تيد نوردهاوس

الحرب الروسية تُنهي السياسة المناخية المتعارف عليها

16 حزيران 2022

المصدر: Foreign Policy

02 : 05

آلاف المتظاهرين خلال قمة COP26 للمطالبة باتخاذ إجراءات بشأن التغيّر المناخي
بعد أربعة أيام على توغل الدبابات الروسية في أوكرانيا، أصدرت الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ في الأمم المتحدة أحدث تقييم لتداعيات الاحتباس الحراري. بذلت وسائل الإعلام الرائدة قصارى جهدها لتسليط الضوء على أسوأ السيناريوات والنتائج الواردة في التقرير. لكنّ اندلاع أول حرب أوروبية كبرى منذ العام 1945 أبعد الأنظار عن ذلك التقرير أو وضعه في خانة الأخبار الثانوية على الأقل. لم يستطع عنوان "التغير المناخي يؤذي كوكب الأرض بما يفوق طاقتنا" أن ينافس عنوان "بوتين يلوّح بالخيار النووي". في غضون ذلك، أصبحت وعود الاقتصادات الأوروبية الكبرى بكبح الانبعاثات بالكامل، قبل ثلاثة أشهر فقط من بدء الغزو خلال قمة مناخية للأمم المتحدة في غلاسكو، محط سخرية في ظل تهافت دول غرب أوروبا لاستبدال إمدادات الغاز والنفط والفحم الروسية بمصادر بديلة. في الوقت نفسه، عادت مسألة أمن الطاقة إلى الواجهة، إذ تواجه الدول المشاكل أصلاً بسبب نقص مصادر الطاقة وارتفاع الأسعار، وهي تتعامل راهناً مع عدائية قوة مؤثرة في مجال الوقود الأحفوري في شرق أوروبا.

من المتوقع أن تتأثر جميع سياسات الطاقة، بعد غزو أوكرانيا، بضرورات أمن الطاقة التي تشبه تلك التي كانت سائدة خلال الحرب الباردة. لن تلتزم الدول هذه المرة بقيود الأهداف العلمية التي وجّهت السياسة المناخية في السنوات الأخيرة، بل بإمدادات الطاقة المتاحة أمامها.

قد تُحقق الحالات الطارئة في قطاع الطاقة بعد حرب أوكرانيا ما لم تُحققه الطوارئ المناخية طوال الفترة السابقة. لطالما شكّلت الحلول التنظيمية الشائبة التي طرحتها الحركة البيئية وخياراتها التكنولوجية العشوائية عائقاً أمام قدرتها على تأييد السياسات المناخية الفاعلة بالمستوى المطلوب للتأثير على ظاهرة الاحتباس. حتى أن تخفيف التركيز على المناخ مقابل التشديد على أمن الطاقة، لا سيما في الغرب، قد ينجح في معالجة التغير المناخي أكثر من الحركة المناخية بحد ذاتها.

لن يعود التغير المناخي الحدث المحوري بكل بساطة. حين كانت الولايات المتحدة وأوروبا تحاولان تحريض المجتمع الدولي لعزل روسيا سياسياً واقتصادياً، لم يتنبه الكثيرون إلى قلة حماس الصين والهند ومعظم الدول النامية.

إنه موقف براغماتي من ناحية معينة، إذ تبقى روسيا من أبرز موردي المواد الغذائية، والوقود، والأسمدة، والأسلحة، وسلع أساسية أخرى، إلى مناطق كثيرة حول العالم. لكن ينجم هذا الموقف من ناحية أخرى عن شيوع مظاهر الفساد والقومية العرقية وانعدام الليبرالية على الطريقة الروسية في أماكن كثيرة أخرى. قد لا يتأثر القادة القوميون بحرب بوتين مباشرةً، لكن يتعاطف عدد كبير منهم مع رفض بوتين القاطع للمؤسسات والمعايير الغربية التي رسمت معالم العالم بعد حقبة الحرب الباردة.

