جوزيفين حبشي

عاصي الرحباني... رحل في الصيف وأخذ معه الفصول كلّها

21 حزيران 2022

02 : 05

فيروز وعاصي

كم غريب أن يرحل عاصي الرحباني، أبو الفن اللبناني، في 21 حزيران من سنة 1986، مع أول يوم من أيام فصل الصيف، وفي يوم عيد الموسيقى وعيد الأب.

غريب أن يرحل حبيب فيروز في الصيف، وهي التي غنّت له "حبيتك بالصيف"، و"صيّف يا صيف عَ جبهة حبيبي". رحل عاصي في الصيف وأخذ معه الفصول كلّها، فلم يعد اللوز يضحك في الربيع، ولا العصفورة تعشش في القرميد، ولم يعد الذهب ذهباً يلمع في ورق أيلول، ولم يعد الرصيف ملقى العاشقين، بل تحوّل بحيرة دموع، وشارع الأنغام غريق.

لطالما كان عاصي الرحباني قلقاً على صحته، وخصوصاً من تلاعب ضغط الدم، كما ذكر يوماً طبيب العائلة الدكتور فريد أبو جودة للشاعر هنري زغيب. "كان خائفاً من "مجهول ما" قد يغدر به فجأة فيكون عمره قصيراً. وصدق حدسه، ففي "آخر أيام الصيفية " وتحديداً في 26 أيلول من عام 1972، أصيب عاصي الرحباني الذي لم يتجاوز يومها الـ49 عاماً، بنزيف حادّ في الجهة اليسرى من دماغه. تم نقله بأقصى سرعة إلى مستشفى رزق في بيروت، حيث أشرف على حالته الحرجة والدقيقة فريق من الأطباء الذين أكدوا أن أسباب النزيف عديدة، كالعوامل الوراثية أو التدخين المُفرط أو العمل دون راحة. أسباب كلها تنطبق على وضع عاصي الرحباني الذي كان يقبع في المستشفى، معلقاً بين الحياة والموت، وربما كان يتهادى إلى مسامعه صوت فيروز الملائكي ينشد له "بيتي أنا بيتك وما إلي حدا، من كثر ما ناديتك وسع المدى. لا تهملني لا تنساني ما إلي غيرك لا تنساني".



فيروز وعاصي




العملية الجراحية لدماغ عاصي كانت ضرورة قصوى يومها، رغم المخاطر الجمّة التي كان يعتبر أقلها العمى، الشلل، تلف الدماغ أو جميعها معاً. مخاطر لم يجرؤ أحد من الأطباء الاختصاصيين في بيروت أن يقدم على تحدّيها، لمعرفتهم بحجم الكنز الفني والإنساني الموضوع تحت مبضعهم. وهكذا تمّ الاقتراح باستدعاء رئيس قسم جراحة الدماغ والنخاع الشوكي في مونبلييه (فرنسا) البروفسور لوغرو. بعد رحلة شاقة، بدّل خلالها الجرّاح الشهير ثلاث طائرات (لعدم وجود رحلة مباشرة)، وصل لوغرو إلى المستشفى البيروتي عند منتصف الليل. إطلع على الصور الشعاعية واختلى فوراً بفيروز ومنصور وطبيب العائلة فريد أبو جودة، واستمع منهم إلى كافة التفاصيل التي سبقت انفجار دماغ عاصي: الصداع القوي ثم الدوار، ثم تلعثم اللسان قبل أن... "ضاع شادي". وتم تحديد العملية الخطرة في الثامنة من صباح اليوم التالي، وفوجئ البروفسور الفرنسي أثناء إجرائها بحجم دماغ عاصي. قال: "هذا دماغ غير عادي، أكبر من الحجم الطبيعي". كما وصف العملية يومها بأنها الأدق والأخطر بين العمليات التي سبق وأجراها، وأن حجم دماغ عاصي أكبر من أدمغة خمسة وخمسين مريضاً أجرى لهم عمليات مماثلة حول العالم. ويبدو حسب الطبيب، دماغه الكبير هو الذي ساعده على تحمّل وطأة النزيف، ومنع بالتالي حصول مضاعفات كانت ستؤدي إلى شلل في سائر أعضائه.




عرس عاصي وفيروز




يومها كان العالم العربي كلّه في حالة ترقّب وصلاة ودعاء. وما إن تم الإعلان عن نجاح العملية، حتى عمّ الفرح في كافة أرجاء لبنان، وقُرعت أجراس الكنائس، ورُفعت صلوات الشكر. ورغم إعلان البروفسور لوغرو أن مراحل شفاء عاصي ستمتد إلى خمسة أو ستة أشهر، إلا أن العبقري اللبناني خالف التوقعات، واستطاع الخروج من المستشفى سيراً على الأقدام بعد شهرين فقط على إجراء العملية. معجزات عاصي الرحباني توالت، فبعد أقلّ من ثلاثة أشهر على أزمته الصحيّة، استطاع الإمساك بآلة البزق، وعزف لحناً جديداً هو لحن اغنية "ليالي الشمال الحزينة". هذه الأغنية قدمتها فيروز في مسرحيّة "المحطّة" التي كان قد كتبها عاصي ولحّن جزءاً كبيراً منها قبل إصابته بالنزيف في دماغه. وبعد مرور أقل من أربعة أشهر على العملية الجراحية، إستأنف عاصي حياته بشكل طبيعي، كالنزول يومياً إلى مكتبه في شارع بدارو في بيروت. وتحوّلت من جديد ليالي الشمال الحزينة إلى سعيدة، إلى أن تم إدخال عاصي مجدداً الى المستشفى في أوائل ثمانينات القرن الماضي. وتكرّر الدخول إلى المستشفى، وكانت آخر مرّة في أوائل العام 1986، بعدما دخل في حالة غيبوبة دامت ستّة أشهر.

يوم السبت 21 حزيران من سنة 1986، رحل عاصي. كم غريب أن يغيب والد الموسيقى والفن اللبناني في يوم عيد الموسيقى وعيد الأب. كم غريب أن تغرب شمسه في أول أيام الصيف، فيرحل تاركاً ملهمته فيروز التي غنّت له من ألحان ابنهما زياد: "سألوني الناس عنك يا حبيبي، كتبوا المكاتيب وأخدها الهوا، بيعز عليي غني يا حبيبي، ولأول مرة ما منكون سوا". فيروز التي التقاها للمرة الأولى عام 1950 أثناء دخولها الإذاعة اللبنانية مع الطلائع، فعشق صوتها وقدّم لها أول لحن منه، لحن أغنية "غروب".


MISS 3