فيليبسس بايسون أوبراين

سبب غير متداول لتعثّر الغزو الروسي

21 أيار 2022

المصدر: The Atlantic

02 : 05

كان يُفترض أن تصبح القوة الجوية من أبرز أسباب التفوق الروسي على أوكرانيا. تنشر القوات الجوية الروسية حوالى 4 آلاف طائرة مقاتلة وتملك خبرة واسعة بعد قصف مناطق عدة في سوريا وجورجيا والشيشان، وكان متوقعاً أن تلعب دوراً محورياً في الغزو الأخير، فتسمح للجيش الروسي بالتوغل في عمق أوكرانيا والاستيلاء على كييف وتدمير الجيش الأوكراني. لكن بعد مرور أكثر من شهرَين على بدء الحرب، لا تزال القوات الجوية التابعة لفلاديمير بوتين تحارب للسيطرة على المجال الجوي. قد يكون فشل القوات الجوية الروسية العامل الأهم في الصراع العسكري حتى الآن، لكن لا يتطرق إليه الكثيرون. أثبتت القوات الأوكرانية قوة مفاجئة في الحرب الجوية، وتكيّفت مع الظروف المستجدة في ظل استمرار القتال. لكن قد يتفوق أي طرف في المعركة الجوية خلال المرحلة المقبلة ويتغيّر بذلك مسار الصراع بطريقة جذرية.

قد تكون القوة الجوية حاسمة في أي حرب، لكن يصعب استعمالها بالشكل المناسب دوماً. تتكل القوات الجوية على مجموعة تقنيات تحتاج إلى طاقم عالي التدريب لتهيئة بيئة عسكرية جوية مناسبة في أسرع وقت. تتعدد العوامل المطلوبة، منها محطات رادارات محمولة جواً، ومقاتلون لحماية المجال الجوي وحراسته، وطائرات لإعادة التزود بالوقود عند الحاجة ولخوض حرب إلكترونية وكبح دفاعات العدو، ومجموعة من جامعي المعلومات الاستخبارية والطائرات الهجومية لتحديد مواقع العدو وتدميرها. تشمل هذه العمليات المختلطة مئات الطائرات وآلاف الأشخاص، ويتطلب التنسيق بين جميع المشاركين وقتاً طويلاً. لكن عند إتقان مختلف المهارات المطلوبة، تسمح هذه العمليات المتداخلة للجيش بالسيطرة على المجال الجوي وتسهيل عمل القوات البرية أو البحرية.

من سوء حظ الروس، كان تحديث القوات الجوية الروسية مجرّد استعراض، مع أن هذه الخطوة تهدف في الأساس إلى تمكين سلاح الجو من تنفيذ عمليات مشتركة وحديثة. أهدر الروس الكثير من الأموال والجهود بسبب الفساد وقلة الكفاءة. أحدثت المعدات الجديدة والمبهرجة ضجة كبيرة، بما في ذلك الطائرات الهجومية الشهيرة "سو-34"، لكن تتعامل القوات الجوية الروسية حتى الآن مع شوائب كبرى في عملياتها اللوجستية وتفتقر إلى تدريبات واقعية ومنتظمة. فوق كل شيء، لا تثق الكليبتوقراطية الروسية الاستبدادية بالضباط من ذوي الرتب المنخفضة والمتوسطة، لذا تعجز عن اتخاذ قرارات مبتكرة ومرنة كتلك التي تتكل عليها القوات الجوية التابعة لحلف الناتو.

تعني هذه المعطيات كلها أن القوات الجوية الروسية كانت تعجز عن إدارة حملة معقدة وشاملة حين بدأ الغزو. بدل السعي إلى السيطرة على المجال الجوي، قدّمت هذه القوات دعماً جوياً للوحدات الميدانية أو قصفت المدن الأوكرانية، فطبّقت بذلك تكتيكات تقليدية تستعملها القوى القارية التي تفضّل الاتكال على القوات البرية. يمكن تحقيق النتائج المنشودة عبر التركيز على القوات الميدانية إذا كان عدد الجنود غير محدود وإذا كان البلد مستعداً لخسارتهم. لكن لا تزال روسيا متعلّقة بنجاحاتها الميدانية التاريخية لدرجة ألا تدرك أهمية القوة الجوية.

في هذا السياق، يقول ديفيد ديبتولا، جنرال متقاعد في سلاح الجو الأميركي: "لم تدرك روسيا يوماً أهمية استعمال القوة الجوية إلا بهدف تقديم الدعم للقوات الميدانية. نتيجةً لذلك، لم تبتكر روسيا أو تدير أي حملة جوية استراتيجية في جميع حروبها".

تتابع الطائرات الروسية تنفيذ مهامها المباشرة، ويستعمل جزء كبير منها طائرة واحدة من دون تلقي دعم متبادل من عمليات جوية مشتركة كتلك التي تنفذها قوات الناتو الجوية المتقدمة. يطّلع الطيارون على المواقع المستهدفة، فيحلّقون سريعاً لمهاجمتها ويتكلون في حالات كثيرة على ذخائر غير مُوجّهة لمحاولة ضرب الهدف، ثم ينسحبون ويحاولون تجنّب الضربات القادرة على إسقاط طائراتهم. يتراجع إذاً هامش المناورة في تحركاتهم، فيلتزمون برغبة قادتهم في إتمام مهام محددة. هم يتلقون أوامر دقيقة ثم ينفذونها في جميع الظروف. وحتى قدرات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع الروسية التي يشيد بها الكثيرون تبدو ضعيفة على نحو مفاجئ. نادراً ما تثبت القوات الروسية قدرتها على تحديد الأهداف الأوكرانية المحتملة أو استعمال إمكاناتها الجوية لمهاجمتها بسرعة كافية وإحداث فرق حقيقي.

