إختراق الواتساب... تقنّية إسرائيل للتجسّس!

01 : 25

في وقتٍ سابق من هذه السنة، بدأ هاتف فوستين روكوندو يرنّ في أوقات غريبة. كانت المكالمات تجري دوماً عبر تطبيق واتساب، وتَرِد أحياناً من رقم اسكندنافي أو تكون على شكل مكالمة فيديو. لكن كان المتّصل يقفل الخط قبل أن يتمكن روكوندو من الرد. وحين يتصل بذلك الرقم مجدداً، لا أحد يجيب.روكوندو مواطن بريطاني يقيم في "ليدز"، ومن المبرر أن يشكّ بحصول أمر مشبوه. بصفته عضواً في مجموعة المعارضة الرواندية في المنفى، عاش لسنوات عدة في خوفٍ دائم من الأجهزة الأمنية التابعة لوسط إفريقيا، مسقط رأسه.

في العام 2017، اعتُقِلت زوجته التي تحمل الجنسية البريطانية أيضاً، واحتُجزت لشهرين في رواندا حين عادت لحضور جنازة والدها. يقول روكوندو إن رجالاً مجهولين ببذلات سوداء عمدوا سابقاً إلى الاستفسار من زملائها في العمل عن الطريق الذي تسلكه نحو مكان عملها في مركز لرعاية الأطفال. حتى أن اسمه وَرَد على لائحة شائعة لأعداء حكومة رواندا بعنوان "لائحة من يجب أن يُقتَلوا فوراً".

بعد عقدَين على تولي بول كاغامي رئاسة رواندا، اختفى عشرات المعارضين أو قُتِلوا في ظروف غامضة حول العالم. رداً على تلك الأحداث، يقول كل من هم مستعدون لانتقاد النظام أو تنظيم تحركات ضده، على غرار روكوندو، إنهم تعلموا توخي الحذر، لذا يخفون حضورهم على الإنترنت ويستعملون خدمات الرسائل المشفرة، مثل واتساب.

لكن كانت المكالمات الفائتة عبر واتساب أكثر خطورة. لم تكن تلك المكالمات مبنية على تقنية نشأت في رواندا بل في إسرائيل، وهي من نوع "بيغاسوس"، برنامج تجسس شامل وفاعل لدرجة أن الحكومة الإسرائيلية تُصنّفه كسلاح بحد ذاته. تولّت شركة "إن إس أو" في "هرتسليا" تطوير "بيغاسوس" وبيعه. هذه الشركة مملوكة جزئياً من مجموعة خاصة في بريطانيا اسمها "نوفالبينا كابيتال". صُمّم "بيغاسوس" في الأصل لاختراق هواتف مثل هاتف روكوندو، فيبدأ بنقل موقع صاحب الهاتف ودردشاته المشفّرة وخطط سفره، وحتى أصوات الأشخاص الذين يقابلهم، إلى خوادم منتشرة حول العالم.

منذ العام 2012، صمّمت مجموعة "إن إس أو" طرقاً متنوعة لاستعمال "بيغاسوس" في الهواتف المستهدفة، وقد فعلت ذلك أحياناً عبر إرسال رابط خبيث في رسالة نصية، أو عبر موقع إلكتروني يُعاد توجيهه لتلويث الجهاز. لكن بحلول شهر أيار من هذه السنة، طوّرت الشركة طريقة جديدة عبر استغلال ثغرة أساسية في واتساب الذي يستعمله 1.5 مليار شخص حول العالم، وذلك لنشر "بيغاسوس" خلسةً. لا حاجة كي يجيب المستخدم على الهاتف، إذ يستعمل البرنامج الشوائب في نظام تشغيل الجهاز فوراً لتحويله إلى أداة للتجسس السري.

نجح واتساب سريعاً في سد تلك الثغرة وأطلق تحقيقاً على مدى ستة أشهر لاستكشاف مظاهر استغلال منصاته. حصل التحقيق بشكلٍ سرّي وكشف للمرة الأولى نطاق (وطبيعة) عمليات المراقبة التي سمحت بها مجموعة "إن إس أو".

في الأيام الأخيرة، بدأ مختبر "سيتيزن لاب"، الذي يدرس تقنيات المراقبة الرقمية حول العالم في جامعة تورونتو ويتعاون مع واتساب، بإبلاغ الصحافيين والناشطين في مجال حقوق الإنسان وأعضاء آخرين من المجتمع المدني، على غرار روكوندو، بأن برنامج التجسس يستهدف هواتفهم. كما أنه قدّم المساعدة اللازمة للدفاع عنهم مستقبلاً.

