ميشيل فلورنوي

إستعداد مسبق لنسخة جديدة من أحداث أوكرانيا

4 حزيران 2022

المصدر: Foreign Affairs

02 : 02

جندي أوكراني بجوار آلية عسكرية خارج كييف
لا يمكن توقّع نهاية الحرب الروسية الوحشية وغير المبررة ضد أوكرانيا منذ الآن. لكن من الواضح أن الجيش الروسي قدّم أداءً سيئاً على نحو صادم خلال المرحلة الأولى من الحرب. أما الجيش الأوكراني، فكان أداؤه أفضل مما توحي به قدراته. لن تكفّ القوى التي تفكّر بإطلاق عدوان مماثل عن مراقبة إخفاقات روسيا منعاً لارتكاب الأخطاء نفسها. في المقابل ستصبح أوكرانيا قدوة للدول المُهددة، فتتعلم منها كيفية التصدّي لخصمٍ أكبر حجماً وأكثر جهوزية.

تستطيع الولايات المتحدة أيضاً أن تستخلص دروساً مهمة من هذه التجربة. يجب أن يفكر قادة الدفاع الأميركي بتأثير حرب أوكرانيا على طريقة تقييم القدرات العسكرية لدى الخصوم مستقبلاً وكيفية استخدام تكتيكات غير متكافئة لإضعاف قوة الأعداء واستغلال نقاط ضعفهم. قد تتعرّض الجيوش التي يديرها قادة لا يتحملون أي اعتراض أو يشككون بالفرضيات لمجموعة مشاكل، بدءاً من سوء التقدير الاستراتيجي وشوائب الخدمات اللوجسية، وصولاً إلى سوء القيادة في ساحات المعارك وتراجع معنويات الجنود. إنها نقطة ضعف منهجية في الأنظمة الاستبدادية، لكن قد تصبح دول أخرى معرّضة لها. كذلك، قد تجد الجيوش التي لم تشارك في معارك حقيقية صعوبة في تدريب قواتها العسكرية على الظروف الميدانية خلال الحرب، أو القتال كقوة مشتركة، أو التكيّف في الوقت الحقيقي مع تكتيكات العدو غير المتكافئة.

بعد تجربة أوكرانيا، حصلت واشنطن على نموذج عملي لتقوية قدرة حلفائها وشركائها على الدفاع عن أنفسهم أو ردع أي صراعات مستقبلية محتملة. لكن يجب ألا تنتظر الولايات المتحدة أن تُهدد دولة قوية أخرى جارتها الأصغر حجماً كي تطبّق الدروس المستخلصة من هذه الحرب.

منذ العام 2014، بدأت الولايات المتحدة ودول غربية أخرى تزوّد أوكرانيا بمعدات عسكرية أكثر تطوراً وفتكاً من تلك التي كانت تملكها سابقاً. ثم قدّمت واشنطن مساعدات عسكرية تفوق قيمتها المليارَين ونصف المليار دولار خلال المرحلة الراهنة. اعتبر كثيرون هذه المساعدات غير كافية من حيث النوعية أو الكمية. لكن عوّض الشركاء الغربيون عن هذا النقص عبر زيادة المعدات العسكرية الأساسية بدرجة كبيرة منذ شهر شباط الماضي. أرسلت الولايات المتحدة وحدها مساعدات عسكرية تفوق قيمتها الثلاثة مليارات دولار، منها 1400 صاروخ مضاد للطائرات من نوع "ستينغر"، و5100 صاروخ مضاد للدبابات من نوع "جافيلين"، فضلاً عن مروحيات "مي-17"، وزوارق للدوريات، وأنظمـــــة رادارات مضادة للمدفعية والطائرات المسيّرة، ومدرّعات، وبنادق، وخوذات، وقنابل عنقودية، ومتفجرات "سي فور"، وسفن دفاعية ساحلية. في الوقت نفسه قدّمت كندا، وألمانيا، وبريطانيا، ودول أخرى، أسلحة وإمدادات بقيمة مئات ملايين الدولارات. زادت سهولة إرسال المعدات العسكرية في آخر ثلاثة أشهر لأن أوكرانيا تتقاسم حدوداً برية مع دول الناتو بعيداً عن حدودها مع روسيا. لكن قد لا تكون هذه الميزة الجغرافية الإيجابية جزءاً من الصراعات المستقبلية، لذا تبقى المساعدات الأمنية الاستباقية ضرورية لتجنب المواقف التي تجعل الأميركيين وحلفاءهم يتخبطون لسد الثغرات بعد اندلاع الأزمة.

