د. غريس الياس

"الدولة المدنية" تعبير غير علميّ

30 حزيران 2022

02 : 00

إن «الدولة المدنية» تعبير غير علميّ، المصطلح الأدقّ هو «الدولة العلمانية». يقول الدكتور أحمد برقاوي أنه «لا يوجد في علم السياسة وفي الفلسفة السياسية مُصطلح «الدولة المدنيّة»»، فإن هذا المفهوم يُشرح بالصفات نفسها التي يُشرح فيها مُصطلح الدولة العلمانيّة.

فهو مصطلح سياسي مستحدث لم يكن موجوداً في علم السياسة قبل ثورات الربيع العربي، أول من طرحها الإخوان المسلمون وتم التوافق على أنها: الدولة ذات المرجعية المدنية بعيداً عن المرجعية الدينية والعسكرية، يعني دولة لا تحكم من قبل رجال الدين والعسكريين، فهم يرفضون الدولة العلمانيّة لأنها تصرّ على فصل الدين عن الدولة، لأنهم يريدون أن يقولوا إن الدولة المدنيّة لا تُلغي العلاقة بين الدين والدولة، لأن المجتمع المدني حرّ بإمكانه أن يقرر طريقة الحُكم، كي يجدوا طريقاً عبرها إلى الدولة التي تحكم، يمكن أن تكون فكرة «حاكمية الله» فكرة من أفكار الدولة المدنيّة. والحقيقة هو مصطلح غير دقيق، فيه مدخل أيديولوجي من أجل التغطية على الدولة الدينيّة.

أما بالإنتقال إلى لبنان، والمطالبة ب»الدولة المدنية» واعتبارها الحل من قبل التغييريين لما تعانيه الدولة اللبنانيّة من أزمات سياسيّة، فنبدأ بدايةً من المصطلح الذي هو مصطلح غامض وفيه لُبس.

ومن ثم نشير إلى أن دستور لبنان هو دستور مدنيّ لا ينصّ على عقائد وأسس دينيّة أي بالأساس لبنان «دولة مدنية». وحيث إن العلمانية ترتبط بالدولة، وهدف السلطة هو السيادة الشعبية، فالعلمانية هي تقنية تنظيم العلاقة بين الدين والدولة، في حين أن الطائفية السياسيّة ترتبط بالنظام، توزيع السلطة بين القوى الموجودة في المجتمع، إذاً فالطائفيّة السياسيّة ترتبط بالنظام السياسي، أما العلمانية فترتبط بالدولة.

والعلمانية ليست فلسفة بديلة عن التعاليم الدينية وليست تنظيماً بديلاً عن الطقوس والشعائر الدينيّة، هي ترجمة تقنيّة على صعيد الدولة للتحوّل المتمثل في إعادة صياغة السلطة السياسيّة وبنية الدولة، بمعزلٍ عن المعطى الديني ووفق مقتضيات إرادة الجماعة البشريّة والضرورات العقلانيّة والزمنيّة والمكانيّة. فالعلمانيّة تعني الحرية والخيارات في الشأن الديني، أي الدولة لا تعتنق أي فلسفة.

والمبدأ العام للدولة اللبنانيّة، هي دولة علمانية. وللتوضيح أكثر لبنان دولة علمانيّة ذات مظاهر دينيّة، هناك مجتمع يقوم على مظاهر دينية، ويظهر ذلك في الأحوال الشخصيّة. الدولة اللبنانيّة هي دولة مؤمنة وليست دولة دينية تيوقراطيّة، أي الدستور يؤمن بفكرة وجود الله ولا ينطبق عليه دين معين، فلا تشكل فروض الإجلال لله تعالى أيّ مسّ في حياد الدولة دينياً. فمثلاً يبدأ دستور الكومنولث الأسترالي:»حيث إن شعوب نيو ساوث ويلز، فيكتوريا، جنوب أستراليا، كوينزلاند، وتسمانيا، اعتماداً بتواضع على نعمة الله سبحانه تعالى، وافقوا على الاتّحاد في كومنولث واحد لا يتجزأ، تحت عهد المملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وايرلندا،...» وهذا لا يلغي أيضاً من علمانية الدولة الأسترالية.

إذاً، فدستور لبنان لا يُحدِّد للدولة ديناً رسمياً كما لا يجعل من أي شريعة دينيّة مصدر التشريع. والقوانين اللبنانية لا تستند إلى عقيدة إيمانية معينة، والقضاء يصدر أحكامه باسم الشعب اللبناني وليس باسم أي سلطة دينية، فإن أنظمة الأحوال الشخصية الدينية التعددية هي الإستثناء بحيث ليس من شأنها أن تقوِّض المنظومة الحقوقية للدولة التي تبقى بكل هيكليتها منظومة مدنية. إذاً فلبنان تتعايش فيه الدولة العلمانية مع المجتمع غير العلماني، فالجمهوريّة اللبنانية ديمقراطية مدنية لجهة فلسفتها الدستوريّة.

