فولوديمير يرمولينكو

من بوشكين إلى بوتين: الفكر الإمبريالي مستمرّ في الأدب الروسي

2 تموز 2022

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

يحمل شارع في بلدة "هوهوليف"، في شرق العاصمة الأوكرانية كييف، اسم الشاعر الروسي ميخائيل ليرمنتوف من القرن التاسع عشر. لم يزر ليرمنتوف أوكرانيا يوماً، ولا يتطرق إلا عدد صغير من قصائده للمسائل الأوكرانية، ومع ذلك تحمل الشوارع في أنحاء أوكرانيا اسمه واسم شخصيات ثقافية روسية أخرى حتى الآن. إنه جزء من إرث الماضي السوفياتي الإمبريالي. كذلك تُكرّم "هوهوليف"، التي شهدت قتالاً محتدماً في شهر آذار الماضي، أسماءً مثل أنطون تشيخوف، وفلاديمير ماياكوفسكي، وألكسندر بوشكين. كانت تسمية الشوارع في جميع المدن والبلدات والقرى أداة تستعملها الإمبراطورية لتحديد المساحات التي تستعمرها والسيطرة عليها. وكان كل اسم روسي بارز يُستعمل لإقصاء اسم أوكراني آخر، ولطالما شكّلت أسماء الشوارع أداة لمحو الذاكرة المحلية. لكن لم يكتفِ أعظم الأدباء الروس بإعطاء أسمائهم خدمةً لمشروع بلدهم الإمبريالي، بل إن كتاباتهم ساهمت أيضاً في صقل وترسيخ فكر روسيا الإمبريالي ونظرتها القومية إلى العالم.

يحمل ليرمنتوف مثلاً صورة معينة في الأدب الروسي باعتباره كاتباً، وجندياً، وزير نساء، وشاعراً رومانسياً. لقد كان يستحضر مشاهد شاعرية من القوقاز التي استحوذت على خياله، مثلما أَسَرت عدداً كبيراً من أشهر الكتّاب الروس الآخرين. وعلى غرار بوشكين، مات ليرمنتوف بطريقة دراماتيكية خلال مبارزة.

لكن تكمن نزعة إمبريالية باردة وراء الرومانسية الشائعة في بداية القرن التاسع عشر. تروي أشهر قصيدة كتبها ليرمنتوف في العام 1839، بعنوان The Novice (المبتدئ)، قصة شاعرية عن راهب قوقازي أَسَره ضابط في الجيش الروسي في صغره. يطغى شعور اليأس على القصيدة، وتوحي هذه الأجواء بأن تاريخ شعب القوقاز المجيد اختفى وأصبح في طي النسيان. ويثبت حنين بطل القصة إلى الماضي الغابر أنه ينتمي إلى الفريق المهزوم من البشرية.

مثلما طوّر ليرمنتوف وجهة نظر روسية إمبريالية واستعمارية حول القوقاز، قام بوشكين بالمثل مع أوكرانيا. لنتكلم مثلاً عن قصيدة Poltava التي كتبها بوشكين عن إيفان مازيبا، القائد العسكري الأوكراني الذي ثار ضد القيصر بطرس الأكبر حين راح هذا الأخير يفرض سيطرة روسية مُحْكَمة على أوكرانيا (ذكره الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خطاب جديد حول استرجاع أراضي الإمبراطورية الروسية). بنظر الأوكرانيين، كان مازيبا رمزاً للمقاومة الوطنية ضد الهيمنة الروسية وإثباتاً على خرق الإمبراطورية الروسية لمعاهدة القرن السابع عشر التي تحمي استقلالية القوزاق (الأوكرانيون مستقبلاً) مقابل إعلان الولاء للموسكوفيين (الروس مستقبلاً). انتهك القيصر بطرس الاتفاق برأي الأوكرانيين. لكن وضع الروس أي مطالبات أوكرانية بالاستقلال في خانة الخيانة، كما يفعل بوتين اليوم. يتبنى بوشكين وجهة النظر الروسية ويعتبر مازيبا خائناً مقيتاً لا يتوانى عن سفك الدماء. تذكر قصيدته أن الأوكرانيين يستحقون الشفقة والاحتقار باعتبارهم "أصدقاء من العصور القديمة والدموية".

يمكن إيجاد الرسالة نفسها في الرواية التاريخية الشهيرة حول أوكرانيا، Taras Bulba، للكاتب الروسي نيقولاي غوغول. عندما غيّر غوغول، المولود في أوكرانيا، هويته وأصبح روسياً إمبريالياً، استعمل مواهبه كي يثبت أن جميع المظاهر الأوكرانية بالية ووحشية. برأي غوغول، تحتاج أوكرانيا إلى الإمبراطورية الروسية كي تصبح متحضّرة.

