محمد عبيد

مفاوضات الحدود البحرية: "أوسلو" لبناني!

21 حزيران 2022

02 : 00

هوكشتين مع الزميلة منى صليبا على قناة "الحرة"

ربما لم يعد لبنان بحاجة الى معرفة رد كيان العدو الإسرائيلي على جوابه على المقترح الذي سبق وتقدم به المبعوث الأميركي آموس هوكشتين الى السلطة السياسية اللبنانية. إذ يكفي مشاهدة المقابلة التي بثتها قناة «الحرة» قبل أيام عدة مع هوكشتين حتى يتيقن أن السقوف التفاوضية التي أوردها في المقابلة كافية لرسم خريطة النهايات المحتملة للمفاوضات غير المباشرة الموعودة. ذلك أن هوكشتين حصر النزاع القائم بين لبنان و»إسرائيل» بين الخطين 1 و23 المودعين من كلا الطرفين لدى دوائر الأمم المتحدة، معتبراً أن الطرف الإسرائيلي يمتلك كل شيء، أما الجانب اللبناني فلا شيء لديه وبالتالي عليه القبول بما يُعطى له من دون وضع مطالب على الطاولة تتجاوز قدراته الواقعية، أو لا تأخذ بعين الاعتبار مساحته الضيقة في المناورة أو أن ينتظر تبدلاً في التوازنات الإقليمية تتيح له تحسين شروطه في التفاوض.

يبدو أن آموس هوكشتين تقصد أن يتصرف باستهزاء في معرض جوابه على إمكانية المقايضة بين حقلي «كاريش» و»قانا»، مما يعني أن الأساس الذي بُنيَ عليه الجواب اللبناني ساقط أصلاً. كذلك لم تخلُ مفردات هوكشتين من التهديد المبطن بأن لا سبيل لاستعادة لبنان بعضاً من العافية «الكهربائية» أو المعيشية أو الاستثمارية إلا بعد قبوله بالتنازل حتى عن المتنازل عنه أصلاً!

والأسوأ من ذلك كله أن السلطة السياسية اللبنانية التي اتحدت على باطل التنازل عن أوراق قوتها التفاوضية من خلال الهروب من تعديل المرسوم 6433، سيطول انتظارها لعودة المبعوث الأميركي المنشغل أصلاً بأمور الطاقة العالمية التي تتصدر اهتمامات حكومات الدول كافة، خصوصاً وأنه لم يكلف نفسه نقل الجواب اللبناني بنفسه الى حكومة العدو وسيكتفي بإيفاد بعضاً من فريق عمله للمتابعة، مما يعني أن الإجراءات الإسرائيلية القائمة في حقل «كاريش» ستستمر وكأن شيئاً لم يحدث ولم يُقل.

السؤال الأبرز الذي يطرح نفسه اليوم: ماذا تبقى من أوراق قوة بيد السلطة اللبنانية لتكون بدائل ممكنة التنفيذ في حال لم تتلق رداً «مقبولاً» على طرحها الأخير؟!

الجواب ستكشفه الأسابيع القليلة المقبلة، لكن الأهم أن هذه السلطة لم تتعظ من تجارب التفاوض العربي-الإسرائيلي، وخصوصاً منها التجربة الفلسطينية. «أوسلو» لبناني

كان سهلاً على المبعوث الأميركي آموس هوكشتين أن يعيد استعمال المنطق نفسه الذي اعتمدته إدارات بلاده المتعاقبة في مقارباتها لملف التفاوض الفلسطيني-الإسرائيلي، هذا المنطق الذي أخرج فلسطين، كامل فلسطين، من بازار التفاوض ليتم حصره في المساحات المتقطعة غير المترابطة الذي تضمن الاطمئنان لإسرائيل وفق معادلة: «أنتم لا تملكون شيئاً، الأفضل لكم أن تقبلوا بما يُعرَض عليكم». انطلقت القيادة الفلسطينية آنذاك على أساس التنازل عن كامل فلسطين والقبول بما يسمى حدود الـ»67» ومن ضمنها الجزء الشرقي من القدس. وبالمقارنة فإن السلطة اللبنانية انطلقت في مفاوضاتها مع هذا المبعوث من التسليم بالتنازل عن حدود الخط 29 والقبول بالخط 23 كحدٍ أقصى للتفاوض بدءاً منه.

بعد ذلك انتقلت القيادة الفلسطينية من التفاوض على حدود الـ»67»، الى القبول بغزة وأريحا كمحطة أولية لانتقال هذه القيادة إليها. كذلك انتقلت السلطة اللبنانية من التفاوض على الخط 23 الى مناقشة العرض الذي قدمه هوكشتين والذي يقتطع فيه جزءاً من البلوك اللبناني رقم 8 لصالح كيان العدو الإسرائيلي!

