جاكوب هيلبيرغ

الولايات المتحدة لا تستطيع متابعة الاتكال على الصين

8 حزيران 2022

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

سفن حربية إيرانية وروسية وصينية خلال مناورة عسكرية مشتركة في المحيط الهندي - 21 كانون الثاني 2022
منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، تخبّطت أوروبا وتعثّرت مراراً في خضم محاولاتها الرامية إلى وقف اتكالها المفرط على مصادر الطاقة الروسية. في هذا السياق، قال رئيس الوزراء البريطاني السابق، توني بلير: "أوروبا تعلّمت درسها، وهي تتجه إلى تغيير سياسة الطاقة فيها بطريقة جذرية. لا أحد يريد أن يواجه الموقف الشائك نفسه، حيث يحتدم الصدام بين ما نحتاج إلى فعله ومستوى اتكالنا على مصادر الطاقة الروسية". كذلك، اصطدم رئيس الوزراء الألماني، أولاف شولتس، بالوقائع المشتقة من عكس مسار السياسة التجارية المعتمدة في الاتحاد الأوروبي منذ عقود، مقابل كلفة قد تصل إلى 300 مليار دولار تقريباً، لذا كرر شولتس موقف بلير وأضاف قائلاً: "لن تكون هذه المهمة سهلة طبعاً لأنها تحتاج إلى إنشاء البنية التحتية المناسبة أولاً".

يعرف الكثيرون أن المجتمعات تدفع ثمن خياراتها حين تصل سياساتها إلى حالة من الجمود مراراً، رغم النوايا الحسنة التي تحملها، وعندما تردّ على المؤشرات التحذيرية التي يطلقها الحكام المستبدون ذات الطموحات العالمية. لا يمكن فصل الاقتصاد الكلي عن الظروف الجيوسياسية إلى أجل غير مُسمّى. يجب أن تتنبه الولايات المتحدة لهذه الدروس وتعيد صياغة علاقتها الاقتصادية مع القوى الاستبدادية الوحشية الأخرى بطريقة استباقية، وعلى رأسها الصين.

قد يؤدي أي غزو صيني لتايوان إلى ظهور الأسئلة الوجودية نفسها حول اتكال الولايات المتحدة على سلاسل الإمدادات الصينية، مثلما تتكل أوروبا على مصادر الطاقة الروسية. ستكون الفوضى الاقتصادية المرتقبة هائلة، وقد يصعب تطبيق الحلول المناسبة خلال المهلة الزمنية الضيقة التي تفرضها الأزمة الناشئة. حتى أن الولايات المتحدة قد تعجز عن تأمين أشباه الموصلات، والأدوية الأساسية، وعدد هائل من السلع الأخرى التي يحتاج إليها الأميركيون في حياتهم اليومية.

لنفكر للحظة بما قد يحصل إذا عجزت إحدى الشركات البارزة، مثل "آبل"، عن الوصول إلى خطوط إنتاج أجهزة "آي فون" في الصين فجأةً. تتراوح قيمة "آبل" بين 2 و3 تريليون دولار، وتستثمر صناديق الاستثمار الأميركية الأربعة الأساسية أكثر من مئة مليار دولار في تلك الشركة. كذلك، توظّف "آبل" أكثر من مليونَي أميركي في مختلف الولايات، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. لنتخيل الآن أن يمتد هذا الأثر إلى عدد من الشركات الكبرى.

غالباً ما يقول المدافعون عن الصين إن هذه الكلفة الهائلة تبرّر عدم اتخاذ أي خطوة لوقف العدوان الصيني. تستطيع الصين إذاً أن تقوم بكل ما تريده طالما يتّكل الاقتصاد الأميركي عليها. لكن برأي المعسكر الآخر، لا يقضي الحل بالتساهل مع عدوان الصين أو انتهاكاتها الفاضحة لحقوق الإنسان، بل يجب أن يبذل المسؤولون قصارى جهدهم لفك ارتباطهم عنها في أسرع وقت ومنح الولايات المتحدة حرية التصرف للدفاع عن النظام العالمي وقِيَمه، وإلا قد تصل واشنطن في نهاية المطاف إلى الوضع الذي تواجهه برلين اليوم، إذ تتعرّض القيادة المتغطرسة هناك لموجة مفاجئة من الاستياء العام وتجد صعوبة في إدارة العواقب الاقتصادية.

