دان ريستريبو

الهجرة ليست أزمة حتمية

10 حزيران 2022

المصدر: Foreign Affairs

02 : 02

سنيبهقتوزيع الطعام على لاجئي نيكاراغوا في سان خوسيه
طوال ثلاثة عقود، تعاملت الولايات المتحدة مع موجات الهجرة على الحدود الأميركية المكسيكية وكأنها تدير أزمة دائمة. غالباً ما تطغى الهستيريا على معظم النقاشات المحلية، وتتعلق أحدث النقاط الخلافية بالجدل المُسيّس حول "البند 42" (إنه الأمر الذي أصدرته إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في بداية أزمة كورونا لإعادة المهاجرين لأسباب مرتبطة بالصحة العامة)، والسخط الذي سبّبه السياسيون المحافِظون نتيجة إقدام الحكومة الأميركية على إطعام أولاد المهاجرين المحتجزين رغم نقص حليب الأطفال في الأسواق. لكن تكمن مشكلة حقيقية وراء هذه المؤشرات التحذيرية. تفتقر سياسة الهجرة في واشنطن إلى التماسك ولا تأخذ بالاعتبار ما يحصل وراء الحدود الأميركية حيث تكثر التحديات وحلولها.

بدأت الولايات المتحدة تنفق المزيد من الأموال والموارد لحراسة حدودها الجنوبية. في العام 1992، بلغت الميزانية السنوية المخصصة لحرس الحدود الأميركي 326 مليون دولار. وبحلول العام 2020، أُعيد تنظيم مديرية الجمارك وحراسة الحدود، وسرعان ما أصبحت أكبر وكالة فدرالية لإنفاذ القانون في الولايات المتحدة ووصلت ميزانيتها إلى 17.4 مليار دولار، أي ما يساوي ربع الحصة المخصصة لحرس الحدود. في تلك الفترة، بَنَت الحكومة الأميركية حواجز تمتد على آلاف الأميال، وزادت الموظفين في وكالة إنفاذ القانون على الحدود من أقل من 4200 شخص إلى 20 ألفاً تقريباً.

منذ وصول عدد كبير وغير متوقع من القاصرين غير المصحوبين من أميركا الوسطى في العام 2014، أشركت الولايات المتحدة المكسيك في جهود إنفاذ القانون، فدعمت زيادة عدد الموظفين المكسيكيين على طول الحدود وتكثيف جهود احتجاز الوافدين، ويقبع عدد كبير من المهاجرين راهناً في المكسيك بانتظار انتهاء الإجراءات القانونية الأميركية بموجب بروتوكولات حماية المهاجرين الصادرة في العام 2019. بين العامَين 1993 و2021، اعتقل الأميركيون 26 مليون مهاجر في نقاط العبور على الحدود الأميركية المكسيكية. لكن تعجز الوكالات الحدودية، رغم التمويل الذي تتلقاه، عن إنهاء معاملات طالبي اللجوء بطريقة فاعلة وإنسانية.

لن تتوقف حركــة الهجرة في أنحــاء الأميركيتَيـــن في أي لحظة. لهذا السبب، يجب أن تنظر الولايات المتحدة إلى ما يحصل وراء حدودها، وتتبنى مقاربة جديدة وشاملة في ملف الهجرة، وتتخذ الخطوات اللازمة لتحديث القوانين والسياسات الأميركية والبنى التحتية الحدودية. تتوق دول أميركا اللاتينية والكاريبي اليوم إلى التعاون مع الآخرين بموجب خطة إقليمية شاملة بعد التداعيات الاقتصادية التي سبّبها وباء كورونا، وبلوغ مستويات تاريخية من الهجرة غير الشرعية طوال سنوات. ستكون قمة الأميركيتَين في لوس أنجلوس، خلال الأسبوع المقبل، فرصة مناسبة لإحراز تقدّم حقيقي. بدأت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن ودول أخرى في الأميركيتَين تُخطط لطرح رؤية إقليمية جديدة عبر إعلان مشترك حول الهجرة والحماية.

لكن لكسر دوامة الفشل في إدارة هذه الأزمة، لا بد من اتخاذ خطوات ملموسة أيضاً. يُفترض أن يسمح أي إطار عمل دائم للهجرة في نصف الأرض الغربي بتحديد المكانة القانونية للشتات، تزامناً مع فرض تدابير حماية إضافية لأكثر الأشخاص ضعفاً بينهم. كذلك، يجب أن يطرح هذا الإطار خيارات بديلة للمهاجرين المحتملين، بعيداً عن أنظمة اللجوء المثقلة بالأعباء، ويبتكر البنية التحتية اللازمة للتعامل مع الزيادات المفاجئة في موجات الهجرة غير النظامية. من المتوقع أن تتنقّل أعداد هائلة من الناس في أنحاء الأميركيتَين خلال السنوات المقبلة. حان الوقت إذاً كي تُنسّق الولايات المتحدة جهودها مع الدول الأخرى في المنطقة لإبقاء هذه النزعة تحت السيطرة بدل تحويلها إلى أزمة مليئة بالاضطرابات والمشاكل.