لكن كان يمكن تكوين نظرة بديلة عن الوضع طبعاً. بعد سنوات قليلة على طرح غوغول وبوشكين نظرتهما عن القوزاق الأوكرانيين باعتبارهم جزءاً من الماضي الغابر والوحشي، راح تاراس شيفتشينكو، شاعر ورسام وبطل قومي أوكراني، يُخبِر مواطنيه بأن روح القوزاق المعادية للاستبداد والداعمة للديمقراطية ليست من بقايا الماضي بل إنها بارقة أمل للمستقبل. كانت نظرة شيفتشينكو إلى القوقاز مختلفة عن ليرمنتوف أيضاً، فهو لم يعتبرها مساحة شاعرية حيث مَحَت الهيمنة الروسية الرومانسية التاريخ، بل إنها مساحة مأسوية حيث ينتج العنف الإمبريالي أنهاراً من الدماء وتبدو المقاومة فيها قوية ومتينة. يشتق شعار شيفتشينكو الأسطوري "حاربوا كي تنتصروا" لدعم التمرّد على الاستبداد من قصيدتهKavkaz (القوقاز)، ويمكن تطبيقها أيضاً على صراعات أوكرانيا والقوقاز ضد قوة روسيا الإمبريالية.

تبدو القوقاز من منظور ليرمنتوف مساحة ناصعة البياض، وباردة على نحو شاعري، وبعيدة عن معاناة البشر. أما القوقاز التي يعرفها شيفتشينكو، فهي مساحة غارقة بالدماء ومنغمسة في معركة البشرية في سبيل الحرية. كتب ليرمنتوف قصيدة حول حادثة اغتصاب جماعي من وجهة نظر المرتكبين الروس، بينما تكلم شيفتشينكو عن "نساء ساقطات". كانت قصيدته الدينية الاستفزازية Mariia تقارن بين "ساقطة" أوكرانية تحمل طفلاً غير شرعي من جندي موسكوفي، بعد اغتصابها على الأرجح، والعذراء مريم على اعتبار أن كل واحدة منهما هي أم وحيدة عاشت معاناة كبرى. استعمل شيفتشينكو شعور التعاطف مع المرأة التي تعرّضت للعنف الجنسي للرد على أسلوب ليرمنتوف الذي أعطى طابعاً شاعرياً للاغتصاب. في الحالتَين، يبقى المرتكب روسياً والضحية من البلد الذي يتعرّض للاحتلال.

عند مراجعة مختلف المؤلفات، يسهل أن نلاحظ أن الأدب الروسي مليء بالخطابات الإمبريالية ومظاهر الوحشية، وهو يعطي طابعاً رومانسياً لعمليات الغزو ويلتزم الصمت بشأن عواقب هذه الممارسات. وحتى لو كان العمل يتعاطف ظاهرياً مع ضحايا الإمبريالية، يعكس هذا التعاطف مفهوماً رومانسياً عن مصيرٍ مؤسف للتخلف والخنوع الأبدي. فيما كانت حركة الاستشراق الأوروبي تُطوّر صورة معينة عن المجتمعات الأفريقية والآسيوية باعتبارها تفتقر إلى تاريخ يستحق السرد، كان الأدب الروسي يبني صورة أخرى عن القوقاز وأوكرانيا باعتبارهما مجتمعَين يستحقان النسيان نظراً إلى تاريخهما العنيف.

تبدو المقارنات المحتملة مع سياسة الغزو التي تطبّقها روسيا اليوم عميقة وواسعة. يُعتبر كتاب بوشكين،To the Slanderers of Russia (إلى المشهّرين بروسيا)، مثالاً بارزاً على الكتيّبات المناهضة لأوروبا التي تُعبّر عن مشاعر الإمبريالية الروسية العدائية. كان تعامله مع الانتفاضة البولندية بين العامين 1830 و1831 مشابهاً بدرجة معينة لنظرة الكرملين إلى الثورات "الملوّنة" في الإمبراطورية السوفياتية السابقة. هدّد بوشكين أوروبا بالحرب علناً ("هل نسينا أن نبدأ الغزو حتى الآن؟")، وذكّر القراء بضخامة القوة الروسية وغزواتها ("من سهوب "كولشيان" الحارة إلى جبال فنلندا الجليدية").

لا يزال النهج نفسه مستمراً بين زمن بوشكين والخطابات الإمبريالية الجديدة اليوم. يقول أحد الشعارات الروسية خلال الحرب مع أوكرانيا "يمكننا أن نكرر التاريخ": إنها إشارة مقصودة إلى حروب الدمار والغزو الماضية لترهيب أعداء روسيا المزعومين. كان الشاعر الروسي فيودور تيوتشيف الذي عاصر بوشكين، في زمن الثورات الأوروبية في العام 1848، قد احتفل بالإمبراطورية الروسية باعتبارها حصن أوروبا لمنع انتشار الديمقراطية الخطيرة. يشبه هذا الوضع النموذج الاستبدادي الذي تقدّمه روسيا اليوم للقوى المعادية للديمقراطية في جميع أنحاء أوروبا.