اليوم، تحوّلت واردات التكنولوجيا قليلة الكلفة من الصين إلى نقطة ضعف كبرى في الأمن القومي. تترسخ هذه المشكلة أيضاً بسبب نزعة الصين إلى استغلال مزايا سوقها لإجبار الشركات الأميركية على الالتزام بإملاءاتها والتصرف بطريقة تسيء إلى المصالح الأميركية. في مجال التكنولوجيا، يُعتبر اتفاق شركة "آبل" السري مع الحزب الشيوعي الصيني لاستثمار 275 مليار دولار في القطاعات الاستراتيجية التي تفيد جيش التحرير الشعبي واحداً من أمثلة متعددة على توسّع هذه النزعة. وفي مجال الرياضة والترفيه، بدأ التأثير الصيني على المؤسسات الثقافية الأميركية المعروفة يكبح حرية التعبير في الولايات المتحدة وجميع أنحاء العالم.

تتكل شركات إنتاج الأفلام الأميركية على مبيعات التذاكر في الصين، علماً أنها تتجاوز اليوم عدد التذاكر التي تباع في أميركا الشمالية، وهذا ما يمنح أجهزة الرقابة الصينية سيطرة خارجية على العبارات المسموحة والممنوعة في الأفلام التي يشاهدها الأميركيون يومياً. لم يصدر أي فيلم أميركي ضخم ينتقد الصين منذ Seven Years in Tibet (سبع سنوات في التبت) قبل ربع قرن. على صعيد آخر، يمكن التساؤل عن سبب تراجع مسيرة الممثل ريتشارد غير بعدما أدان احتلال بكين لتلك المنطقة. ولماذا اضطر صانعو فيلم Red Dawn 2 (الفجر الأحمر 2) لتعديل محتوى العمل على المنصات الرقمية واعتبار الكوريين الشماليين الأشرار في القصة بدل الصينيين؟ وفي الفترة الأخيرة، قررت شركة "تنسنت" فجأةً سحب تمويلها للفيلم الناجح Top Gun: Maverick من إنتاج شركة "باراماونت" لأنه عرض صورة العلم التايواني، ما يثبت أن بكين لا ترفض انتقاد الحزب الشيوعي الصيني فحسب، بل إن الاحتفال بإنجازات الجيش الأميركي يستحق الرقابة أيضاً. لم يتحدد تاريخ صدور هذا الفيلم في الصين طبعاً.

لكنّ هوليوود ليست المؤسسة الأميركية الأسطورية الوحيدة التي تدين بالكثير لبكين. يقال إن الرابطة الأميركية لكرة السلة تُشغّل أكثر من 5 مليارات دولار في الصين، ويملك أصحابها أصولاً مرتبطة بذلك البلد بقيمة 10 مليارات دولار، ما يُجبِر الرابطة على التدخل حين ينتقد اللاعبون أو مدراء الفِرَق قمع الحزب الشيوعي الصيني. يرحّب الحزب الصيني الحاكم بالانتقادات الموجّهة للحكومة الأميركية حين يركع اللاعبون على وقع النشيد الوطني، لكنه يحتجّ بأعلى الصوت عندما ينتعلون أحذية رياضية عليها رسوم تُمثّل الإيغوريين. أُعيقت مسيرة أحد اللاعبين في الرابطة الأميركية لكرة السلة بعد إقدامه على خطوة مماثلة. كذلك يواجه تطبيق "تيك توك"، الذي يستعمله عشرات ملايين الأميركيين يومياً وتملكه شركة صينية، تُهَماً باستخدام أنظمة حلول حسابية لتسويق خطابات داعمة للحزب الشيوعي الصيني. في غضون ذلك، بدأت التجارة مع بكين تُغيّر الولايات المتحدة بدل أن تُعدّل تصرفات الصين، ويتعارض هذا الوضع مع الوعود التي أطلقها صانعو السياسة حين انضمّت بكين إلى منظمة التجارة العالمية منذ عشرين سنة.

