لماذا ترفض إيران استئناف المفاوضات؟

09 : 44

حاول الرئيس دونالد ترامب التوصل إلى اتفاق جديد مع جمهورية إيران الإسلامية منذ انسحاب الولايات المتحدة من "خطة العمل الشاملة المشتركة" في أيار 2018. يملك قادة طهران فرصة فريدة من نوعها لعقد اتفاق جديد يصبّ في مصلحتهم، نظراً إلى رغبة ترامب الشديدة في تحقيق هذا الهدف. هم يستطيعون القيام بما يلزم لرفع العقوبات الاقتصادية والاستفادة من الأموال والتكنولوجيا والصناعة الأميركية والأوروبية. وفق كلمات ترامب شخصياً، سيكون الاتفاق الجديد كفيلاً بتحسين وضع إيران، من دون محاولة "تغيير القيادة".

تناقشت فرنسا، وألمانيا، وبريطانيا، وروسيا، والصين، وإيران، وحتى الولايات المتحدة حول إطار عمل جديد في الجمعية العامة للأمم المتحدة في أواخر أيلول، وفق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. يفرض الاتفاق الجديد المُقترَح على إيران أن ترفض دوماً تصنيع الأسلحة النووية، وتلتزم بإطار عمل طويل الأمد في مجال التكنولوجيا النووية السلمية، وتسهم في ترسيخ استقرار المنطقة وتمتنع عن التدخل مقابل رفع العقوبات الأميركية. في ما يخص الصواريخ البالستية التي تملكها الجمهورية الإسلامية، يبدو أنها وُضِعت جانباً لمناقشتها مستقبلاً. لكن هاجم وزير الخارجية الإيراني محمد ظريف هذه الشروط عند عودته إلى طهران.

على الجبهة العسكرية، استرجع حليف طهران السوري، بشار الأسد، موقعاً مريحاً. وفي اليمن، يطرح الحوثيون مخاطر كبرى على المملكة العربية السعودية، ويتلقون دعماً تكتيكياً ومادياً من الحرس الثوري الإيراني. ولا تزال إيران واثقة من أن صواريخها البالستية قوية بما يكفي لتحمّل أي هجوم جوي أميركي. ترسخت ثقة إيران بنفسها بعدما تجاوزت الصواريخ والطائرات بلا طيار أنظمة الدفاع الجوي الأميركية الصنع خلال الهجوم الحوثي المزعوم على أرامكو السعودية. وأدى اختبار سلاح الجو الأميركي لنقل مركز القيادة والتحكم بعيداً عن قاعدته الخليجية في قطر، في 28 أيلول، إلى إعطاء انطباع خاطئ زاد اقتناع طهران بتفوقها الاستراتيجي داخل المنطقة في نهاية المطاف. أعطى اقتراح موسكو بوضع خطة أمنية جديدة في الخليج الأثر نفسه.

يحتل المجتمع الإيراني المرتبة 60 من أصل 189 وفق مؤشر التنمية البشرية الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، متفوقاً بذلك على تركيا ومصر والعراق، لكنه في مرتبة أدنى من دول مجاورة أقل سكاناً وأكثر ثراءً على السواحل الجنوبية في الخليج، على غرار الإمارات العربية المتحدة وقطر والمملكة العربية السعودية. كذلك، يصنّف تقرير السعادة العالمي في شبكة حلول التنمية المستدامة للأمم المتحدة الشعب الإيراني في المرتبة 117 من أصل 156، فيتفوق مجدداً على العراق ومصر، لكنه في مرتبة أدنى من دول الخليج العربي. أخيراً، يصنّف مؤشر التنمية الشاملة الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي إيران في المرتبة 27 من أصل 76 دولة من بين الدول الناشئة، بعد الصين مباشرةً.