تقول مجموعة "إن إس أو" (بلغت قيمتها مليار دولار وفق عملية استحواذ مدعوم بالقروض، تحت إشراف شركة "نوفالبينا" في شهر شباط) إنها تبيع تقنيتها بكل بساطة لعملاء يتم انتقاؤهم بحذر وتُستعمَل لمنع العمليات الإرهابية والجرائم. كما تؤكد على احترامها لحقوق الإنسان وتجري تقييماً شاملاً لحالات سوء استعمال منتجاتها من جانب العملاء، حتى أنها تراجع سجلات حقوق الإنسان الماضية ومعايير الحكم في البلدان المعنية. لذا تظن الشركة أن الادعاءات المرتبطة بسوء استخدام منتجاتها ترتكز على "معلومات مغلوطة".

لكن يُضعِف تحقيق واتساب الداخلي فاعلية ذلك التدقيق. قبل أسبوعين تقريباً على سد الثغرة في واتساب، تم استهداف 1400 شخص حول العالم على الأقل من خلال مكالمات فائتة على المنصة، منهم 100 عضو من المجتمع المدني.

أعلنت شركة "واتساب": "هذا النمط من الاستغلال لا لبس فيه. لا بد من فرض رقابة قانونية فاعلة على الأسلحة الإلكترونية كتلك المستعملة في هذا الهجوم، لمنع استخدامها لانتهاك الحقوق والحريات الفردية التي يستحقها الناس في كل مكان. وثّقت جماعات حقوق الإنسان نزعة مقلقة تشير إلى استعمال أدوات مماثلة لمهاجمة الصحافيين والمدافعين عن حقوق الإنسان".

وفق جون سكوت رايلتن، باحث مرموق في مختبر "سيتيزن لاب"، تشمل الجهات المستهدَفة أشخاصاً من 20 بلداً على الأقل، في أربع قارات، وتكثر الأدلة التي تثبت أن محاولات الاختراق لا ترتبط بمنع العمليات الإرهابية. على لائحة الأفراد المستهدفين الذين رصدهم تطبيق واتساب، يرتفع عدد الأشخاص من رواندا. لكن رفضت حكومة رواندا التعليق على الموضوع.

بالإضافة إلى روكوندو، استُهدِف من رواندا صحافي منفي في أوغندا ناشَد الحكومة في كامبالا أن تحمي الروانديين في البلد من الاغتيال، وعضو بارز في "المؤتمر الوطني الرواندي" (جماعة المعارضة في المنفى)، وضابط جيش هرب من بلده في العام 2008 وشهد ضد أعضاء حكومة رواندا في محكمة فرنسية في العام 2017.

أبلغ مختبر "سيتيزن لاب" بلاسيد كايومبا، عضو في حزب "قوات رواندا المتحدة الديموقراطية" المُعارِض في بلجيكا، أن هاتفه مستهدف، فقال: "إنه انتهاك فاضح. هذا الوضع ليس مخيفاً بسبب المعلومات التي تبادلتُها مع الناشطين في مجال حقوق الإنسان والسياسيين فحسب، بل بسبب نشاطاتي الخاصة ومحادثاتي مع عائلتي وأصدقائي والتفاصيل الشخصية التي أتقاسمها عبر الهاتف".

لم يستطيع تحقيق واتساب أن يحدد البلدان التي تُشغّل تقنية "إن إس أو"، بل اكتفى بكشف أرقام المستهدفين. يقول المعارضون الروانديون الذين وقعوا ضحية التجسس إن حكومتهم حتماً مسؤولة عما حصل.


يضيف فرانك نتوالي، عضو بارز في "المؤتمر الوطني الرواندي" في جنوب إفريقيا تبلّغ من مختبر "سيتيزن لاب" أن هاتفه مستهدف: "نحن نخضع للمراقبة طوال الوقت. هذا النظام الإجرامي يحاول إسكات منتقديه".

يحظى الزعيم كاغامي، رئيس رواندا في آخر 19 سنة، باحترام الناس ويثير خوفهم في الوقت نفسه. فهو من قاد جيش الثوار الذي استلم الحكم في العام 1994 وأنهى بذلك حقبة الإبادة الجماعية التي أسفرت عن مقتل 800 ألف شخص خلال أسابيع. ثم جدّد الاستقرار في رواندا، ويدّعي اليوم أنه يدير اقتصاداً مزدهراً، حيث يفوق النمو السنوي عتبة 7%.

