سامويل شاراب

أفضل فرصة لإرساء السلام في أوكرانيا

13 حزيران 2022

المصدر: Foreign Affairs

02 : 02

جندي أوكراني في خندق دفاعي
في هذه المرحلة من الحرب في أوكرانيا، يبدو احتمال إرساء أي شكل من السلام بين موسكو وكييف مستبعداً، إذ تُكثّف روسيا هجومها في إقليم "دونباس" وتتضح الأعمال الوحشية التي ترتكبها قواتها العسكرية مع مرور كل يوم. ورغم الاجتماعات التي عقدتها وفود من الطرفَين في الفترة السابقة، لم تؤثر المحادثات كثيراً على رغبة روسيا أو أوكرانيا في متابعة القتال. حتى أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي والرئيس الروسي فلاديمير بوتين رفضا المشاركة في المفاوضات في مرحلة معينة. اليوم، أصبحت الجهود الدبلوماسية الثنائية مُعلّقة. لكن وسط هذه الأجواء القاتمة، يسهل أن ننسى التقدّم الذي أحرزه المفاوضون حتى الآن. في أواخر شهر آذار، طرح الدبلوماسيون الأوكرانيون إطار عمل مبتكر لإبرام اتفاق يسمح بإنهاء الحرب. وكان لافتاً أن يلقى هذا الاقتراح، الذي تم تسريبه إلى الصحافة بعد محادثات اسطنبول في 29 آذار، دعماً أولياً من الطرفَين. يرتكز الاتفاق المقترح في جوهره على مقايضة واضحة: يجب أن تتخلى كييف عن طموحاتها بالانضمام إلى حلف الناتو وتتبنى مبدأ الحياد الدائم، مقابل تلقي ضمانات أمنية من شركائها الغربيين وروسيا في آن.

لم تُقدّر عواصم غربية كثيرة أهمية اقتراح اسطنبول بعد لأنه لا يزال حديث العهد على الأرجح، علماً أن الضمانات الأمنية باتت مرادفة في الغرب لمعاهدات التحالف. على عكس التحالف النموذجي الذي يجمع بين شركاء مقرّبين في مجال الدفاع المشترك ضد عدو محتمل، يدعو الاتفاق المقترح الخصوم الجيوسياسيين إلى ضمان أمن أوكرانيا على المدى الطويل بطريقة مشتركة، خارج بنية التحالف المتعارف عليها، ويجب أن يتحقق هذا الهدف رغم استمرار حرب العدوان ضد أوكرانيا من جانب أحد الخصوم. إذا أصبح هذا الاقتراح أساس أي تسوية مستقبلية، قد تنشأ آلية قادرة على جعل روسيا شريكة في أمن أوكرانيا.

دروس من بلجيكا

تحمل الضمانات الأمنية متعددة الأطراف هدفاً مختلفاً عن التحالفات الاعتيادية. تهدف كيانات مثل حلف الناتو مثلاً إلى الحفاظ على دفاع جماعي ضد عدو مشترك. أما الضمانات الأمنية متعددة الأطراف، فهي مُصمّمة لتحقيق المصالح المشتركة لضامني الأمن في الدولة المعرّضة للمخاطر، ما يعني تعزيز أمن تلك الدولة. في هذا السياق، يشبه اقتراح اسطنبول المعاهدات التي رافقت استقلال بلجيكا وضمنت حيادها الدائم في العامَين 1831 و1839.

قبل إبرام تلك المعاهدات، لم تكن بلجيكا موجودة. نظراً إلى موقع البلد الجغرافي الاستراتيجي، شهدت أراضيه أكثر من ألف معركة بين القوى الأوروبية منذ العصر الروماني. وعندما ثار البلجيكيون ضد حكّامهم الهولنديين، في العام 1830، أطلق أعضاء التوافق الأوروبي (النمسا، بروسيا، المملكة المتحدة، فرنسا، روسيا) مفاوضات مطوّلة مع الطرفَين لتحديد معايير بلجيكا المستقلة. في نهاية المطاف، توصّلت هذه الأطراف إلى اتفاق حول معاهدة واسعة النطاق تفصل بلجيكا عن هولندا وتمنحها صفة "الدولة المستقلة ودائمة الحياد والمُلزَمة بتطبيق هذا الحياد تجاه جميع الدول الأخرى". حصلت بنود المعاهدة على ضمانات من القوى العظمى الخمس المُوقِّعة عليها.

