكلته، بما في ذلك توظيف وجوه جديدة، وتقليص مظاهر المحسوبيات التي تكلّف حوالى 69 مليار دولار، والسيطرة على 55% من موارد البلد على الأقل.

لكن تتجاوز الشبكة الأوليغارشية في كازاخستان حدود البلد. يذكر تقرير صادر عن شبكة KPMG في العام 2019 أن 162 شخصاً من أغنى أغنياء كازاخستان يسيطرون بالكامل على نصف ثروات البلد، علماً أن معظم هذه الأموال موجودة اليوم في جنيف، ولندن، ونيويورك، وباريس، ومراكز مالية عالمية أخرى، بعيداً عن متناول السـلطات الكازاخستانية. ألقى توكاييف خطاباً أمام الوزراء في بداية شهر شباط وأمر حكومته بتصميم خطط لاسترجاع تلك الأصول خلال شهرَين، ولَفَت أيضاً إلى التضارب بين تقارير الصين وكازاخستان الرسمية حول حجم التجارة بين البلدين، ما يشير إلى حصول عمليات تهريب واسعة النطاق عبر الحدود. لكن يشكك الكثيرون حتى الآن بمؤهلات توكاييف كإصلاحي حقيقي، فقد كشف تقرير جديد أصدره "مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد" أن توكاييف وأفراد عائلته جمعوا ثروات كبرى في الخارج، بعضها على شكل حسابات مصرفية في سويسرا، أو شركة مسجلة في بريطانيا، أو عقارات في روسيا وسويسرا.

سيكون تحديد موقع تلك الأصول صعباً من الناحية اللوجستية والقانونية، وقد تحتاج حكومة توكاييف إلى سنوات، لا أشهر قليلة، لإتمام هذه العملية. خصصت العائلة الحاكمة السابقة ومعاونوها عقوداً عدة لإخفاء أموال الدولة المكتسبة بطرقٍ غير مشروعة في الخارج استعداداً لهذا النوع من المطاردات العالمية لأصول الدولة. تبقى معظم مقتنيات جماعة نزارباييف الخارجية خفية حتى الآن، وقد تؤدي مساعي إيجادها وإعادتها إلى تعقيد العملية الانتقالية السياسية في كازاخستان وتدخّل محامين ومحاسبين غربيين وشركات خارجية لإدارة السمعة، تزامناً مع تحدّي الحكومات الغربية لتنفيذ التزاماتها العالمية لمكافحة الفساد.

برأي الولايات المتحدة وبريطانيا اللتين تملكان خبرة واسعة في التعامل مع مزاعم الفساد التي تشمل النخبة الحاكمة في كازاخستان، تشكّل معركة حكومة توكاييف لاسترجاع ثروات البلد المنهوبة فرصة لاختبار فاعلية مبادراتهما الجديدة لمكافحة الفساد.

في كانون الأول 2021، كشفت إدارة بايدن استراتيجية جديدة لمحاربة الفساد واعتبرتها في مناسبات متكررة من أولويات الأمن القومي الأميركي. تبدو هذه الاستراتيجية لافتة لأنها تستهدف الكليبتوقراطيين الخارجيين وداعميهم الأميركيين الذين يستعملون خبرتهم المهنية لتسهيل تبييض الأموال وتحسين سمعة المرتكبين. لكن لا تشمل هذه السياسة توجيهات كثيرة حول طريقة دمج جهود مكافحة الفساد مع خطط السياسة الخارجية، لا سيما في الحالة الشائكة التي تلاحق فيها حكومة استبدادية نُخَباً استبدادية سابقة.

تختلف هذه المشكلة عن محاولات التدخل في تحقيقات حساسة لمكافحة الفساد كتلك التي واجهها المسؤولون الأميركيون في حالات متكررة ومُحبِطة. في العام 2000، أطلقت وزارة العدل الأميركية تحقيقاً حول جيمس غيفن، رجل أعمال أميركي كان المستشار الاقتصادي لنزارباييف، بعد اتهامه بنقل الملايين من شركات نفط أميركية إلى حسابات مصرفية سـويسرية نيابةً عن مســـؤولين كازاخستانيين. رغم الضغوط المتواصلة التي مارسها نزارباييف، تستحق إدارة جورج بوش الإبن الإشادة لأنها رفضت التدخل في تلك القضية. عادت وزارة العدل الأميركية واعتقلت غيفن في العام 2003 واتّهمته بالرشوة. (في نهاية المطاف، أفلت غيفن من العقاب ودفع غرامة صغيرة بعدما تقبّل القاضي مزاعمه القائلة إنه تصرّف في كازاخستان بطريقة تخدم مصالح الحكومة الأميركية).

فيما تحاول كازاخستان إطلاق حملة عالمية لاسترجاع أصولها المنهوبة، تبدو هذه القضية أكثر تعقيداً اليوم. يتعلق التحدي الذي تواجهه الولايات المتحدة هذه المرة بكيفية دمج التوجيهات الجديدة لمكافحة الفساد مع المساعي الرامية إلى تحقيق أهداف أخرى من السياسة الخارجية الأميركية. من خلال مطاردة أصول عائلة نزارباييف في الخارج أو فرض العقوبات عليها، قد تثبت الولايات المتحدة التزامها بمحاربة الفساد، لكنها ستُحقق هذا الهدف دعماً لحكومة كازاخستانية لا يمكن الوثوق بالتزامها بالإصلاح السياسي بعد.