حتــى الآن، تحـاول إيران الالتفاف على العقوبات الاقتصادية الأميركية. تابع البلد تصدير النفط للصين، وحتى سوريا والهند، عبر آليات تجارية ووسائل نقل تتجاوز التنظيمات الأميركية. وتتابع الصين تحديداً التعامل مع إيران في قطاعات الطاقة والتعدين والنقل. حتى بريطانيا تحايلت على العقوبات الأميركية في تشرين الأول لعقد تسوية بقيمة 1.54 مليار دولار مع بنك إيراني مملوك للدولة جزئياً. كذلك، وصلت إيران إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي في مجال تكرير البنزين. وبناءً على تخطيط مسبق، بدأت تتعاون مع الاتحاد الاقتصادي الأوراسي. تعمل وزارة النفط من جهتها على مدّ خط أنابيب لنقل النفط إلى محطة تصدير في شرق مضيق هرمز، ومن المتوقع أن ينتهي المشروع في آذار 2021. كذلك، تضع طهران وبكين اللمسات الأخيرة على مشروع صيني مدّته 25 سنة لاستثمار 280 مليون دولار في قطاع الطاقة الإيراني.

أدت الإنجازات العسكرية والاجتماعية، فضلاً عن قوة التحمل الاقتصادية، إلى زيادة جرأة المسؤولين في الجمهورية الإسلامية، بما في ذلك قادة الحرس الثوري الإيراني الذين يرفضون أي تسوية مع الولايات المتحدة. هم يتخذون موقفاً سلبياً من تجارب التدخل الأميركي في الماضي، بدءاً من إعادة تنصيب الشاه في العام 1953، مروراً بتزويد العراق بأسلحة كيماوية خلال حرب الثمانينات، وصولاً إلى العقوبات المستمرة.

في أواخر آب، تكلم آية الله محمد خاتمي بعد صلاة يوم الجمعة في طهران، واعتبر "التفاوض تحت الضغط مرادفاً للاستسلام"، ثم أضاف: "نظراً إلى المقاربة التي تتبناها الولايات المتحدة وترامب، سيضطرون لأخذ هذا الحلم معهم إلى القبر". في بداية أيلول، أصدرت لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني "تحذيراً صارماً" حول ملاحظات الرئيس حسن روحاني بشأن الاستعداد للتفاوض مع "أي طرف" لحل المشاكل الإيرانية.

يحتفظ المرشد الأعلى، آية الله علي خامنئي، بسلطة واسعة من خلال التلاعب بمختلف الأطراف السياسية ووضعها في مواجهة بعضها. صرّح بما يلي حديثاً: "حذرتُ من الموافقة على "خطة العمل الشاملة المشتركة" وذكّرتُ الرئيس ووزير الخارجية بذلك مراراً". بدأ خامنئي يعتبر العقوبات الأميركية "مشكلة قصيرة الأمد" ويتوقع أن تعطي "المنافع على المدى الطويل" من خلال تخفيف اتكال البلد على عائدات النفط والغاز.

نتيجةً لذلك، اضطر روحاني عند عودته من الجمعية العامة للأمم المتحدة للتأكيد على أن "جميع الاتصالات تمحورت حصراً حول مسألة إعادة إحياء الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن إلى جانب ألمانيا". عقد ظريف بدوره مؤتمراً صحافياً لدى عودته إلى طهران وطمأن معارضي المصالحة إلى عدم حصول "أي محادثات ثنائية بين روحاني وترامب". ورغم هذه المحاولات كلها لاسترضاء الفريق المعارض للولايات المتحدة، أُدين شقيق الرئيس بتهمة الفساد وحُكِم عليه بالسجن لخمس سنوات. اعتُبر هذا الحدث في إيران تحذيراً للسلطة التنفيذية كي تنصاع لتوجّه الفريق المتطرف في مواقفه.