لكن يتعلق عامل مهم آخر بطريقة استخدام تلك المعدات في أوكرانيا. قد يراجع المؤرخون العسكريون هذه الحرب مثلاً ويعتبرونها نقطة تحوّل في طرق استعمال الطائرات المسيّرة في ساحة المعركة، فقد انتشرت آلاف الطائرات الاستطلاعية والفتاكة في المجال الجوي الأوكراني وضربت أهدافاً مدرّعة مقابل جزءٍ بسيط من كلفة الأنظمة التقليدية. لكن كان الأميركيون وحلفاؤهم يستطيعون تحسين جهودهم لتحضير قوات الدفاع الأوكرانية لهذه الحرب. ترددت دول عدة في تقديم مساعدات فتّاكة إلى كييف قبل بدء الغزو الروسي، ما يعني أن القوات الأوكرانية اضطرت للمشاركة في دورات مكثّفة حول طريقة تشغيل المعدات الجديدة قبل أيام أو حتى ساعات من استخدامها في المعارك. هذا الوضع ليس مثالياً طبعاً، وقد يكون هذا النوع من التعليمات في اللحظات الأخيرة مستحيلاً في الصراعات المستقبلية. لهذا السبب، يجب أن تُنظَّم تدريبات مستهدفة قبل وقتٍ طويل من اندلاع الصراع.

استفادت أوكرانيا أيضاً من إصرارها على الفوز في هذه الحرب لأسباب وجودية ومن قوة العزيمة التي اكتسبتها لتحقيق هذا الهدف. يبقى القتال في سبيل الدفاع عن العائلة والوطن من أقوى الدوافع على الإطلاق. في المقابل، لا يفهم عدد كبير من الجنود الروس السبب الذي دفع روسيا إلى إطلاق هذه الحرب، ويرتبط بعضهم بعلاقات عائلية وثقافية مع أوكرانيا. لا مفر من أن يتّضح هذا التفاوت في قوة العزيمة في ساحة المعركة. ليس مفاجئاً إذاً أن يرفض مقاتلون متمرسون من "مجموعة فاغنر" (مرتزقة روس معروفون بتكتيكاتهم الوحشية في ليبيا وسوريا) القتال في أوكرانيا، وفق بعض التقارير الإعلامية. حتى أن استعداد الشعب الأوكراني لمقاومة العدوان الروسي ضاعف الدعم الدولي الذي يُحقق نتائج ملموسة، بدءاً من المساعدات الأمنية والمعدات العسكرية، وصولاً إلى المساعدات الاقتصادية والإنسانية والعقوبات الهائلة ضد روسيا. باختصار، تحمل إرادة القتال أهمية كبرى على مستويات عدة.

تشكّل مساهمات الأميركيين وحلفائهم في النجاح الأوكراني حتى الآن نموذجاً يمكن تكراره في الصراعات المستقبلية. كانت طريقة إدارة بايدن في استعمال المعلومات الاستخبارية من الأمور اللافتة مثلاً. عجز الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن تضليل الرأي العام لتبرير الحرب بعد الكشف عن معلومات سرية في مرحلة مبكرة من الأزمة لمحاربة الحملة الدعائية الروسية. وتمكنت واشنطن من حشد تحالف دولي واسع وفاعل عبر تقاسم المعلومات الاستخبارية مع شركائها، فتمكّن حلفاؤهـا من إجراء تقييم مشترك للتهديدات المطروحـة. وإذا كانت التقاريــر الإعلامية التي تذكر أن الولايات المتحدة قدّمت معلومات استخبارية إلى القوات الأوكرانية صحيحة، يعني ذلك أن واشنطن حسّنت أداء أوكرانيا في ساحة المعركة وسمحت لها بكبح التقدم الروسي واستهداف معاقل القوة الروسية.

بعيداً عن تقاسم المعلومات الاستخبارية، أعطت المشاورات المكثفة بين إدارة بايدن وحلفائها ثمارها خلال المرحلة الأولى من الرد على الغزو الروسي. سمح التعاون المكثّف على مستوى السياسات والخدمات اللوجستية بتوحيد الصفوف عبر الأطلسي لدعم تشديد العقوبات وتنسيق عمليات إرسال المعدات العسكرية لسد الثغرات الأساسية في ترسانة أوكرانيا، بدءاً من أنظمة الدفاع الجوي روسية الصنع من دول شرق أوروبا، وصولاً إلى المدفعيات، وقذائف الهاون، والذخائر، والصواريخ المضادة للسفن، والطائرات المسلّحة بلا طيار، والمركبات المدرّعة من دول أخرى. كذلك، زادت سهولة استعمال المعدات الجديدة خلال وقتٍ قياسي بفضل التنسيق القائم في خطوط الإمدادات المتعددة بين دول الناتو وأوكرانيا. لكن رغم نجاح حملة المساعدات العسكرية لصالح أوكرانيا، اتّضحت نقاط ضعف معيّنة في القاعدة الصناعية للدفاع الأميركي: استُنزِفت مثلاً مخازن الصواريخ المضادة للطائرات «ستينغر» ويتطلب استبدالها بعض الوقت. يجب أن تقوي واشنطن أضعف الروابط أيضاً، لكن يمكنها أن تعتبر أوكرانيا نموذجاً ناجحاً للتنسيق المكثّف بين مختلف الأفرقاء.