ومهما يكن الرد الشفهي الذي سمعه المبعوث الأميركي من المسؤولين اللبنانيين، إلا أن خط التنازل التدريجي الذي اعتمده هؤلاء المسؤولون كآلية لمقاربة ملف التفاوض المباشر مع الأميركي، أظهر عدم خبرة ودراية مسؤولي السلطة اللبنانية، هذا إذا أردنا اصطناع مبررات لهم. أما الواقع فإن سلاح التهديد المبطن بالعقوبات الأميركية الحاضر دائماً في كواليس الجلسات مع «الوسطاء» الأميركيين المتعاقبين، إضافة الى الأدوار التي تلعبها حاشيات هؤلاء المسؤولين ومن بينهم مستشارون برتب مختلفة بين لاهثٍ لكسب رضى الأميركي أو آخر إمتهن وظيفة المنسق للأنشطة الأميركية، كل ذلك أفضى الى أن تكون السلطة اللبنانية أسهل وأسرع في الإذعان للعرض الأميركي الذي ضَيَّق مساحة المنطقة التي من المفترض أن يكون النزاع حولها الى حدود تسمح للعدو الإسرائيلي باستكمال خططه للسيطرة على كامل المساحة جنوب الخط 23 باتجاه فلسطين المحتلة.

لبنان والأمم المتحدة

إن تصحيح الموقف اللبناني يبدأ من العودة الى تعديل المرسوم رقم 6433 وإيداعه الأمم المتحدة مرفقاً بالإحداثيات التي تدعم هذا الموقف، والتي تدفع بهذه المرجعية الدولية المسؤولة عن إحلال القانون الدولي كأساس لحل النزاعات بين الدول والشعوب، تدفعها الى الضغط على إسرائيل كافة أعمال التنقيب والاستخراج شمال الخط 29. وإن أي اعتقاد بأنه لا يمكن الرهان على الأمم المتحدة لنيل لبنان حقوقه السيادية في ثرواته من مياهه، يعتبر إضعافاً للموقف اللبناني وتنازلاً عن حقوق ضمنها القانون الدولي وخصوصاً منه المتعلق بالبحار وبكيفية ترسيم الحدود بين الدول والكيانات المتنازعة.

إضافة الى أن إيداع التعديل المذكور لدى دوائر الأمم المتحدة المعنية سيوفر للبنان مشروعية قانونية دولية، تمنحه الحق في التصرف إزاء الاعتداءات الإسرائيلية على مياهه وثرواته. وبعبارة أوضح، فإن أي تصرف يمكن أن تقوم به الدولة من خلال الجيش اللبناني أو أن تنفرد المقاومة في القيام به تحت ذريعة عدم قدرة الدولة على التصدي للعدو، لا بد من أن يسبقه تثبيت لحقوق لبنان دولياً من خلال تعديل المرسوم المذكور، وإلا سيعتبره ما يسمى المجتمع الدولي «اعتداءً» لأنه يفتقد الى السند القانوني الدولي كون لبنان لم يعترض رسمياً على الأعمال الإسرائيلية.

وللتذكير، فإن المشروعية التي اكتسبها لبنان ومقاومته من خلال القرار الدولي رقم 425 بعد الاجتياح الإسرائيلي في العام 1978، ما زالت قائمة حتى الآن في معرض مطالبته كيان العدو الإسرائيلي الانسحاب التام الى الحدود المعترف بها دولياً كما نص القرار المذكور، وعدم قبوله باعتماد ما يسمى «الخط الأزرق» كخط انسحاب نهائي والذي جرى ترسيمه من طرف العدو إثر دحره من الأراضي اللبنانية العام 2000.

إن تجاوز تعديل المرسوم 6433 كشرط سياسي أساسي لتثبيت حقوق لبنان دولياً ولإضفاء مشروعية قانونية دولية ووطنية لبنانية على أي فعل أمني أو عسكري لبناني رداً على الأعمال والإجراءات الإسرائيلية، سيزيد من أزمات لبنان الخارجية والداخلية.

إن الكرة في ملعب «حزب الله»، ذلك أن من تنازل عن حقوق لبنان هم حلفاؤه الذين كانوا متهالكين سياسياً وشعبياً والذين أعاد إنتاجهم في مواقع القرار في السلطة، وهم أنفسهم الذين يتهربون من اتخاذ قرار وطني جريء بتعديل المرسوم المذكور.

إن استنفاد الجهد السياسي والديبلوماسي يجب أن يشكل أولوية في مقاربة ملف الدفاع عن حقوق لبنان في مياهه وثرواته، على أن يكون بموازاة ذلك الاستعداد العسكري للدفاع عن هذه الحقوق بعد تثبيتها قانونياً، ولا يمكن أن يكون ذلك كله من خلال الانصياع لتهديدات المبعوث الأميركي أو عبر مسايرته ومراعاة خواطره.

MISS 3