توم ماكتاغ

بوريس جونسون أجّل مصيره المحتوم

9 حزيران 2022

المصدر: The Atlantic

02 : 05

لا يكف بوريس جونسون عن خوض المعارك يومياً. في الوقت نفسه، تتابع بريطانيا محاولة الصمود تحت جناحه، وتراقب الأحداث الدرامية التي تتطور في دوامة لامتناهية وتتراوح بين المهزلة المضحكة والمأساة. بعد أشهر من الاضطرابات بسبب تصرفات جونسون، حيث أصبح أول رئيس وزراء بريطاني يتعرض للغرامات بسبب مخالفة القانون أثناء وجوده في منصبه، استجمع عدد كافٍ من النواب المحافظين شجاعتهم أخيراً للمطالبة بتصويت رسمي على الثقة وتقييم قدرة جونسون على متابعة ترؤس الحزب. لو أنه خسر في هذا التصويت، ولو بفارق صوت واحد، كانت عملية استبداله من رئاسة الحزب والحكومة لتبدأ فوراً وتبلغ ذروتها مع تعيين اسم جديد خلال أسابيع، فيظهر سادس زعيم بريطاني خلال 15 سنة من الاضطرابات السياسية والفشل المستمر. لكن نجح سيّد التهرّب مجدداً في تجنب هذا المصير، فصوّت له 211 نائباً للبقاء في منصبه مقابل 148 معارضاً له.

هذا "الفوز" ليس إلا بداية معركة جونسون في سبيل التمسك بمنصبه. خسر جميع أسلافه المحافظين نفوذهم بعد فترة قصيرة من خضوعهم للتصويت على الثقة. نجح كل واحد منهم في فرض سيطرته لفترة، لكنّ مجرّد المرور بهذه التجربة شكّل بداية نهاية شخصيات مثل مارغريت ثاتشر وجون ميجور وتيريزا ماي.

تتعلق مشكلة جونسون الأساسية بكونه سياسياً شعبوياً خسر شعبيته في الفترة الأخيرة. الوضع لا يشبه إجراءات عزل دونالد ترامب في الولايات المتحدة، حيث كان الرئيس الأميركي يفتقر إلى الشعبية على المستوى الوطني لكنه استفاد من صلابة دعم قاعدته له. في بريطانيا، يواجه جونسون معارضة عامة في البلد ككل وداخل القاعدة الشعبية لحزب المحافظين. بعد الكشف عن تنظيم حفلات صاخبة في مقر رئيس الوزراء خلال فترة الإقفال التام المرتبطة بأزمة كورونا، استنتج البلد على ما يبدو أنه لا يريد التصويت له مجدداً. وطالما يتمسك البلد بهذا الموقف، يعني ذلك أن عهده انتهى. وإذا لم يرحل هو شخصياً، فإن حزبه المحافِظ انتهى حتماً.

تأكد حصـــــول التصويت على الثقة تزامناً مع عودة البريطانيين إلى مزاولة أعمالهم، بعد أربعة أيام من الاحتفال باليوبيل البلاتيني للملكة إليزابيث الثانية. يبدو أن جزءاً من النواب المحافظين قرروا سحب الثقة من جونسون قبل انتهاء الاحتفالات، لكنهم أجّلوا الإعلان عن موقفهم منعاً لإفساد المناسبة الملكية.

هذا التفصيل الصغير يختصر لحظة بارزة في بريطانيا، خلال القرن الواحد والعشرين: إنها لحظة جنونية، ولامعة، ومرحة، وغريبة، وسخيفة، وكفيلة بتوحيد البلد كله. شمل ذلك المهرجان عرضاً ضخماً بالطائرات المسيّرة فوق قصر بكنغهام وشارك فيه آلاف الناس المبتهجين، فيما كانت ديانا روس تغني على المسرح. حتى أن الحفلات في مختلف شوارع البلد عكست شكلاً نادراً وتفاؤلياً من الوحدة الوطنية. لكن يبقى مشهد رئيس الوزراء وهو يتعرض لصيحات الاستهجان أثناء توجّهه نحو كاتدرائية القديس بولس لحضور تكريم الملكة أبرز لحظة من الاحتفال كله.