لكن يمكن لوم عدم تماسك مبادئ القادة الأميركيين والأوروبيين على جزء من مشاعر التعاطف مع روسيا. بحجّة إنقاذ العالم من التغير المناخي، دعا القادة الغربيون الدول النامية إلى التخلي عن تطوير موارد الغاز والنفط والنمو الاقتصادي الذي يمكن تحقيقه عبر تلقي الوقود الأحفوري. تعتبر الحكومات في أفريقيا وأجزاء أخرى من العالم النامي هذا الموقف منافقاً نظراً إلى فرط اتكال الاقتصادات الصناعية على الوقود الأحفوري، وهم محقون بموقفهم. حين كانت دول غربية مثل ألمانيا تتابع بناء مصانع الفحم، راحت تدعو الدول الأكثر فقراً إلى وقف توليد الطاقة باستعمال الفحم تدريجاً. وكادت الحكومات في الدول الغنية توقف معظم تمويل البنى التحتية العاملة بالوقود الأحفوري مع أنها تابعت استغلال مواردها المحلية.

نتيجةً لذلك، أصبحت مشاعر البغض راسخة بين مختلف الأطراف. طوال عقود، عارضت الحركات البيئية الغربية ومنظمات غير حكومية أخرى، بدعمٍ ضمني أو مباشر من الحكومات والمؤسسات التنموية الدولية، تطوير الطاقة والموارد على نطاق واسع، بدءاً من السدود والمناجم وصولاً إلى استخراج النفط والغاز.

غالباً ما تكون مخاوف المنظمات غير الحكومية في مجال البيئة وحقوق الإنسان صادقة. لكنّ طبيعة الالتزامات الغربية الفوقية والمبنية على المصالح في هذه الملفات أجّجت المشاعر المعادية للغرب منذ حقبة الاستعمار.

في السنوات الأخيرة، أعطت المساعدات التنموية الغربية الأولوية لعوامل مثل الشفافية، ومشاركة المجتمع المدني، وتحرير السوق، والتغير المناخي. هذه العوامل كلها تتماشى مع المقاربات الغربية عموماً، لكنها أدت عملياً إلى انسحاب الحكومات الغربية ووكالات التنمية والمؤسسات المالية من جميع استثمارات البنى التحتية، ومبادرات تطوير الطاقة، ومشاريع أخرى مرتبطة بالموارد في جميع أنحاء العالم النامي.

في المقابل، لا تحمل الصين وروسيا أي هواجس مشابهة بل إنهما كثّفتا استثماراتهما في مجال الطاقة واستخراج الموارد والبنى التحتية لتحقيق مصالحهمــا الجيوسياسية. همـا تريدان أن تتكل عليهما الدول الأخرى لتحقيق أولوياتهما الاقتصادية تزامناً مع اكتساب نفوذ دولي. اتضحت فاعلية هذه الاستراتيجية أمام الجميع منذ غزو أوكرانيا.

في ظل هــــذه الظروف، كيف يمكن أن تقيم الولايات المتحدة والديمقراطيات الليبرالية الأخرى التوازن المناسب بين التزاماتها تجاه المجتمعات الديمقرطية والمنفتحة وضرورة فصل اقتصادات الطاقة فيها عن الصين وروسيا من جهة، والجهود الغربية الرامية إلى التصدي لدبلوماسية الموارد التي تطبّقها روسيا والصين في العالم النامي من جهة أخرى؟ وكيف يمكن أن تدعم المبادرات المناخية في زمنٍ يعطي الأولوية لمسائل مختلفة؟

لتحقيق هذا الهدف، تبرز الحاجة إلى ابتكار مسار جديد للتواصل مع العالم، ما يعني رفض النفاق الأخلاقي الذي طبع أداء الغرب والأجندة غير الأخلاقية التي تحرك الصين وروسيا. في معظم أنحاء العالم، يجب أن تُجدد المؤسسات التنموية الغربية استثماراتها في المشاريع التي أثبتت قدرتها على تحقيق التنمية الاقتصادية، أي البنية التحتية الصلبة وتطوير الطاقة وموارد أخرى.

تكثر الالتزامات التي ترافق هذا النوع من الاستثمارات، لكن يُفترض أن تتضاعف الجهود لإرساء الديمقراطية والشفافية وحماية حقوق الأقليات، بدل إطلاق مشاريع مبنية على مجموعة مطالب مرتبطة بالآثار البيئية المحلية أو المبادرات الوطنية لمعالجة التغير المناخي.

على صعيد آخر، يجب أن تحاول المجتمعات الليبرالية إشراك الحلفاء والموردين في نظام سياسي واقتصادي أخلاقي ومتعدد الأطراف ومبني على قواعد واضحة، تزامناً مع الاعتراف ببطء عمليات إرساء الديمقراطية والتنمية الاقتصادية والتقدم البيئي، واحتمال أن يتدخل المنافسون الجيوسياسيون بكل سرور حين ينسحب الغرب من اللعبة. كذلك، يجب أن ينعكس اختيار الاستثمارات والتقنيات الغربية إيجاباً على سهولة الوصول إلى الأسواق وسلاسل الإمدادات التي تسمح للاقتصادات الناشئة بالتفوق في قطاعات أساسية مقابل تهميش روسيا والصين.