عندما يعتبر الأكاديميون الغربيون العصر الذهبي في الأدب الروسي خلال القرن التاسع عشر صراعاً فكرياً بين داعمي الغرب ومؤيدي السلاف، هم يغفلون عن التيارات القومية والإمبريالية المشتركة بين المعسكرَين. حتى المعسكر الداعم للغرب كان يؤمن بالاستثنائية الروسية، وعاد وتحوّل إلى خصم متطرف للقيم التي تُعبّر عنها أوروبا الليبرالية، كما أنه أيّد نموذجاً استبدادياً من المجتمعات في مناسبات متكررة. لا يجسّد عدد كبير من الكتّاب هذه الظاهرة بقدر الروائي الروسي فيودور دوستويفسكي الذي تحوّل من اشتراكي متطرف في شبابه إلى أصولي متديّن في مرحلة متقدمة من حياته. هو اشتهر بقوله إن الاشتراكيين والشيوعيين الروس "ليسوا أوروبيين" بل إنهم سيتحوّلون لاحقاً إلى "روس حقيقيين". بعبارة أخرى، كان هذا الفريق برأيه ليرفض الغرب في نهاية المطاف. في رواية Demons (الشياطين)، يصف دوستويفسكي الأفكار الغربية بالإغراءات "الشيطانية" التي تستحق الشجب.بغض النظر عن نزعة هؤلاء الكتّاب إلى تبنّي الأفكار الغربية أو معارضتها، ساهمت ميولهم الإمبريالية القومية والعرقية في ترسيخ استبداد روسيا بدل الحدّ منه. وحتى الأفكار الغربية التقدمية تحوّلت إلى نسخة جديدة وأكثر قوة من الاستبداد بعد نشرها في الأراضي الروسية. حصل ذلك في عهد القيصر الداعم للحداثة بطرس الأكبر، وفي عصر البلاشفة حيث ارتكز استبدادهم الوحشي على الأفكار الاشتراكية الأوروبية.

هذه المظاهر كلها مستمرة حتى اليوم. حين دمّرت روسيا الشيشان خلال التسعينات، وافتعلت صراعات انفصالية مفبركة في مولدوفا وجورجيا في الفترة نفسها، ثم غزت جورجيا في العام 2008، واجتاحت أوكرانيا في العام 2014، كانت هذه الأعمال الوحشية مشتقة من ركائز فكرية شائعة في الأعمال الأدبية الكلاسيكية الروسية ومستوحاة من مواقف كتّابها حول مستعمرات الإمبراطورية وعمليات الغزو التي تنفّذها. حتى اليوم، يخبر هؤلاء الكتّاب المواطنين الروس، عبر مؤلفاتهم، بأن الأراضي التي يحتلّها الجنود الروس لا تستحق شيئاً من الاحترام. اعتبر بوشكين القوزاق الأوكرانيين متوحشين ومتعطشين للدماء، ويبدو هذا الموقف القديم نسخة من الحملة الدعائية الراهنة التي تعتبر الأوكرانيين نازيين مصيرهم الموت والخنوع. كذلك، اعتبر تيوتشيف روسيا في القرن التاسع عشر منقذة أوروبا من مخالب الديمقراطية، ويتكرر موقفه اليوم في معركة بوتين الرامية إلى الانقلاب على الثورات الملوّنة في أوكرانيا وأماكن أخرى.

في النهاية، لا يمكن اعتبار الثقافة الروسية السبب الوحيد وراء الجرائم الروسية، إذ لا يكون الرابط بين الثقافة والسياسة مباشراً في جميع الظروف. لكن من السذاجة أن نعتبر الثقافة بريئة ومعزولة عن الخطابات الإمبريالية التي شكّلت محور السياسة الروسية طوال قرون. تُعلّم الجامعات الغربية الإمبريالية والاستشراف في المواد الأدبية (لا يمكن ألا نتذكر مثلاً روائيين مثل جوستاف فلوبير، وروديارد كيبلينغ، وجوزيف كونراد)، لكنها تتجاهل بشكلٍ شبه كامل مظاهر مشابهة في أدب آخر إمبراطورية استعمارية لا تزال تعيش على أمجاد الماضي وتخوض حرباً أخرى اليوم لتحقيق غاياتها الإمبريالية.

كل من يبحث عن جذور عنف روسيا ضد الدول المجاورة لها، ورغبتها في محو تاريخ الآخرين، ورفضها أفكار الديمقراطية الليبرالية، يستطيع أن يجد بعض الأجوبة على أسئلته في كتب بوشكين وليرمنتوف ودوستويفسكي.