هكذا تعرّض رئيس وزراء من حزب "المحافظين" للسخرية من مناصري النظام الملكي أثناء تلويحهم بالأعلام. اعتبر البعض هذا المشهد تأكيداً على نهاية جونسون وإثباتاً على زوال شعبيته. هذا هو أساس جميع مشاكله ولا يمكن تغيير الوضع. لقد أصبح جونسون منبراً للشعب، لكن من دون دعم شعبي.

جونسون ليس المسؤول الوحيد الذي يواجه هذا الكم من مشاعر الكره، بل إنه آخر رئيس وزراء بريطاني يكرهه الرأي العام بدرجة غير صحية. لا يزال توني بلير منبوذاً حتى هذا اليوم، ويتعرض ديفيد كاميرون للازدراء علناً، وتُعتبر ثاتشر من الشخصيات التي يعاديها الناس لدرجة أن يخرّب المحتجون التمثال الذي يكرّمها. من المستغرب أن يكون أسوأ رؤساء الوزراء البريطانيين الأكثر شعبية اليوم (ميجور، وماي، وغوردن براون). لكن تنحى كل واحد منهم من منصبه خلال موجة عامة من الكراهية وتشوّهت سمعته في الوقت نفسه.

يختلف جونسون عن أسلافه بدرجة معينة لأنه يبدو منفتحاً وواقعياً حين يتكلم عن مصيره ودوره المحدود، فهو كتب في إحدى المناسبات: "السياسة هي عبارة عن تكرار دائم. نحن نصنع الملوك لمجتمعاتنا، ثم نقتلهم بعد فترة لإطلاق ولادة جديدة". لا تتمحور السياسة حول الخطط والأيديولوجيات الكبرى برأي جونسون، بل إنها طقوس ساخرة تستعملها المجتمعات للحفاظ على توازن معيّن، أو احتفال من النفاق حيث يستطيع الجميع الشعور بالتحسن عبر دعم الشخصيات التي ترمز إلى آمالهم ومخاوفهم قبل القضاء عليها في نهاية المطاف. على غرار الحياة، تدخل السياسة في دوامات وتخرج منها، وتبقى المشاكل عالقة، وتُستنزَف السجلات التاريخية، ويصل القادة إلى القمة ثم يسقطون. في حالة جونسون، تكمن المفارقة في مساعيه اليوم لتأجيل هذا المصير المحتوم، مع أنه يدرك جيداً أن نهايته مؤكدة. في الوقت الراهن، تُخيّم على الأجواء مشاعر من الانزعاج والتعاسة والانقسام والمشاكل على المستوى الوطني، تزامناً مع انتشار مشاعر معاكسة كتلك التي طغت على الاحتفال باليوبيل البلاتيني للملكة إليزابيث منذ أيام.

أصبح المحافظون اليوم عالقين بين المعسكر الذي استنتج أن الحزب يحتاج إلى قتل "الملك" لإطلاق ولادة جديدة، والمعسكر الذي يظن أن الوقت لم يحن بعد لبدء تلك المرحلة. لكن يجازف الحزب بإنشاء أسوأ العوالم على الإطلاق، فيسمح لبريطانيا بالغرق في حالة من الركود ولا يجد البلد من يدفعه إلى الأمام أو من يملك السلطة الكافية لقيادته.

لكن في عمق الأزمة الراهنة، لا يواجه النواب المحافظون مشكلة حقيقية على مستوى السياسات. بل إن هذا الاستنزاف الذي يمرّ به البلد مجدداً لا يهدف إلا لتغيير صاحب المرتبة العليا. لقد انتهى كل شيء ويصارع جونسون اليوم للتمسك بالعرش بكل بساطة.