للأسف، كانت الأدوات التي تستعملها الولايات المتحدة للتعامل مع شريكة تجارية كبرى تُعتبر في الوقت نفسه من أبرز خصومها الجيوسياسيين قد نشأت في عالمٍ مختلف، حيث يسهل التمييز بين الحرب والسلم. في العام 1917، مرّر الكونغرس الأميركي "قانون التجارة مع العدو"، وهو يمنح الرئيس صلاحيات مطلقة لكبح التجارة مع خصوم الولايات المتحدة في زمن الحرب. لكن لا يتماشى هذا التشريع، الذي خضع للتعديل في العام 1933 ثم 1977، مع مفهوم الحرب الرمادية المعاصرة، حيث يتخذ العدوان أشكالاً خبيثة وأكثر غموضاً. الولايات المتحدة والصين ليستا في حالة حرب اليوم، لكنهما لا تعيشان في سلام أيضاً. تتحدى بكين واشنطن من خلال "حرب رمادية" مبنية على قوة التكنولوجيا، ويبدو هذا الصراع مبهماً أكثر من الصراعات غير المباشرة التي شهدها القرن العشرين.

لمعالجة هذه التحديات، يجب أن يمرّر الكونغرس تشريعاً جديداً لكبح التهديد الاستثنائي الذي تطرحه الصين ويوقّع عليه الرئيس. قد يحمل هذا التشريع اسم "قانون التجارة مع الحزب الشيوعي الصيني"، ويُفترض أن يشمل قيوداً أكثر صرامة على التجارة التكنولوجية (حظر تطبيق "تيك توك" وبرمجيات صينية أخرى من السوق الأميركي، كما اقترح النائب جيم بانكس ونواب آخرون، فضلاً عن تشديد القيود على الاستثمارات الأميركية في شركات التكنولوجيا الصينية، كما اقترح السيناتوران بوب كايسي جونيور وجون كورنين). غالباً ما يُسمى هذا التدبير الأخير "إطار عمل لجنة الاستثمارات الخارجية في الولايات المتحدة"، وقد يمنح الحكومة الأميركية صلاحية منع الاستثمارات الأميركية أو تقييدها في الصين حين تتعارض مع مصالح الأمن القومي.

يجب أن يشمل هذا القانون أيضاً شروطاً مرتبطة بالشفافية في صفقات الشركات الأميركية مع بكين، فيفرض عليها مثلاً الإفصاح عن أي اتفاقيات استثمارية سرية أو الرضوخ للرقابة الصينية أو مطالبة الصين بمعلومات معيّنة، ويُفترض أن يمنع الأفراد الأميركيين والشركات الأميركية أيضاً من تشكيل جماعات ضغط لصالح الدولة الصينية أو كيانات تُوجّهها الحكومة. في الوقت نفسه، يجب أن يُجرّد مشروع القانون الصين من صفة "الدولة المفضّلة" في القانون الأميركي تمهيداً لنقل سلاسل الإمدادات في القطاعات الأساسية إلى أسواق ودّية. أخيراً، يجب أن يتضمن القانون المرتقب صلاحيات مرنة تسمح للسلطة التنفيذية بتقييد العمليات التجارية مع الحزب الشيوعي الصيني حين تشارك الرابطة الأميركية لكرة السلة، أو شركات الإنتاج في هوليوود، أو أي مؤسسات أخرى تستفيد من جميع المزايا التي تقدمها الولايات المتحدة، في صفقات قد تُضعِف الحريات المدنية أو الأمن القومي محلياً.

تعليقاً على هذا الموضوع، يستنتج أمين عام حلف الناتو، ينس ستولتنبرغ: "تثبت الحرب في أوكرانيا أن العلاقات التجارية مع الأنظمة الاستبدادية قد تنتج نقاط ضعف كبرى... يتمحور هذا الصراع حول روسيا، لكنه يرتبط بالصين أيضاً". على غرار تجارب أوروبا الأخيرة مع روسيا، سيكون وقف اتكال الولايات المتحدة على الصين في المجال الاقتصادي هدفاً صعباً وقد يترافق مع تكاليف معينة على المدى القريب. لكن لا مفر من زيادة تلك التكاليف إذا تأجّلت الخطوات السياسية المطلوبة إلى ما بعد اندلاع أزمة عسكرية محتدمة. تستطيع الولايات المتحدة أن تبدأ بفك ارتباطها عن الصين بطريقة مدروسة وذكية واستراتيجية طالما تملك الوقت لفعل ذلك، وإلا قد تضطر لتطبيق هذه المقاربة بشكلٍ تفاعلي ومتسرّع وفوضوعي حين تقع الكارثة الكبرى.


MISS 3