لكن يتعلق أهم سبب وراء فشل القوات الجوية الروسية وحذر الطيارين الروس بأداء المعارضة الأوكرانية. طوّر الأوكرانيون، على عكس أعدائهم، مفهوماً متماسكاً للعمليات الجوية، وهو يسمح لهم بإعاقة المسار الذي يُسهّل على روسيا فرض هيمنتها الجوية.

إكتسب الأوكرانيون مجموعة من القدرات الجوية والمضادة للطيران لإعاقة مسار القوة الجوية الروسية المتفوّقة من حيث الحجم. بدأ الأوكرانيون باستعمال صواريخ أرض – جو رخيصة ومحمولة باليد، فنجحوا في حصر القوة الجوية الروسية في بعض المناطق الشرقية والجنوبية وأضعفوا بذلك هامش المناورات الروسية. حتى أن الروس أصبحوا أكثر ضعفاً بعد استخدام أنظمة صاروخية أكثر قوة من نوع "إس - 300" من سلوفاكيا. نظراً إلى التهديدات التي تطرحها هذه الأنظمة، تضطر الطائرات الروسية الفردية، التي تفتقر عموماً إلى الدعم من وحدة القيادة والتحكم وتعجز عن إعادة التزود بالوقود وخوض حرب إلكترونية، للتحليق على مستوى منخفض لحماية نفسها من الهجوم. هذه العملية تجعلها أكثر عرضة لصواريخ أرض - جو المحمولة باليد. لا تستطيع أوكرانيا أن تستهدف جميع الطائرات الروسية، لكنها استعملت القدرات التي تملكها بذكاء، فجعلت الطيارين الروس يقلقون من استهدافهم في أي مكان وأجبرتهم على اتخاذ موقف دفاعي وأضعفت قوتهم.

كانت قدرة أوكرانيا على التحكم بمجالها الجوي كفيلة بحماية قواتها العسكرية، حتى أنها تمكنت من إطلاق عمليات هجومية في بعض الحالات. في المراحل الأولى من الحرب، استعمل الأوكرانيون الطائرات المسيّرة التركيـة "بيرقدار" لمهاجمة بعـــــض الأهداف المهمــة. كذلك، استخدم الأوكرانيون الطائـــرات المسيّرة لرصـد صواريخ روسية أرض – جو وتدميرها، فأصبحت القوات الروسية البرية أكثر عرضة للهجوم من الجو.

على صعيد آخر، أثبت الأوكرانيون أنهم أكثر براعة من الروس في استعمال قوتهم الجوية المحدودة بطرقٍ مبتكرة. اندهش العالم بإغراق طراد "موسكفا" الذي يشكّل جزءاً من "أسطول البحر الأسود" الروسي، ويبدو أن هذه العملية تحققت بفضل مقاربة مزدوجة وذكية. يزعم المسؤولون الأوكرانيون أنهم استخدموا مركبات جوية بلا طيار لإلهاء المعدات المضادة للطيران في طراد "موسكفا"، ثم أطلقوا صواريخ "نبتون" المحلية والمضادة للسفن قبل أن يتمكن الطاقم الروسي المرتبك من الرد.

يثبت هذا الاستعمال المبتكر للقوة الجوية أن الأوكرانيين يفهمون طبيعة العمليات الجوية أكثر من عدد كبير من دول الناتو التي لا تقدّر أهمية تفوّقها الجوي. لقد حقق الأوكرانيون هدفاً بالغ الصعوبة حين واجهوا عدواً أكثر قوة وثراءً منهم في المجال الجوي بأقل كلفة ممكنة. يجب أن يتعلم الغرب دروساً كثيرة من نجاحات أوكرانيا. يقول ديبتولا: "لقد تفوّقنا في المجال الجوي لدرجة ألا نفكر مجدداً بكيفية استخدام القوة الجوية حين نكون الطرف الأكثر ضعفاً في الصراع. تطرح تجربة أوكرانيا علينا أسئلة مثيرة للاهتمام ويجب أن نأخذها على محمل الجد لفهم ما يستطيع الخصم الذكي فعله للتغلب علينا".

قد تكشف الأسابيع المقبلة إلى أي حد يستطيع الروس التعلّم من أخطائهم والاستفادة من تفوّقهم العددي الهائل في المجال الجوي. في المقابل، من المنتظر أن تتوسّع القدرات الجوية الهجومية التي تملكها أوكرانيا قريباً. قد تسمح أحدث الطائرات المسيّرة لديها بتحسين استهداف المدفعيات طويلة المدى. في 30 نيسان، بدت نيران المدفعيات الأوكرانية قريبة من استهداف الجنرال فاليري غيراسيموف، رئيس هيئة الأركان العامة الروسية، حين كان يزور جبهة القتال. يتابع الأوكرانيون تلقي أنظمة أكثر تقدماً مع مرور الأيام، بما في ذلك طائرات مسيّرة جديدة من نوع "سويتش بليد" و"فينيكس غوست"، وهي قادرة على التحليق فوق مواقع العدو لفترة معينة قبل استخدامها لتدمير المركبات.

طالما يستمر الصراع في المجال الجوي فوق ساحة المعركة، سيتمكن الأوكرانيون من تحسين طريقة استعمالهم للقوة الجوية وتوسيع نطاقها. قد لا يفوزون في الحرب بطريقة مباشرة، لكن سبق وأحدثوا ثورة كبرى في طريقة خوض الحروب المقبلة.


MISS 3