يجب أن تتنبّه الإدارة الأميركية بشكلٍ خاص إلى أكثر الفئات ضعفاً بين النازحين داخلياً والمهاجرين دولياً في أنحاء المنطقة، لا سيما المجموعات الأكثر ميلاً إلى الهجرة عبر الطرقات غير الشرعية. لا تستطيع أنظمة اللجوء الإقليمية أن تواكب حجم المتنقلين في المنطقة، ما يجعل عدداً كبيراً من الناس منسيّاً وبلا حماية.

للتعامل مع هذه الجماعات المعرّضة للمخاطر، تبرز الحاجة إلى طرح مقاربة مرنة. قد يحتاج هؤلاء إلى دخول البلد ونيل صفة قانونية وتلقي الخدمات الاجتماعية أو إيجاد عمل، ولو موَقتاً. أصبح جزء من هذه البرامج ساري المفعول، لكن يجب أن تتحسّن برامج أخرى أو تنشأ من الصفر. ويُفترض أن تُعطى تراخيص الإقامة الموَقتة، كتلك التي يحصل عليها الفنزويليون في عدد من دول أميركا الجنوبية، إلى جماعات أخرى وتمتد إلى دول أميركا الشمالية والوسطى. كذلك، يجب أن يُعاد تصميم "اتفاق نقل الحماية" (آلية مبتكرة تساعد الأشخاص المعرّضين للمخاطر في غواتيمالا وهندوراس والسلفادور على العبور في كوستاريكا وهم في طريقهم للاستقرار في بلد ثالث). تهدف هذه الخطوة إلى توسيع معايير تقديم الطلبات وتسريع العملية كلها وضم دول إضافية.

على صعيد آخر، يمكن تكرار "برنامج الحماية العاجلة" الكندي الذي يردّ على طلبات اللاجئين المعرّضين لتهديدات مباشرة حول العالم وتوسيع نطاقه عند الحاجة. كذلك، يجب أن تتوسّع برامج إعادة توطين اللاجئين وطالبي اللجوء والنازحين داخلياً إذا كانوا معرّضين للخطر في جنوب المكسيك. ويجب أن تُطوّر دول أميركا الشمالية آلية مشتركة للإجلاء في حالات الطوارئ لتوفير حماية موَقتة لأكثر الأشخاص عرضة للخطر، مثل المثليين. تتكل كندا مثلاً على أنظمة متينة في هذا المجال وبدأت الولايات المتحدة تواكبها في الفترة الأخيرة، ما يعني إمكانية أن يكفل مواطنون من القطاع الخاص اللاجئين القادمين من أفغانستان وأوكرانيا. يمكن توسيع هذه البرامج كي تشمل اللاجئين داخل نصف الأرض الغربي، بما في ذلك سكان غواتيمالا، وهندوراس، ونيكاراغوا، والسلفادور.

لتفعيل هذه الجهود، يجب أن تعيد إدارة بايدن إحياء أدوات إدارة الهجرة التي أثبتت نجاحها في الماضي. سمح "برنامج الهجرة الكوبي الخاص" (اتفاق ثنائي نشأ في العام 1994)، و"برنامج الإفراج المشروط لِلَمّ شمل الأسرة في كوبا" في العام 2007، بكبح المعابر البحرية الخطيرة من كوبا عبر إنشاء مسارات لحركة الهجرة المنظّمة والبطيئة نحو الولايات المتحدة. انتهى البرنامجان في العام 2017. إذا قررت إدارة بايدن أن تعيد إحياءهما في إطار عمل جديد وخاص بنصف الأرض الغربي، فيجب أن تفكر أيضاً بنظام مماثل للمهاجرين القادمين من هايتي. قد يجذب هذا البرنامج مقدّمي طلبات الهجرة من هايتي ودول أخرى في الأميركيتَين.

تتعدد الأسباب التي تدفع الناس في أنحاء الأميركيتَين إلى متابعة التنقل. هم يفتقرون إلى الأدوات القانونية لفعل ذلك. يضطر معظم المهاجرين المحتملين إلى الولايات المتحدة للمرور بالطريق غير الشرعي الوحيد المتاح أمامهم، وهو ينتهي على الحدود الأميركية المكسيكية حيث يواجهون نظام اللجوء الأميركي المثقل بالأعباء. يقضي خيار بديل وأكثر استدامة بتسهيل الوصول إلى وجهات خارج الولايات المتحدة، فضلاً عن تفعيل إجراءات قانونية للمهاجرين الراغبين في التعلم أو العمل أو الاجتماع مع عائلاتهم مجدداً.

