جولي مراد

مهلاً يا أبي

1 تموز 2019

10 : 13

مهلاً يا أبي. قبل أن تطهّر بدني وتحضّره للكفن، تمهّل لحظة. تأمّل في الفجوة التي أحدثتَها ببندقيتك في رأسي الفتيّ. حدّق جيداً. لا تُشِح بنظرك بعيداً. أتراني وراء الثقب الأجوف أنوء بحمل حقيبةٍ حشوتموها بكتبٍ وجِدَت لتمدّني حياةً لكنّكم أردتموها عبئاً يُحني هامتي؟ سمعتُك وأنا مُمدّد على سرير الموت في المستشفى تصبّ جام غضبك على مَن قرّر تخويفي بكاميراتٍ قضّت مضجعي. حملني صراخُك المُستنكِر الى اللحظة الملعونة تلك. لم تهدّئ حينها مِن روعي. لم ترَ الوحش القابع في ذهني يُطلي أفكاري بسوادٍ حالكٍ مُنذِراً بهلاكي. كنتَ مُنشغلاً بسوادٍ آخر: سواد البشر. أردتَني "الأول" كي ترفع رأسَك بين الناس، وتنشر صوري على "وسائل التواصل" مُفتخراً بابنك البار متفوّقاً على أترابه "الأقلّ منه شأناً". كي يتسنّى لك تفريغُ رصاصات ابتهاجك في الفضاء الرحب، تماماً كما كنتَ تُفرّغ سخطَك فيّ كلّما ألمّت بِك مصائبُ الحياة. مهلاً يا أبي. لا تتسرّع. وسِّع دائرة الاتهام قليلاً، بل ربّما كثيراً. في الفجوة مجتمعٌ بأكمله: كبارٌ وصغار، نساءٌ ورجال، مثقّفون وأميون، استساغوا لُغة "التعالي"، استذوقوا تقسيم البشر بين "ناجحٍ وفاشل"، امتهنوا "التنمّر"، صفّقوا لـ"سباق الأول" المحموم، قدّموا "المظهر" على حساب "الجوهر".
في الفجوة سياسيّون سرقوا منا الملاعب والحدائق، استملكوا الشواطئ، سمّموا طعامنا وهواءنا، لوّثوا الأنهر والينابيع، سرقوا منا ألوان الطفولة، فبتنا لا نجد رقعةً تأوي أحلامنا اليانعة. في الفجوة وحشٌ من الأميّة والتخلّف وأطفالٌ يشبّون على أفكارٍ ظلامية، ونظامٌ تعليميّ أرعن جاهل. في الفجوة "إعلامٌ" يلهثُ لنقل الفواجع بمكيال "الإثارة" الوقح.
مهلاً يا أبي لا تلُم بندقيتَك. لا تحصُر اتهامك بكاميرات الامتحان، فها أنا الآن أرى آلات القتل عينَها تقتحمُ غرفتي بأحجامٍ أكبر محمّلةً على الأكتاف، تجتاحُ عزلتي فيما أصارع الموت ببدنٍ هزيل. ها هي تنهش سكوني وحُرمة لحظاتي الموجعة للسماح لجمهورٍ أبله بالتلصص عليّ، من وراء "الثقب"، فيما ألفظُ نفسي الأخير. مهلاً يا أبي... قبل أن أرحل حدّق في الفجوة قليلاً... حدّق طويلاً... أرأيتَ الآن من أطلق الزناد؟