الأهم من ذلك هو استمرار دعم الولايات المتحدة والحلفاء لأوكرانيا بالقوة نفسها من دون افتعال حرب أوسع نطاقاً بين روسيا وحلف الناتو. هدّد القادة الروس باستعمال الأسلحة النووية، ومع ذلك بقي الرد الأميركي هادئاً ومدروساً. حافظت واشنطن والناتو على مواقف حذرة في ما يخص تورّطهما العسكري ورفض الاقتراحات المرتبطة بفرض منطقة حظر جوي لتجنب أي احتكاك مباشر مع القوات الروسية. لكن أكّد الطرفان في الوقت نفسه التزامهما بالدفاع عن «كل شبر» من أراضي الناتو. سيكون الوقت كفيلاً بتحديد قابلية استمرار هذا التوازن. إذا تبيّن أن القوات الروسية تتجه إلى الهزيمة واستعمل بوتين أسلحة نووية تكتيكية أو كيماوية لاسترجاع زمام المبادرة، أو إذا أخطأت روسيا في حساباتها واستهدفت خطوط الإمدادات داخل أراضي الناتو، سيصبح موقف الحلف المدروس قيد الاختبار بعد هذا التصعيد المباشر.

إذا أراد الأميركيون وحلفاؤهم أن يزيدوا قدراتهم على منع أو هزم أي اعتداءات مستقبلية من جانب الصين وروسيا أو دول استبدادية أخرى، يمكنهم أن يستخلصوا دروساً كثيرة من الحرب في أوكرانيا. في المقام الأول، يوضح المسار الأولي لهذه الأزمة أن واشنطن مُلزَمة بتعزيز إمكاناتها لمنع العدوان وتقوية قدرة شركائها المعرّضين للخطر على الدفاع عن أنفسهم قبل أن يلوح الصراع في الأفق. يجب أن تتسارع المساعدات الأمنية إذاً وتُركّز على تأمين قدرات غير متماثلة، شرط ألا تكون استفزازية بطبيعتها بل تُحوّل الشركاء الضعفاء إلى أطراف شائكة يصعب مهاجمتها من دون تكبّد كلفة عالية.

يمكن تطبيق هذه الدروس كلها في ملف تايوان، إذ تفكر القيادة الصينية بإطلاق تحرك عسكري مستقبلي لغزو الجزيرة. يجب أن تتزامن حملة تقوية الردع الأميركي في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ مع مساعدة تايبيه على تقوية دفاعها متعدد الطبقات، بدءاً من مقارباتها البحرية والجوية وصولاً إلى الأمن الإلكتروني وأمن مدنها الكبرى. في الوقت نفسه، يجب أن تقدّم واشنطن المزيد من القدرات الدفاعية الأساسية، بما في ذلك الصواريخ المضادة للسفن، والألغام البحرية، والدفاعات الجوية والصاروخية. ويُفترض أن تقدّم أيضاً تدريبات مضاعفة لحركات التمرد والمقاومة الشعبية كي تتمكن تايوان من كسب الوقت ويتسنى للمجتمع الدولي أن يطلق رداً فاعلاً في حال قررت الصين مهاجمة الجزيرة.

في أوكرانيا، نجحت الدول الغربية في التحرك سريعاً وسد الثغرات القائمة عبر تقديم المساعدات العسكرية بعد بدء الغزو الروسي. لكن لا يمكن الاتكال على ظروف إيجابية من هذا النوع في الصراعات الأخرى. مع استمرار هذه الحرب، يجب أن يفكر الأميركيون وشركاؤهم بكيفية منع الصراع المقبل أو التفوّق فيه عند الحاجة. لكن يُفترض أن يدركوا أولاً أن خصومهم يستخلصون دروساً خاصة بهم من تجربة أوكرانيا أيضاً.