بدأ تحوّل بارز يتحقق في هذا الاتجاه منذ الآن. تُركّز النسخة المخففة من اتفاق التجارة والاستثمار العابر للمحيط الهادئ، الذي سافر الرئيس الأميركي جو بايدن لتسويقه في آسيا حديثاً، على إشراك الحلفاء الآسيويين في سياسة صناعية جماعية تهدف إلى إضعاف موقع الصين الطاغي في قطاع البطاريات والطاقة المتجددة.

من المتوقع أيضاً أن يفرض الاقتصاد العام شكلاً من الانضباط على السياسات المثالية التي انتشرت في معظم الفترات التي تلت الحرب الباردة للتعامل مع التغير المناخي. قد يؤدي استمرار تراجع الموارد المالية، فضلاً عن انهيار عدد كبير من مخازن التكنولوجيا المتطورة وموارد العملات الرقمية، إلى تلاشي الهبات والاستثمارات التي تقوم بها الجمعيات الخيرية المعنية بشؤون البيئة والجهات المانحة التي تموّل الحركة المناخية. قد تسمح هذه العوامل بإخماد الخطابات المناخية التي شوّهت صناعة السياسة في السنوات الأخيرة.

في الوقت نفسه، قد تضع مشاكل التضخم ونقص الطاقة وزيادة العجز العام حداً للسياسة المالية المتساهلة والتوسعية التي سادت في العقود الأخيرة. حتى أن احتمال انكماش الإعانات السخية التي تموّل العملية الانتقالية في مجال الطاقة قد يختبر المزاعم القائلة إن طاقة الرياح والطاقة الشمسية قد تنافسان الوقود الأحفوري في مناطق كثيرة.

لا تتماشى هذه الأفكار مع مختلف المقاربات الرامية إلى تخفيض الانبعاثات وتفعيل التنمية الخضراء. لكن قد تتغير سياسات المناخ والطاقة بدرجة كبيرة، لا سيما في الغرب، فتنتقل من دعم الطلب على منتجات مثل الألواح الشمسية والسيارات الكهربائية إلى تحرير العرض في محطات الطاقة النووية وخطوط نقل الجهد العالي. قد تصبح ركيزة سياسات الطاقة النظيفة أكثر صلابة من الناحية الاقتصادية بفضل هذا التحوّل الذي يوقف دعم التقنيات الخضراء التي يفضّلها الناشطون وجماعات الضغط، ويتّجه إلى دعم الركائز التكنولوجية والتنظيمية والبنيوية الخاصة بالعملية الانتقالية في قطاع الطاقة. من الأفضل أيضاً أن تتماشى الأهداف المناخية مع ضرورات أمن الطاقة.

أثبتت التطورات في الأشهر الماضية أن مظاهر الحرب وانعدام الأمان والأزمات الاقتصادية تعطي نتائج وحشية. كان المدافعون عن المناخ وحلفاؤهم السياسيون يشاركون في معظم الأوقات في سياسة استنزاف إمداداتهم الخاصة، فقد خلطوا بين نمو قطاع الطاقة المتجددة بفضل الإعانات والأدلة التي تثبت استعداد العالم للتخلي عن الوقود الأحفوري في أسرع وقت. نتيجةً لذلك، أضعفت هذه الأطراف إنتاج الغاز والنفط عند الإمكان وحصرت استثماراتها في مصادر أخرى للطاقة النظيفة، مثل الطاقة النووية. لكن رغم إحراز تقدّم تكنولوجي واضح، لا يزال الاقتصاد العالمي بعيداً كل البعد عن استبدال الوقود الأحفوري بالكامل.

أخيراً، يذكّرنا تزامن الحرب في أوروبا مع أزمة أمن الطاقة العالمية بأن الغرب لا يختلف كثيراً عن بقية دول العالم. في جميع الأحوال، يبقى تطوير الطاقة وأمنها محور الجهود كلها. يجب أن تتكيف أي استراتيجية عالمية مع هذا الواقع إذا أرادت بناء معسكر قوي ضد الاستبداد القومي العرقي، وإرساء الاستقرار الاقتصادي، والانتقال إلى مستقبل منخفض الكربون.


MISS 3