كان هذا الترتيب ممكناً لأن جميع الدول الأوروبية الكبرى اعتبرت استقلال بلجيكا وأمنها وحيادها عوامل أساسية لضمان أمن القارة كلها. كانت بلجيكا مهمة على نحو خاص بالنسبة إلى القوتَين المتناحرَتين في جوارها، فرنسا وألمانيا، لأن غياب العوائق الطوبوغرافية على أراضيها حوّل البلد إلى ممر مباشر قد يستعمله أحد البلدين لغزو البلد الآخر. كذلك، اعتُبِرت أوكرانيا مهمة لبريطانيا باعتبارها معقلاً تجارياً أوروبياً وأداة لضمان الأمن البحري.

لكن استفادت بلجيكا من هذا الترتيب أيضاً، فنالت استقلالها وعاشت بسلام طوال 75 سنة. في أكثر من مناسبة، استعمل أحد ضامني أمن بلجيكا تلك المعاهدة لمنع دولة أخرى (فرنسا أو ألمانيا في معظم الأوقات) من تنفيذ خططها في البلد. في هذا السياق، قال أحد المراقبين البريطانيين في بداية القرن العشرين: "لم ترتكز تلك المعاهدة على اعتبارات تخصّ بلجيكا وحدها، مع أنها استفادت من المعاهدة طبعاً، لكنها صبّت أيضاً في مصلحة الدول التي ضمنت حياد بلجيكا".

في العام 1914، انتهكت ألمانيا بنود المعاهدة حين أقدمت على غزو بلجيكا واحتلالها كجزءٍ من خطة "شليفن" لمهاجمة فرنسا، فاعتبرت معاهدة العام 1839 مجرّد "حبر على ورق". لهذا السبب، يُعتبر حياد بلجيكا أحياناً تجربة فاشلة. لكن التزمت بريطانيا بدورها وخاضت الحرب ضد ألمانيا لأن الألمان هاجموا بلجيكا. كذلك، كانت بلجيكا قد استفادت حتى تلك المرحلة من السلام بموجب المعاهدة طوال ثلاثة أرباع قرن، أي أكثر من فترة السلام النسبي التي شهدتها أوكرانيا بين انتهاء الحقبة السوفياتية وبدء أول هجوم روسي في العام 2014 بثلاث مرات.

على غرار بلجيكا، تطرح أوكرانيا مخاوف أمنية كبرى بالنسبة إلى الخصوم الجيوسياسيين على حدودها بسبب موقعها الجغرافي. ومثلما تم التعامل مع أمن بلجيكا في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، يُعتبر أمن أوكرانيا اليوم أساسياً لإرساء السلام والاستقرار في القارة كلها. وعلى غرار المعاهدات البلجيكية، يقدّم بيان اسطنبول منافع للدولة المضمونة والدول الضامِنة في آن. قد تنجح أوكرانيا في إنهاء الهجوم الروسي الراهن وتتلقى ضمانات قوية ضد أي عدوان مستقبلي محتمل.

حتى أن موسكو قد تتعهد بالتخلي عن مسارها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. ستضمن روسيا بهذه الطريقة حياد أوكرانيا وتقضي على فرص انتسابها إلى حلف الناتو بناءً على اتفاق تضمنه الولايات المتحدة وحلفاؤها وأوكرانيا بموجب القانون. حتى أنها قد تتلقى ضمانات تمنع إنشاء أي قواعد عسكرية أجنبية في أوكرانيا أو إجراء تدريبات للجيوش الخارجية هناك من دون موافقة موسكو. بالنسبة إلى الغرب، يعني تخلي الكرملين عن اعتراضه على انتساب أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي انفصال البلد أخيراً عن نطاق النفوذ الروسي.

إتفاق ممكن؟

قد تستفيد روسيا من خطة اسطنبول، لكن لا يتوقع بعض المراقبين أن توافق عليها موسكو في نهاية المطاف لأنها ستتقبّل حينها احتمال خوضها للحرب مع الولايات المتحدة وحلفائها إذا هاجمت أوكرانيا مجدداً. ثمة تفسيران محتملان إذاً للسبب الذي دفع الكرملين إلى إعلان دعمه الأولي لصيغة اسطنبول. أولاً، قد لا تصدّق روسيا أن الأميركيين وحلفاءهم سيلتزمون بالضمانات الخاصة بأوكرانيا، لذا تُقرر قبول الاتفاق رغم استعدادها لانتهاك بنوده (مثلما تجاهلت ألمانيا المعاهدة البلجيكية حين أقدمت على غزو البلد في العام 1914). لكن يبقى احتمال أن يهبّ الجيش الأميركي للدفاع عن أوكرانيا خطراً وجودياً على روسيا. من المستبعد على الأرجح أن ترغب موسكو في تعزيز احتمال الحرب مع الولايات المتحدة لمجرّد أن تثبت أنها على حق.

