دومينيك تيرني

جسر "مطليّ بالذهب" لإخراج بوتين من أوكرانيا

11 حزيران 2022

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

بعد ثلاثين سنة على انسحاب الاتحاد السوفياتي من أفغانستان، وجدت روسيا نفسها داخل صراع مدمّر آخر لا يمكن الفوز به. من الواضح أن الهدف الأصلي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أوكرانيا يبقى بعيد المنال في جميع الظروف، فهو يتعلق بإسقاط الحكومة الأوكرانية واستبدالها بنظام خاضع لروسيا. لكن من المتوقع أن تبقى أوكرانيا دولة مستقلة وتصبح موالية للغرب أكثر من أي وقت مضى. بدل إضعاف الناتو، أدت الحرب الروسية إلى تقوية الحلف وعزل الاقتصاد الروسي. سبق وتعرّض عشرات آلاف الجنود الروس للقتل أو الإصابة خلال الغزو الذي تحوّل مع مرور الوقت إلى حرب استنزاف طاحنة. لكن تعيش أوكرانيا معاناة كبيرة بسبب الحرب أيضاً، فقد قُتِل الآلاف من سكانها تزامناً مع انهيار اقتصادها. وتتحمّل أجزاء أخرى من العالم تداعيات هذا الصراع، أبرزها تدفق اللاجئين ونقص الحبوب. هذه الكارثة المستمرة دفعت ببعض المحللين الغربيين إلى المطالبة بإيجاد حل للحرب عن طريق التفاوض على تسوية تمنح بوتين تنازلات ملموسة مقابل الانسحاب الروسي (عبر توسيع سيطرة روسيا على إقليم "دونباس" وإعطائها طابعاً رسمياً مثلاً)، أو تمنح موسكو ما سمّاه المُنظّر العسكري صن تزو "جسراً ذهبياً" للخروج من الصراع. في غضون ذلك، يرفض النقاد أي كلام عن تقديم حبل نجاة إلى بوتين لاسترضائه أو مكافأة روسيا على أعمالها الوحشية لأن هذه المقاربة تُشجّع الحاكم الروسي الاستبدادي على إطلاق عمليات عدوانية أخرى مستقبلاً. برأي هذا المعسكر، لا بديل عن تحقيق انتصار أوكراني كامل.

تثبت طريقة انسحاب الاتحاد السوفياتي من أفغانستان أن هذين المسارَين ممكنان، إذ يستطيع الغرب أن يُصمّم تسوية يتم التفاوض عليها ويمنح أوكرانيا انتصاراً حاسماً. في أواخر الثمانينات، سمحت الولايات المتحدة لموسكو بنيل تنازلات تحفظ ماء وجهها لضمان خروج القوات السوفياتية من أفغانستان. لكن كانت تلك التنازلات فارغة المضمون عمداً ولم تنجح في إخفاء الهزيمة السوفياتية الواضحة. اليوم، يستطيع الغرب وأوكرانيا أن يعرضا مكاسب ظاهرية على موسكو لتشجيعها على الانسحاب، تزامناً مع ترسيخ صورة الفشل الروسي وإضعاف موقع بوتين السياسي. بعبارة أخرى، يجب ألا يبني الغرب جسراً ذهبياً لبوتين، بل جسراً "مطليّاً بالذهب": يضمن هذا المسار الخروج من الحرب ويكون مقنعاً بما يكفي لدفع الكرملين إلى إنهاء القتال، لكن سرعان ما يتبيّن أنه حل رخيص واستعراضي. قد لا يكون الفوز بهذه الطريقة لامعاً بقدر ما يتصوّر مؤيدو استعمال القوة (لن يطارد الجنود الأوكرانيون القوات الروسية المتصدّعة لإخراجها من "دونباس")، لكنه يشكّل انتصاراً مهماً لأوكرانيا.

ثمة اختلافات واضحة بين حربَي أفغانستان وأوكرانيا، فهما تحصلان في سياقات سياسية مختلفة. كان الزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف رجلاً إصلاحياً حاول تحسين العلاقات مع الغرب وتوسيع هامش الليبرالية في بلده. لكنّ بوتين نقيض له، فهو حاكم استبدادي انتقامي ومُصمّم على حصر السلطة بيده وإعادة رسم العالم عبر استعمال القوة.