كلما حاول ترامب التوصل إلى اتفاق إذاً، يتمسك القادة الإيرانيون بشروطهم المسبقة التي تدعو إلى رفع العقوبات، وتجديد "خطة العمل الشاملة المشتركة"، أو دفع تعويضات عن الخسائر. حتى أن طهران لوّحت باحتمال "الانسحاب من معاهدة منع الانتشار النووي"، وتخصيب اليورانيوم بنسبة تصل إلى 60%. لكن قد تكون هذه المقاربة الإيرانية الفوقية في التعامل مع الاتفاق النووي خطيرة. يجب ألا يُعتبر حذر الرئيس الأميركي دليل ضعف. حتى الآن، كانت سياسة ترامب مع إيران معتدلة ومتماسكة وارتكزت على تقديم المكافآت وفرض العقوبات. لقد عاقب الجمهورية الإسلامية عبر إطلاق اعتداءات اقتصادية وإلكترونية بدل العمليات العسكرية، وعمد حديثاً إلى فرض عقوبات على قطاع البناء في 31 تشرين الأول. لكنّ ترامب لن يكتفي بالرحيل بكل هدوء.

في بداية تشرين الأول، "انسحبت المؤسسة الوطنية للبترول" المملوكة للدولة الصينية، تحت الضغط الأميركي، من صفقة بقيمة 5 مليارات دولار لتطوير حقل غاز في جنوب "بارس"، وقامت شركة "توتال" الفرنسية بالمثل. في ظل تصاعد العقوبات الأميركية، تشير تقديرات صندوق النقد الدولي إلى استمرار تراجع الناتج المحلي الإجمالي في إيران بنسبة 9.5% في العام 2019، مقابل زيادة التضخم بنسبة تصل إلى 35.7%. كذلك، من المتوقع أن تتفاقم ظاهرة البطالة، بعدما بلغت نسبتها 12.1% في العام 2018، وفق أرقام البنك الدولي، نتيجة العقوبات الخارجية التي تتزامن مع سوء الإدارة المحلية. بالتالي، قد يسمح البرلمان الإيراني للبنك الدولي بتخفيض قيمة الريال الإيراني. تتمتع الولايات المتحدة من جهتها بقوة عسكرية جاهزة للاستعمال. لذا ستكون المساومة مع واشنطن، بدل الإصرار على المطالبة بتنفيذ "خطة العمل الشاملة المشتركة"، في مصلحة الجمهورية الإسلامية. يشكك الكثيرون بحسن نوايا طهران نظراً إلى خطواتها العدائية والمخادعة، منها إسقاط طائرة أميركية بلا طيار، ومصادرة ناقلة نفط بريطانية، والتعهد بعدم بيع النفط للنظام الوحشي في سوريا ثم بيعه عن طريق طرف ثالث، وتصعيب النقل التجاري في منطقة الخليج، وتسهيل الضربات على منشأتَي النفط السعوديتَين. ورغم تنفيذ "خطة العمل الشاملة المشتركة" في كانون الثاني 2016، يبدو أن "منظمة الطاقة الذرية الإيرانية" احتفظت بالإمكانات اللازمة لإعادة بناء منشآتها. تأججت الآراء السلبية حول طهران بسبب انتهاكها لالتزاماتها في المرحلة اللاحقة عبر تكثيف تخصيب اليورانيوم نتيجة استعمال أجهزة متقدمة للطرد المركزي وإعادة تنشيط مفاعل أراك للماء الثقيل. أمام هذه الأفعال، يصعب على الرئيس الأميركي الراهن أو أي رئيس مستقبلي أن يعيد إحياء "خطة العمل الشاملة المشتركة"، بناءً على طلب إيران، مع أن هذه الخطوة تحظى بدعم الموقّعين الآخرين. لكن سيكون أي اتفاق جديد يحدّ من سلوكيات إيران السيئة مقبولاً.

أعلن ترامب أثناء كلامه في البيت الأبيض في 2 كانون الثاني: "إيران في ورطة. لكن هل أعترف لكم بشيء؟ أود أن أتفاوض مع إيران. هم غير مستعدين... لكنهم سيصبحون كذلك". لكن حتى الآن، يتحمّل النظام الإيراني الوضع القائم. أصر روحاني في 8 تشرين الأول على تحسّن نفوذ إيران ومكانتها بعد سنة ونصف من الضغوط الاقتصادية المتواصلة.

باختصار، لا تنذر الظروف القائمة بإعادة إحياء "خطة العمل الشاملة المشتركة" أو التفاوض قريباً على اتفاق نووي جديد.


MISS 3