في المقابل، يقول النقاد إن كاغامي، الذي انتُخِب لولاية ثالثة في العام 2017 بنسبة 99% من الأصوات، حاول إسكات معارضي حزب "الجبهة الوطنية الرواندية" الذي ينتمي إليه، داخل البلد وخارجه. بدءاً من العام 1996، حين قُتل تيونيست ليزيندي، عقيد في "الجبهة الوطنية الرواندية"، بطلق ناري في نيروبي، قُتِل أو أصيب سبعة روانديين على الأقل (معظمهم أعضاء سابقون في النظام) خلال اعتداءات منظّمة خارج رواندا، وفق منظمة "هيومن رايتس ووتش".

وحتى قبل اختراق واتساب، حذرت الشرطة البريطانية في لندن ناشطاً رواندياً واحداً على الأقل (أصبح الآن مواطناً بريطانياً) من مؤامرة لقتله. كشف مواطنون روانديون آخرون أنهم تبلغوا بوجود تهديدات على حياتهم في فرنسا وبلجيكا وكندا. ويقول المستهدَفون إن برنامج التجسس "بيغاسوس" كان أحدث أداة تستعملها الحكومة لمراقبتهم بكل بساطة.

في ربيع 2019، بدأ مواطن رواندي آخر اسمه ديفيد باتنغا، يلاحظ مكالمات فائتة عبر واتساب على هاتفه. تعرف حكومة رواندا باتنغا جيداً، فهو وجد جثة عمه باتريك كاريغيا (رئيس استخبارات رواندي سابق ومؤسس "المؤتمر الوطني الرواندي") في غرفة فندق في جنوب إفريقيا، في كانون الثاني 2014. مات كاريغيا هناك مخنوقاً. وفي شهر آب، أصدر قاضٍ جنوب إفريقي مذكرة توقيف بحق شخصَين روانديَين من أصل أربعة مشتبه بهم، بعدما أدلى ضابط شرطة بشهادته في تحقيق ربط جريمة القتل بحكومة كاغامي.

يشعر باتنغا بالقلق من طريقة استعمال المعلومات المسروقة من هاتفه عبر برنامج "بيغاسوس". فهو شارك في تنظيم رحلة لشخص رواندي يقيم في بلجيكا خلال شهر آب، ثم اختفى بعد بضعة أيام على وصوله إلى عاصمة أوغندا، كامبالا، وذلك رغم اتخاذه التدابير الوقائية اللازمة، مثل الانتقال إلى منازل آمنة.

يقول لويس مودج، مدير منظمة "هيومن رايتس ووتش" في إفريقيا الوسطى مُنِع من دخول رواندا في السنة الماضية، إن المراقبة الرقمية تتابع تطبيق نمط معروف من الترهيب الدولي.

لطالما أعلنت مجموعة "إن إس أو" أنها تراجع هوية عملائها بدقة، بما في ذلك سجل حقوق الإنسان في بلدانهم، وأنها لا تبيع منتجاتها إلا بعد موافقة الحكومة الإسرائيلية. لكن يطرح استعمال "بيغاسوس" ضد الناشطين الروانديين، وعشرات الآخرين حول العالم، أسئلة جدّية حول عملية انتقاء العملاء والادعاءات المتعلقة بإلغاء العقود عند رصد أي استعمال شائب.

تتعهد الشركة، في موادها التسويقية، بالتفوق على الدفاعات التي تستهدف تطبيقات مثل واتساب و"آبل"، وتَعِد عملاءها بأن تبقى مدة توقف البرامج محدودة فيما تعمل شركات التكنولوجيا على سد الثغرات القائمة.

أعلنت شركة "آبل" في بيان لها أنها تقدّم المنصة الأكثر أماناً في العالم وتقوم بالتحديثات اللازمة في أسرع وقت ممكن لحماية أجهزة "آي فون".

وبعدما سارع واتساب إلى سد الثغرة في شهر أيار، انتقلت شركة "إن إس أو"، التي تنشط عموماً عبر شركات تابعة لها خارج إسرائيل، على غرار "كيو تكنولوجيز"، إلى طرق جديدة لتشغيل برنامج التجسس.

وفق مصدر مطّلع على تقنيات "إن إس أو"، ارتكزت الوسيلة الجديدة في البداية على ظهور نافذة منبثقة ودائمة تشبه نظام التنبيه على جهاز "آي فون" عبر "تحديث إعدادات النقل". في شهر آب، أعلنت شركة "آبل" عن إصلاح شامل لنظامها التشغيلي OS13 المُصمَّم لحماية خصوصية المستخدم. لكن خلال أيام قليلة، قال المصدر نفسه إن "إن إس أو" تباهت بنجاحها في اختراق تلك الدفاعات أيضاً.


MISS 3