لكن تبـــرز مقارنــات لافتة بين التجربتَين. في الحالتَين معاً، أقدم الكرملـــين المتحجر والواثق بنفسه على غزو دولــة مجاورة، فخاض حربــــاً غير موجــودة رسمياً (سُمّي الغزو الأفغاني "الوحدة المحدودة للقوات السوفياتية في أفغانستان")، وواجه خصماً قوياً تدعمه الأسلحة الغربية، واضطر لإطلاق حملة مرتجلة وأعلى كلفة من الخطة الأصلية. خلال الثمانينات، أُجبِر الاتحاد السوفياتي على العودة إلى المفاوضات في نهاية المطاف. وفي ظل تصاعد الخسائر البشرية والتكاليف الأخرى في أوكرانيا اليوم، قد يضطر بوتين أيضاً للعودة إلى طاولة المفاوضات. لكن ما لم يتفكك الجيش الروسي بالكامل، ستضطر كييف للتنازل عن جزءٍ من أهدافها القصوى (انسحاب موسكو من شبه جزيرة القرم و"دونباس"، وتلقي تعويضات ضخمة من روسيا) إذا أرادت إنهاء الحرب.

تتوقف شروط السلام في أوكرانيا على كييف في المقام الأول. لكن يجب أن يفكر الغرب أيضاً بالمشاركة في إبرام اتفاق لتسهيل خروج بوتين من البلد تزامناً مع ضمان انتصار حقيقي وملموس لأوكرانيا. يعني ذلك التمييز بين التنازلات المؤثرة والسطحية وتقييم تأثير المكاسب والخسائر على خطابات النصر والهزيمة مستقبلاً. لا يستطيع القادة الغربيون مثلاً أن يضغطوا على أوكرانيا كي تتنازل عن سيادة أراضيها وحقها بتدعيم قواتها المسلّحة، ولا يمكنهم أن يحرموا البلد من خطة عملية للانتساب إلى الاتحاد الأوروبي. لكن يستطيع الغرب أن يُشجّع كييف على التنازل في مسائل رمزية وإنشاء جسر "مطلّي بالذهب" لإخراج روسيا من أوكرانيا.

لا يُخطط حلف الناتو مثلاً لضم أوكرانيا إلى صفوفه، ما يعني أن كييف تستطيع التعهد بتأجيل طموحاتها بالانضمام إلى الحلف، وهو تنازل أبدت استعدادها لتقديمه. تسمح هذه الخطوة لبوتين بإعلان نجاحه في ردع الناتو بدرجة معيّنة (مع أن الحلف يتابع توسّعه في أماكن أخرى على الأرجح). كذلك، تستطيع كييف أن تصبح "منزوعة السلاح" عبر التعهد بعدم استضافة أي قواعد أجنبية، علماً أنها لا تنوي القيام بذلك أصلاً. لجأت موسكو من جهتها إلى مزاعم مبالغ فيها، فادّعت مثلاً أنها أطلقت عمليتها العسكرية الخاصة لمنع أي هجوم أوكراني ضد روسيا، وقد توافق كييف على ضمانات أمنية متبادلة لمنع الاعتداء على أوكرانيا وروسيا معاً كجزءٍ من صفقة كبرى.



الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في طريقه الى حفلة في موسكو - تشرين الثاني 2015



كذلك، أعلن الرئيس الروسي أن الغزو الذي أطلقه كان ضرورياً لمنع أوكرانيا من ارتكاب "إبادة جماعية" ضد سكانها الناطقين باللغة الروسية. رداً على هذا الموقف، تستطيع أوكرانيا أن تفرض تدابير جديدة لحماية حقوق الناطقين باللغة الروسية أو أقليات أخرى. يُفترض ألا تكون هذه الإجراءات صعبة على كييف. يدعم معظم الأوكرانيين الناطقين باللغة الروسية جهود الحرب التي تبذلها أوكرانيا، وتتماشى هذه التدابير مع التزام الاتحاد الأوروبي بحماية الأقليات وستكون بالغة الأهمية إذا أرادت أوكرانيا الانضمام إلى الاتحاد. في غضون ذلك، يستطيع لاعبون دوليون مثل الاتحاد الأوروبي، أو حتى بعض القوى غير الغربية مثل الصين، أن يضطلعوا بدور أساسي للتوصل إلى تسوية أوكرانية تتقبّلها موسكو. تاريخياً، كان الكرملين أكثر استعداداً لإبرام الصفقات حين تصوغها منتديات تُشدد على مكانة روسيا كقوة عظمى، على غرار قانون هلسنكي النهائي من العام 1975 (ساهم هذا الاتفاق في تجديد استقرار الأمن الأوروبي)، أو اتفاقيات جنيف من العام 1988.