تلعب شخصية الزعيم أهمية كبرى في هذا المجال طبعاً، لا سيما في حالة جونسون. أطلق أشرس منتقدي رئيس الوزراء منذ وقت طويل تحذيراً مفاده أن العيوب في شخصيته هي جزء من هويته. يبدو أن العيوب التي جعلته الخيار الأوفر حظاً من وجهة نظر حزبه والرأي العام في سنة 2019 هي التي أفقدته شعبيته اليوم: هو مراقب ساخر للمسؤولين الجديّين، فيزدريهم ويستخف بقِيَمهم، وهو يؤمن بواقع الحياة العابرة والمأسوية والكوميدية على نحو قاتم، ويبدو مقتنعاً بتفوّقه على الآخرين. هذه الصفات تجعله قوياً، ولامبالياً، وقصير النظر، ومرحاً وكئيباً في آن، ما يعني أنه بارع في سحق الأنظمة القديمة لكنه أقل براعة في فرض أنظمة جديدة.

لكن حتى لو خسر جونسون معركة صموده خلال الأسابيع أو الأشهر المقبلة، ستبقى المشاكل المحورية التي تواجهها بريطانيا على حالها. لا شك في أن شخصية القادة مهمة، ومن الواضح أن مجرّد بقاء جونسون في السلطة يُصعّب إصلاح بعض العلاقات الدبلوماسية في أوروبا. قد لا يتمكن البلد من تجاوز تداعيات خطة «بريكست» إلا بعد رحيل جميع الأسماء المرتبطة بتلك الحملة. لكنّ المرشحين لاستبداله سيتعهدون حتماً بالحفاظ على معظم نقاط أجندته. سبق وأطلق البعض وعوداً مماثلة. قد يَعِد كل واحد منهم بالبقاء خارج الاتحاد الأوروبي ومنطقته الاقتصادية، والتمسك بالموقف العدائي نفسه دعماً لأوكرانيا، ومراجعة بروتوكول أيرلندا الشمالية الذي يُعتبر أبرز بند كامن وراء اضطراب العلاقات بين بريطانيا وأوروبا. كذلك، سيتعهد كل واحد منهم بالسعي إلى إبرام اتفاقيات تجارية جديدة مع مختلف دول العالم بدل إعطاء الأولوية للاتحاد الأوروبي، وزيادة القدرة التنافسية للاقتصاد. وسيُصِرّ كل واحد منهم أيضاً على تجديد توازن الاقتصاد لزيادة ثروات شمال إنكلترا وحماية المقاعد التي انتزعها جونسون من حزب «العمّال» في العام 2019. عملياً سيستمر إرث جونسون، حتى لو رحل هو شخصياً، إلى أن يفوز حزب «العمال» في الانتخابات. وحتى لو تحقق هذا الفوز، لا يمكن عكس مسار «بريسكت» إذا وصل حزب «العمال» إلى السلطة في عهد كير ستارمر.

لكن على غرار استمرار إرث جونسون رغم رحيله، ستستمر جميع المشاكل التي انتُخِب جونسون لمعالجتها وفشل فيها أو زادها سوءاً أو حتى سبّبها بنفسه في بعض الحالات. لا يزال التراجع التنافسي في بريطانيا مستمراً، ولن تزول القوى القومية التي تمزق البلد، ويعجز أي حزب على ما يبدو عن معالجة هذا الواقع بطريقة جدّية. حتى أن الانقسام المزمن بين الشمال والجنوب قد يزداد سوءاً، مع أن جونسون كان قد تعهد بحلّه، ولا ننسى طبعاً تداعيات "بريكست" المستمرة.

باختصار، أصبحت بريطانيا اليوم دولة استُبدِل فيها الدين بشكلٍ من الشنتوية حيث تُكرَّم الملكة في جميع الظروف مقابل التضحية برؤساء الوزراء لتطهير الوطن من خطاياه. وفي خضم هذه التحولات كلها، لا شيء يتغير على أرض الواقع بل تستمر المشاكل الراسخة وتصبح مُعدّة للتفاقم، فتنتقل من رئيس وزراء إلى آخر ويعجز كل واحد منهم عن تقييم حجم التحديات المطروحة ومعالجتها. بعبارة أخرى، يُعتبر جونسون بكل بساطة أحدث رئيس وزراء يفشل في مهامه، مع أنه يواجه ظروفاً قاتمة على نحو استثنائي، لكنه لن يكون الأخير.