وحيث إن الفرد في لبنان ينتمي إلى طائفة والطائفة تبني النظام، فإذا ألغينا الطائفية فلن يلغى الإنتماء الطائفي بل ستلغى قاعدة المشاركة السياسيّة في بناء النظام ويحلّ محلها تفرّد الطرف الأقوى ما سيسمح له بممارسة الإقصاء تجاه الآخرين على أساس انتمائهم الطائفي تحت ذريعة عدم جواز حفظ الضمانات لأحد عملاً بإلغاء الطائفية. فإن انتماء المواطن في لبنان يتم عبر الطائفة. النظام ---الطائفة--- الفرد، ولا يمكننا التحدث بتنظيم مجال الدولة بمعزل عن المجتمع.

إن الدولة هي سلطة تنظيميّة وليست مرجعيّة معتقديّة، بمعنى آخر الدولة تنظم الروابط الماديّة بين المواطنين وليس لها أي علاقة بالمعطيات الفكريّة والروحيّة للمواطنين. والطائفة في النظام السياسي اللبناني معناها سياسي وليس دينياً، فالطائفة معناها ديني فقط في الأحوال الشخصيّة، وهي كما أشرنا انتماء ثقافي.

وعليه، فإذا اقتنعنا بأن موضوع العلمانيّة غير موضوع الطائفيّة، نجيب بأن للدولة اللبنانيّة علمانيّة خاصة بها، فلا يمكن مقارنة حالة علمانية لبنان بعلمانية فرنسا، لبنان حالة خاصة، فلا تتطور أي منظومة إلا ضمن سياقها الذاتي في التغيير.

إلا أنه وبالرغم من أن لبنان دولة علمانية فإن الحلّ لأزماته ومشاكله ليس في هذا المطلب وتحقيقه كما يطالب به الكثير من التغييريين باعتباره هو الحل الوحيد لكل إشكاليات النظام السياسي اللبناني وأزمات لبنان السياسيّة ولا يقتصر على هذا البعد فقط. فالطائفية المجتمعية والطائفيّة السياسيّة التي يشير إليها التغييريون على أنها آفة مجتمعنا، في حين أن المجتمع اللبناني هو مجتمع مركب تعدّديته هي في طائفيته المجتمعية التي هي جزء من هويته، وبالتالي لإنهاء وإلغاء هذا الأمر يحتاج إمّا إلى تغيير الشعب الذي يتألف منه لبنان أو إلى مسار طويل من التطور لكي يتغير هذا الأمر ويبقى هناك احتمال كبير في أن لا يتحوّل. وأكبر دليل على ذلك هو بالرغم من أن مؤسس تركية الحديثة مصطفى كمال أتاتورك كان قد فرض بقوة الجيش حامي الدستور علمنة الدولة والأحوال الشخصيّة في تركية، على الرغم من الأرضيّة الإسلاميّة للمجتمع، إلا أن النتيجة كانت بتحويل آيا صوفيا إلى مسجد من خلال خرق لـ»وثيقة الأخوّة الإنسانيّة من أجل السّلام العالميّ والعيش المشترك» لعام 2019 التي وقّع عليها أعلى مرجعيّتين دينيّتين وهما قداسة الحبر الأعظم فرنسيس وسماحة شيخ الأزهر أحمد الطّيّب، والّتي تُعتبر أهمّ وثيقة مشتركة بين المسيحيّة والإسلام، قد جاء فيها:» أنَّ حمايةَ دُورِ العبادةِ، من مَعابِدَ وكَنائِسَ ومَساجِدَ، واجبٌ تَكفُلُه كُلُّ الأديانِ والقِيَمِ الإنسانيَّةِ والمَوَاثيقِ والأعرافِ الدّوليّة، وكلُّ محاولةٍ للتّعرُّضِ لِدُورِ العبادة، واستهدافِها بالاعتداءِ أو التّفجيرِ أو التّهديمِ، هي خُروجٌ صَرِيحٌ عن تعاليمِ الأديانِ، وانتهاكٌ واضحٌ للقوانينِ الدّوليّة». كما ونلفت النظر هنا أن المجتمع التركي هو مجتمع متجانس دينياً، بعكس المجتمع اللبناني.

إذاً فالعلمنة لا تُقدّم الحل لمسألة الهويات والصراع بينها، فمحور الخلاف على الهوية الطائفية لا على القناعات الدينية في لبنان، ولا تقدم حلاً لأزمات لبنان السياسيّة الكبرى وارتباطاته الخارجيّة، وانقساماته الى محاور. فإن الحل يكون في كيفية إدارة هذه التعددية التي هي في لبنان الطائفيّة المجتمعيّة، لأن إدارتها في لبنان قد ثبت فشلها، ولا يكون في إلغائها لأن الإلغاء ستكون النتيجة إذاً في القضاء على مشاركة كل اللبنانيين في تقرير مصير الوطن وإقصاء الأقليات الطائفية عن تحمل المسؤوليات الوطنية وتحويلها إلى مواطنين كاملي الحقوق نظرياً، وإلى مواطنين لا حقوق لهم بل واجبات فقط عملياً، في ظل وجود ثقافة أيديولوجية إقصائية لا تتقبل الآخر المختلف، وبخاصة أن هناك غياباً لثقافة معاملة الآخر كأقلية وثقافة الديمقراطية وحقوق الإنسان، فضلاً عن غياب الدولة في ممارسة مهامها الأساسيّة.

MISS 3