المرحلة الانتقاليّة في الاتّحاد الأوروبّي... بداية متعثّرة!

10 : 13

حين كان يُفترض أن يستعد الاتحاد الأوروبي للمضي قدماً ككتلة موحّدة، ضعفت مؤسساته الثلاث الكبرى واحتدمت الصراعات بين أعضائه. كان متوقعاً أن يشهد هذا العام تجاوز ثلاث أزمات مرتبطة بمنطقة اليورو والهجرة وتصويت بريطانيا على قرار انسحابها من الاتحاد. غداة الانتخابات الأوروبية في شهر أيار، تعهد الاتحاد الأوروبي بسماع صوت ناخبيه ومعالجة المشاكل العالمية، مثل التغير المناخي، والحروب التجارية، والتحوّل الرقمي، والهجرة، عبر اتخاذ خطوات مناسبة وفاعلة.لكن منذ 1 تشرين الثاني، أي التاريخ الذي يُفترض أن تستلم فيه رئيسة المفوضية الأوروبية المرتقبة أورسولا فون دير لين منصبها، يبدو هامش تحرك الاتحاد الأوروبي مبهماً أكثر من أي وقت مضى فكيف بالحري قدرته على إعادة ابتكار نفسه؟ بدل أن يقود المجلس والمفوضية والبرلمان الاتحاد الأوروبي نحو حقبة أكثر تكاملاً بعد انسحاب بريطانيا، تخوض هذه المؤسسات الثلاث الأساسية صراعات كبرى، مع أن التعاون بينها محوري لضمان فعالية عمل الاتحاد.


حين تستلم فون دير لين منصبها في 1 كانون الأول، ما لم يحصل أي تأخير إضافي، ستكون سلطتها قد ضعفت نتيجة الصدامات الحاصلة في البرلمان، والخلافات القائمة مع العواصم الوطنية، والجدل المحتدم حول تعييناتها وطريقة توزيع المهام في فريقها.

باختصار، لم تكن قدرة الاتحاد الأوروبي على تنفيذ أهدافه الطموحة التي حدّدها بنفسه ضعيفة لهذه الدرجة يوماً.

برلمان منقسم

أثبتت زيادة أعداد المشاركين في الانتخابات الأوروبية في شهر أيار أن شريحة إضافية من المواطنين تتّكل على الاتحاد الأوروبي لإيجاد الحلول. لكنّ الاقتراع أنتج مجلساً تشريعياً أكثر انقساماً، ما يعني زيادة صعوبة تشكيل الائتلافات السياسية وتطبيق السياسات المتّفق عليها.

لم يعد "حزب الشعب الأوروبي" اليميني الوسطي ولا المعسكر الاشتراكي اليساري الوسطي يملكان الأغلبية معاً. بل أصبحت كتلة "تجديد أوروبا" الليبرالية بقيادة ماكرون (خصم وسطي طموح لـ"حزب الشعب الأوروبي") شريكة ثالثة إلزامية في أي ائتلاف مؤيد للاتحاد الأوروبي، وأدى توسّع نفوذها إلى اضطراب الاحتكار الثنائي للسلطة وزعزعة استقرار النظام القائم.

لم يتقبل البرلمان الجديد حتى الآن صدمة التخلي عن غربلة أبرز المرشحين لانتقاء رئيس المفوضية. ولا يهتم سماسرة السلطة فيه بتسهيل الوضع على رئيسة المفوضية التي اختيرت خلال مفاوضات بين قادة الأمم المتحدة خلف الكواليس.

لقد انتقموا لأنفسهم عبر رفضٍ متبادل لثلاثة مرشحين لرئاسة المفوضية، فوجهوا ضربة موجعة لفون دير لين والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعد تنحية مرشّحته سيلفي غولار بسبب عدم أهليتها.

توقّع مسؤول مخضرم في الاتحاد الأوروبي أن تحتاج المفوضية لوقتٍ أطول بكثير قبل التوصل إلى تسويات فاعلة.

إنه نبأ سيئ بالنسبة إلى فون دير لين التي فازت بمنصبها بفارق ضئيل اقتصر على تسعة أصوات في البرلمان، ويبدو أن برنامجها الرئيسي (أي "الاتفاق الأخضر الأوروبي" المُصمّم لتسريع المرحلة الانتقالية المتعثرة في الاتحاد الأوروبي وصولاً إلى اقتصاد منخفض الكربون) سيكون صعب التطبيق عبر مؤسسات منقسمة ومتناحرة، نظراً إلى التغيرات الجذريـــــة المفــروضة على أســلوب حيــــــــاة المـــــــــواطنين والشركات وعاداتهم ونفقاتهم.

نتيجة الانقسامات بين الشمال والجنوب وبين الشرق والغرب، عجز تكتل الحكومات الوطنية (لا يزال يسيطر على الإنفاق والاقتصاد الوطني والسياسات الاجتماعية) عن التوافق على مجموعة من القرارات المحورية لتقوية منطقة اليورو، وتدعيم النظام المصرفي في التكتل، وإصلاح سياسات اللجوء والهجرة الفاشلة، ومحاربة الاحتباس الحراري، وإعادة الاستقرار إلى دول غرب البلقان. تكمن المفارقة في تحوّل النهج الموحّد والكفوء الذي اعتمده الاتحاد الأوروبي للتعامل مع المفاوضات المعقدة والمثيرة للانقسام حول خطة "بريكست" إلى نموذج نادر من التماسك السياسي والعابر للمؤسسات. توقع ميشال بارنييه، كبير المفاوضين الأوروبيين في ملف "بريكست"، أن يستفيد قادة الاتحاد الأوروبي من هذه الوحدة لمعالجة التحديات الكبرى ووضع "أجندة إيجابية"، لكن لا شيء يشير عملياً إلى تمدّد تلك الوحدة وتأثيرها على مسائل أخرى.