ثانياً، لن تستفيد روسيا من مهاجمة أوكرانيا إذا وافقت كييف على مبدأ الحياد الدائم، وهو شرط أساسي في الخطة المقترحة. هذا الاحتمال لا يفسّر استعداد موسكو للمجازفة بخوض صراع مع الولايات المتحدة فحسب، بل إنه يتماشى أيضاً مع الجهود الشاقة التي بذلتها روسيا لمنع انتساب أوكرانيا إلى حلف الناتو. بعبارة أخرى، ستكون الحوافز التي يقدّمها أي اتفاق مُلزِم قانوناً لضمان حياد أوكرانيا وإبقاء الجيوش الأجنبية بعيدة عن الأراضي الروسية أكبر من المنافع التي يمكن تحقيقها خلال أي غزو مستقبلي. إذا قررت روسيا تكرار عدوانها فعلاً، ستجازف حينها بخوض صراع مباشر مع الولايات المتحدة وبإنهاء الحياد الأوكراني.

سيترافق هذا الاتفاق طبعاً مع تحديات كبرى. على الجانب الأميركي، ستتوقف مصداقية التحالفات الأميركية العالمية على هذا الترتيب المحفوف بالمخاطر. حتى أن حياد أوكرانيا وحظر التدريبات والقواعد العسكرية الأجنبية قد يطرحان معضلات معقدة على الجيش الأميركي. في هذه الحالة، لن يتمكن البنتاغون من تطبيق مقاربته المألوفة لتنفيذ الالتزامات الأمنية، فهي تشمل مثلاً نشر القوات العسكرية في الخطوط الأمامية، والوصول إلى أراضي الدول الأخرى بلا رادع، والتخطيط للعمليات مع الشركاء ولو بدرجة معينة. أخيراً، يجب أن يتماشى نطاق تطبيق الضمانات الأمنية مع طريقة السيطرة على الأراضي بعد إعلان وقف إطلاق النار.

إبتكرت الولايات المتحدة صِيَغاً لضمان أمن الدول التي تشهد نزاعات على أراضيها: أصبح أمن ألمانيا الغربية وكوريا الجنوبية راسخاً مثلاً، بما يتماشى مع الحدود التي فرضها الأمر الواقع، مع أن واشنطن اعترفت رسمياً بحقهما القانوني باسترجاع كامل أجزاء البلد المنقسم. لكن بقيت خطوط الترسيم في هاتين الحالتَين واضحة ومستقرة نسبياً. أما الخطوط التي تفصل بين القوات الروسية والأوكرانية في المناطق التي احتلّتها موسكو في أوكرانيا منذ 24 شباط، فهي تتبدّل بشكلٍ شبه يومي. لتغيير هذا الوضع، يجب أن تنسحب موسكو من معظم المناطق التي احتلّتها منذ بداية الغزو أو منها كلها على الأرجح.

إنها تحديات صعبة ولا يمكن البدء بمعالجتها إلا إذا اقتنع الطرفان بأنهما لن يستفيدا من تحقيق أهدافهما في ساحة المعركة. لا شيء ينذر بحصول ذلك حتى الآن، لكن إذا عادت موسكو وكييف إلى طاولة المفاوضات، قد يُمهّد بيان اسطنبول لحل المعضلة المرتبطة بمكانة أوكرانيا، فتتحول المنافسة الجيوسياسية على انتماء البلد إلى التزام مشترك بأمنه على المدى الطويل. إذا نجح إطار العمل هذا، قد يشكّل نموذجاً لدول عدم الانحياز الأخرى، مثل مولدوفا وجورجيا، وللهندسة الأمنية الأوروبية الجديدة أيضاً، حيث يبقى الغرب وروسيا خصمَين جيوسياسيَين لكنهما يتقبلان بعض الخطوط الحمراء.

سيكون التفاوض على أي اتفاق مبني على بيان اسطنبول بالغ الصعوبة، إذ تتعدد العوائق التي تحول دون إبرامه، منها المعطيات السياسية الكامنة وراء الصراع، وجرائم الحرب الروسية، والقتال المستمر. لكن يبقى هذا المسار حتى الآن الخيار الأكثر واقعية لإرساء سلام دائم في أوكرانيا.


MISS 3