قد يفكّر الغرب بعقد اتفاق سلام يجعل عملاء روسيا مسؤولين عن أجزاء من إقليم "دونباس" تزامناً مع الحفاظ على حق الدول الغربية في متابعة تزويد كييف بالأسلحة، مثلما سمحت الولايات المتحدة للنظام الشيوعي في أفغانستان بالحفاظ على صلاحياته موَقتاً بعد الانسحاب السوفياتي. قد تسترجع الحكومة الأوكرانية في نهاية المطاف كامل أراضيها الشرقية أو جزءاً منها. لكن كما حصل في أفغانستان، يصعب أن يحصل ذلك قبل مرور فترة فاصلة والسماح لموسكو بلوم الانفصاليين المحليين على هزيمتها.

يصعب تقبّل أبسط التنازلات لصالح بوتين، نظراً إلى وحشية الحرب الروسية المستمرة. قد لا يكون بناء جسر "مطليّ بالذهب" في أوكرانيا مقاربة مُرضِية من الناحية العاطفية بقدر هزم القوات الروسية. لكن انسحب الاتحاد السوفياتي بكل هدوء من أفغانستان أيضاً ولم يُعجِب هذا النهج المتشددين في الولايات المتحدة حينها. لكن لا مفر من أن تعطي إهانة روسيا نتائج عكسية. غالباً ما تختار الدول التي تتعرّض للإهانة أسلوب العدوان للتعويض عن خسارتها العاطفية. أدت معاهدة فرساي العقابية مثلاً إلى تسهيل صعود أدولف هتلر. يجب ألا تهين أوكرانيا الأمة الروسية خدمةً لمصلحتها، فتمتنع مثلاً عن تصوير مرور المعتقلين الروس أو حرق العلم الروسي أمام الكاميرات. ويجب أن تسمح للقوات الروسية بمغادرة أوكرانيا وهي بحالة جيّدة كجزءٍ من اتفاق سلام. يُفترض أن تكون الهزيمة فشلاً لبوتين ونظامه، لا الشعب الروسي عموماً.

لا يحتاج الغرب إلى إهانة الروس لتحقيق أهدافه. ولن تكون التنازلات الرمزية كافية لمنع الرأي العام من اعتبار هذه الحرب هزيمة لبوتين، حتى داخل روسيا. يسيطر بوتين على وسائل الإعلام الروسية، ولا شك في أنه سيعلن النصر بغض النظر عما يحصل. لكن لا يمكن أن يغفل الروس إلى الأبد عن التكاليف الباهظة لهذا الغزو، ويُفترض أن يدركوا مع مرور الوقت أنهم خسروا آلاف الجنود من دون تحقيق أي مكاسب حقيقية. سيشعر الروس بحجم الأضرار الاقتصادية التي تُسببها العزلة العالمية، وسيدركون أن الحرب هي التي دفعت فنلندا والسويد للانتساب إلى حلف الناتو. بدأت مؤشرات انعدام الثقة بالمواقف الرسمية تظهر منذ الآن داخل روسيا. بعدما أغرقت أوكرانيا طراد "موسكفا" التابع لأسطول البحر الأسود الروسي، ادّعت موسكو أن الحادثة لم تسفر عن مقتل أي روسي (أو ربما قُتِل روسي واحد كحد أقصى). لكن عبّر أهالي البحّارة المفقودين عن غضبهم وحزنهم.

إذا أصبحت أوكرانيا في نهاية المطاف ديمقراطية مستقرة، وأُعيد إعمارها بفضل المساعدات المالية الخارجية والأصول الروسية المجمدة التي تصل قيمتها إلى مليارات الدولارات، ورسّخت ترابطها الداخلي عبر خطابات عن خوض حرب وطنية عظيمة، سيصبح هذا البلد مثالاً حياً على تهور بوتين. قد تتحول أوكرانيا في هذه الحالة إلى منارة للحرية، وقد تمنع مقاومتها البطولية بلداناً أخرى من إطلاق أي أعمال عدائية من هذا النوع. أخيراً، قد تكون ذكريات هذه الحرب الفاشلة في روسيا كفيلة بتأجيج الشكوك بقرارات الكرملين التي تُمعِن في إضعاف نظام بوتين مع مرور الوقت، بما يشبه دور أفغانستان في إسقاط النظام السوفياتي.