كُبِحت موجة الهجرة غير الشرعية من المكسيك حين وسّعت الولايات المتحدة برنامج التأشيرات للعمال الزراعيين خلال العقد الأول من هذا القرن: يسمح هذا البرنامج للمهاجرين المكسيكيين الذين يبحثون عن فرص عمل بدخول البلد. يمكن تحقيق نتائج إيجابية بالقدر نفسه عبر طرح خطط مماثلة لاستقبال المهاجرين من دول أميركا الوسطى للعمل موَقتاً، لا سيما إذا ترافقت مع تدابير فاعلة لحماية العمّال. من خلال توسيع هامش حركة العمال، قد يتراجع تدفق المهاجرين العشوائي اليوم وتتمكن عائلات العمال المهاجرين من تحسين نوعية حياتها محلياً، ما يُضعِف حاجتها إلى مغادرة بلدها الأم. حتى أن نجاح هذا النظام قد يُشجّع أشخاصاً آخرين على البحث عن أماكن لهم في برنامج العمل الموَقت في السنة المقبلة بدل محاولة قطع الحدود من دون إذن مسبق.

لن تكون طرقات هجرة اليد العاملة القانونية نحو الولايات المتحدة الممرات الوحيدة التي تحتاج إلى التطوير. تستقبل كندا عمالاً موقتين من غواتيمالا سنوياً أكثر من الولايات المتحدة بمرتَين أو ثلاث مرات، لكنها تستطيع استيعاب أعداد إضافية على الأرجح. ثمة اتفاق ثنائي بين المكسيك وغواتيمالا في مجال هجرة العمال ولا بد من توسيع نطاقه لزيادة فاعليته. في جميع أنحاء نصف الأرض الغربي، يجب أن تتخذ الممرات غير الشرعية طابعاً رسمياً لزيادة المنافع الاقتصادية، وتقليص الاضطرابات والمخاطر التي يتعرّض لها المهاجرون، وتحسين ظروف العمل في أنحاء المنطقة.

في ظل زيادة التعقيدات التي تطبع أنماط الهجرة التقليدية في الأميركيتَين، فشلت المؤسسات الإقليمية المُصمّمة لإدارة هذا الملف في مواكبة الموجات المتلاحقة. في معظم الأحيان، تُصِرّ دول نصف الأرض الغربي على تنظيم جهود إدارة الهجرة بناءً على الأنماط دون الإقليمية القديمة (أي الفصل بين الإجراءات القائمة في أميركا الجنوبية وأميركا الوسطى)، والتحرك انطلاقاً من فرضية شائبة مفادها أن الهجرة يمكن ردعها على الحدود. لا مفر من أن يؤدي غياب التواصل والرؤية الثاقبة إلى زيادة الثغرات الخطيرة في المقاربة التي يُفترض أن تتحول إلى سياسة إقليمية مُنسّقة.

يجب أن تكسر الحكومات هذه القيود وتبني شبكات أكثر قوة لتقاسم المعلومات وابتكار عمليات جديدة. يثبت نجاح جهود إقليمية أخرى (مثل "مجموعة ليما" التي نشأت في العام 2017 لمعالجة الأزمة في فنزويلا) الأهداف التي تستطيع المنتديات الدولية المتفانية تحقيقها في ملف الهجرة، فتساعد الدول على تطوير أنظمة مبتكرة للتحذير من نزعات الهجرة الناشئة وإطلاق ردود مشتركة وقادرة على تقديم خيارات مناسبة للمهاجرين تزامناً مع تلبية حاجاتهم.

عندما تبدي المؤسسات المالية الدولية استعدادها لتقديم المساعدة، ستتمكن الحكومات من إطلاق المبادرات الإنسانية اللازمة حين تدفع الأزمات أعداداً كبيرة من الناس إلى الهجرة، حتى أنها قد تدعم الجماعات التي ترسل وتستقبل المهاجرين على المدى الطويل عبر برامج تُسهّل على الناس بناء حياة جديدة في مكان وجودهم. لا يستطيع أي بلد، بما في ذلك الولايات المتحدة، أن يكبح القوى التي تدفع الناس إلى الهجرة وتعيد رسم معالم نصف الأرض الغربي في الوقت نفسه. لكن يستطيع قادة المنطقة أن يوافقوا على إدارة العواقب وتخفيف الضغوط التي تدفع الناس إلى الرحيل من بلدانهم بطريقة تخدم مصالح جميع الأطراف.


MISS 3