تتعارض استشارات بارنييه المتأنية وأسلوبه في حصد الإجماع مع جهود ماكرون الحثيثة للسيطرة على بروكسل بالقوة. يبدو أن الكثيرين يخشون اليوم هيمنة فرنسا على الاتحاد الأوروبي بعد انسحاب بريطانيا أكثر مما يخشون فشلهم الجماعي في الشؤون الدولية.

اليوم، يحاول الرئيس الفرنسي، بعدما أحرقه البرلمان، أن يخفي الصراع القائم بين المؤسسات كونه يُهدد بإفساد عهد فون دير لين. لكنه يزيد الوضع سوءاً للأسف. في عهد المجلس الأوروبي الأخير، سعى ماكرون إلى التفاوض على هدنة خلال فطور مشترك مع فون دير لين، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وقادة وطنيين من ثلاث كتل سياسية بارزة، لضمان أن يصبح مرشّحه بديلاً عن غولار بأسهل طريقة ممكنة.

لكن لا يرغب القادة البرلمانيون في تلقي الأوامر من قادة وطنيين أو تقبّل أي تدخل في حقهم بمراجعة لائحة المرشحين لرئاسة المفوضية.

مثلث برمودا

تتوقع أوساط داخلية في بروكسل أن تندلع "حرب الجميع ضد الجميع" المستوحاة من نظرية توماس هوبس، حيث تناضل كل مؤسسة للحفاظ على مساحتها الخاصة وتحارب القوى الناشطة في كل مؤسسة خصومها: الدول المساهِمة في الميزانية الصافية في مواجهة صافي المستفيدين؛ نواب رؤساء المفوضية الطموحون في مواجهة فون دير لين وجميع الأعضاء الآخرين؛ "حزب الشعب الأوروبي" في مواجهة كتلة "تجديد أوروبا" والعكس صحيح.

لتقييم احتمال إنجاز الأهداف الكبرى خلال السنوات الخمس المقبلة، يتعلق أول اختبار صعب بقدرة الحكومات والبرلمان في الاتحاد الأوروبي على التوافق حول ميزانية طويلة الأمد، ما بين العامَين 2021 و2027، بعد انسحاب بريطانيا من الاتحاد.

حتى الآن، لا يبدو الوضع القائم واعداً. تباطأت المحادثات خلال قمة المجلس الأوروبي في وقتٍ سابق من هذا الشهر، حيث اعترف القادة بأنهم لم يقتربوا بعد من التوصل إلى تسوية حول حجم الميزانية وطريقة صرفها والمستفيدين من تخفيضات.كذلك، يتفاقم الانقسام بين مختلف المعسكرات بسبب التجادل حول صوابية ربط التمويل بمعايير مثل الالتزام بحكم القانون، ما يوحي بأن الاتفاق على الميزانية قد يتأخر.

يتمنى الناخبون الأوروبيون الذين شاركوا في الاستحقاق الانتخابي بأرقام قياسية في شهر أيار أن يتفق القادة في بروكسل وعواصم وطنية أخرى على طريقة للتعاون في ما بينهم. بعض الأسباب يدعو للتفاؤل.

كانت جولات التقاتل الماضية بين المؤسسات تنتهي في معظم الأوقات بتسويات بناءة بعد فترة من اختبارات إثبات القوة. مهّد "التيبّس الأوروبي" في بداية الثمانينات لتحقيق إنجاز كبير، فحصل تعاون وثيق حينها بين رئيس "اللجنة الاشتراكية الفرنسية" ورئيس وزراء بريطاني مُحافِظ لبناء سوق مشتركة. بالطريقة نفسها، تُقدّم تحولات السلطة السريعة التي جعلت المؤسسات تواجه بعضها البعض فرصاً جيدة لتحقيق الإنجازات.

بدأ انسحاب بريطانيا الوشيك يُغيّر ميزان القوى داخل المجلس الأوروبي الذي يحتاج إلى إيجاد موطئ قدم جديد له في المرحلة المقبلة. كذلك، يحتاج البرلمان الجديد (أكثر من نصف أعضائه قادمون جدد) إلى الوقت كي يعتاد على طرق تقاسم السلطة. تقضي إحدى الطرق بالتفاوض على منصة سياسية مشتركة تشبه اتفاق التحالف الألماني لبناء ثقة متبادلة وتكليف أعضاء البرلمان الأوروبي بدور بنّاء بدل أن يصبحوا عائقاً أمام تحقيق أي هدف.

بغض النظر عن القرار النهائي، بين المجلس والمفوضية والبرلمان، أو بين "حزب الشعب الأوروبي" والاشتراكيين وكتلة "تجديد أوروبا"، لا يمكن إحراز أي تقدم في أوروبا بعد "بريكست" إلا بتعاون ثلاثي الأطراف!


MISS 3