قد تترافق تدابير مكافحة الفساد في الخارج مع عواقب سياسية عميقة على الدول المعنية بهذا الملف. على مر العقد الماضي مثلاً، فرضت هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية غرامات على ثلاث شركات اتصالات دولية تنشط في أوزبكستان لأنها حاولت تقديم رشوة إلى غولنارا كريموفا، ابنة الرئيس السابق إسلام كريموف المعروفة بقوتها، في خضم مساعيها لاختراق سوق الهواتف الخليوية المربحة في البلد. سرعان ما أساءت الغرامات والتحقيقات الدولية إلى كريموفا سياسياً، ما دفع الحكومة الأوزبكية إلى اعتقال كريموفا ومساعديها في أوزبكستان. يجب أن يتخذ المسؤولون الأميركيون الذين يفكرون بطريقة إعادة الأصول الكازاخستانية خطوات عملية للتأكد من إقدام حكومة توكاييف على إيداع الأموال في حساب يمكن تخصيصه لدعم المجتمع المدني الناشئ في كازاخستان، بما في ذلك منظمات مكافحة الفساد والصحافيين الاستقصائيين، فضلاً عن طرح برامج توعية لمكافحة الفساد وتدريب الموظفين الحكوميين.

على صعيد آخر، أقرّت بريطانيا أدوات جديدة لمكافحة الفساد بهدف تسريع إعادة الأصول المنهوبة إلى كازاخستان. في السنة الماضية، نجحت داريغا نزارباييفا في محاربة أمرٍ غير مبرر أصدرته الوكالة الوطنية للجريمة في بريطانيا، فقد جمّدت هذه الأخيرة جزءاً من عقاراتها الفاخرة بقيمة تفوق الثمانين مليون جنيه استرليني (100 مليون دولار).

صبّت القضية في مصلحتها لأن القاضي البريطاني قال إن مكتب المدعي العام في كازاخستان دعم ادعاء نزارباييفا القائل إن أصل ثروتها ليس مشبوهاً. قد تختلف نتيجة أي قضايا مستقبلية من هذا النوع بسبب تغيّر موقف حكومة كازاخستان من أفراد عائلة نزارباييف ومساعديهم.

انشغل رئيس كازاخستان السابق بتحسين سمعته طوال سنوات وأنفق مبالغ طائلة لتلميع صورته في الخارج. دعمت مؤسسات غربية مرموقة حملة مفادها أن نزارباييف هو الزعيم البارع الذي قاد مسيرة استقلال كازاخستان وسيادتها. كان معظمهم يعترف في أوساطه الخاصة بأنه حاكم استبدادي، لكن اعتُبِر "الاستبداد الناعم" المرتبط بصورة نزارباييف العامة حول العالم ثمن الحفاظ على الاستقرار السياسي والعلاقات الودّية.

تطول لائحة اللاعبين الغربيين المشاركين في خلق أسطورة نزارباييف: تلقت منظمات بحثية غربية تمويلاً بالملايين من كازاخستان، ونظّمت مناسبات للاحتفال بالعلاقات الأميركية الكازاخستانية، وتجاهلت تدهور سجل النظام في مجال حقوق الإنسان. كذلك، سُرّ مدراء جامعات مرموقة بإقامة شراكات رفيعة المستوى مع جامعة نزارباييف، من دون التشكيك بأصل المؤسسة التي موّلتها أو نظام حُكمها المبهم. في الوقت نفسه، استعانت حكومة كازاخستان بجماعات ضغط ووكالات استشارية أميركية وأوروبية عالية الكلفة لبث صورة نظامٍ استبدادي مستنير يطمح إلى إرساء الاستقرار السياسي تزامناً مع التمسك بهامش من الانفتاح على العالم.

لا يزال الاستياء الشعبي من غياب الإصلاحات الحكومية في كازاخستان مستمراً. ويبدو أن مطالبة توكاييف بوصول قوات حفظ سلام روسية جعلته مديناً للرئيس الروسي فلاديمير بوتين على نحو مزعج. أجبرت الحرب في أوكرانيا المسؤولين الكازاخستانيين على تبنّي موقف حيادي محرج، فتجنبوا إدانة غزو بوتين علناً أو عبر التصويت في الأمم المتحدة، لكنهم أرسلوا مساعدات إنسانية إلى أوكرانيا. قاوم توكاييف الضغوط الروسية التي دعته إلى إرسال قوات عسكرية للمشاركة في الصراع، لكن يشعر المسؤولون المحليون بالقلق من تأثير العقوبات الغربية.

يكشف أحد الاستطلاعات دعم الرأي العام الكازاخستاني للغزو الروسي لأوكرانيا بنسبة معينة (نتيجة تغطية الإعلام الروسي الرسمي للأحداث على الأرجح). ويشير استطلاع آخر إلى دعم الشعب الروسي الأصغر حجماً في كازاخستان للحرب الروسية بنسبة تفوق الفئة التي تشكّل 70% من السكان وتحمل هوية عرقية كازاخستانية. هذه النتيجة تزيد احتمال أن يتحوّل التوازن العرقي الداخلي في البلد إلى خط صدع جيوسياسي. لقد أصبحت الحملة العالمية لاسترجاع ثروات كازاخستان وتجريد مؤسسات البلد من نفوذ نزارباييف قيد التنفيذ، لكن من المتوقع أن تشمل هذه المرة لاعبين دوليين أقوياء ومتنوعين أكثر مما تصوّره أشرس منتقدي نزارباييف يوماً.


MISS 3