تشارلز كوبشان

طريق شاقّة أمام الناتو

4 تموز 2022

المصدر: The Atlantic

02 : 00

صورة جامعة لقادة الناتو بعد القمّة التي عقدت في مدريد
بفضل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، تُعقَد قمة الناتو في مدريد هذا الأسبوع بعد تجدّد قوة التحالف الغربي. أجبر الغزو الروسي لأوكرانيا الناتو على العودة إلى مهمته الأصلية التي تقضي بإطلاق دفاع جماعي ضد روسيا. يثبت أعضاء الحلف اليوم تضامناً لافتاً وإرادة صلبة عبر نقل الأسلحة إلى أوكرانيا، وزيادة الإنفاق على الدفاع، وتقوية الجناح الشرقي للناتو، وفرض عقوبات اقتصادية صارمة على روسيا.

أثبت غزو أوكرانيا أن الناتو عاد إلى الساحة بقوة، مع أنه لم يختفِ يوماً على أرض الواقع. كان الحلف بأفضل حالاته قبل أن يطلق بوتين حربه الشائبة، وهذا ما سمح له بالرد على التطورات في أوكرانيا بأعلى درجات السرعة والتضامن. منذ نهاية الحرب الباردة، أثبت الناتو قدرة لافتة على التكيّف مع الظروف المستجدة، فنفّذ عمليات بعيدة، منها في أفغانستان والبلقان، وفتح أبوابه أمام ديمقراطيات جديدة في أوروبا. وبسبب الحرب في أوكرانيا، زادت قوة الناتو القوي أصلاً.

لكن رغم قوة أداء الناتو ووحدته الواضحة، يواجه الحلف مجموعة من المسائل الشائكة وستكون النقاشات في مدريد مجرّد بداية لمعالجتها. ستطغى حرب أوكرانيا على أحداث القمة طبعاً وستُركّز المحادثات على أسهل هدف: إيصال أسلحة إضافية إلى الخطوط الأمامية. لكن يجب أن يتعامل الناتو مع أصعب المسائل أيضاً، أي الجمع بين تدفق الأسلحة واستراتيجية دبلوماسية تهدف إلى الاتفاق على وقف إطلاق النار وإطلاق مفاوضات حول الأراضي. أصبح هذا الهدف عاجلاً لوقف مظاهر القتل والدمار والحد من تداعيات الحرب الاقتصادية لأنها قد تُهدد الحلف الأطلسي من الداخل عبر إضعاف تضامنه وزعزعة أسس الغرب الديمقراطية. كذلك، يفرض الصراع في أوكرانيا مجموعة من التحديات الإضافية على أجندة الناتو، أبرزها تحديد مستقبل توسّع الحلف، والتعبير عن طموحات أوروبا الجيوسياسية المتزايدة، وبناء هندسة عابرة للأطلسي وقادرة على معالجة أكثر المسائل تعقيداً وتنوعاً.

من المتوقع أن ينشغل أعضاء الناتو بالحرب في أوكرانيا لفترة، فيعملون على كبح تدهور العلاقات مع روسيا، وتقوية الجناح الشرقي للحلف، والمشاركة في إعادة إعمار البلد بعد وقف القتال. لكن يجب أن يبدؤوا أيضاً بالتفكير بحقبة ما بعد الحرب لاستخلاص دروس مختلفة.

لقد أوضح الصراع في أوكرانيا ضرورة ابتكار أفكار جديدة حول ترسيخ الأمن في "المنطقة الرمادية" في أوروبا، أي الأراضي الممتدة بين الناتو وروسيا. رغم استمرار الحرب، بدأ حوار بنّاء حول مكانة أوكرانيا الجيوسياسية المحتملة في المرحلة المقبلة. قد تصبح نتيجة هذا الحوار نموذجاً يُحتذى به في جورجيا، ومولدوفا، وبلدان أخرى لطالما تطلّعت إلى الغرب لكنها قد تعجز عن الانضمام إلى الناتو بسبب الهجوم الروسي الأخير.

تبرز ثلاث مقاربات متداخلة اليوم لتلبية الحاجات الأمنية في الدول الواقعة في المنطقة الرمادية الأوروبية. أولاً، يسمح الحياد الدائم بترسيخ سيادة هذه البلدان واستقلالها، تزامناً مع مراعاة اعتراضات روسيا على توسّع الناتو شرقاً. خلال الأسابيع الأولى من الحرب الروسية، أبدت كييف استعدادها للعودة إلى الحياد. وإذا أصبح هذا الشرط جزءاً من التسوية التي يتم التفاوض عليها لإنهاء الحرب، قد يشكّل حياد أوكرانيا نموذجاً للمنطقة كلها.

ثانياً، يجب أن يترافق الحياد مع ضمانات أمنية من تحالف دولي متماسك. يُفترض أن تتجاوز هذه الإجراءات المستويات السابقة من الدعم الغربي فتشمل مثلاً تكثيف التدريبات العسكرية، وتسليم الأسلحة في زمن السلم، وتقديم دعم عسكري قوي حين تتعرّض الدول التي تحظى بهذه الضمانات لأي هجوم.

أما الركيزة الأمنية الثالثة في المنطقة الرمادية، فيجب أن تتعلق بالانتساب إلى الاتحاد الأوروبي. سبق ومنحت بروكسل صفة "مرشّح محتمل" إلى أوكرانيا ومولدوفا، وتنتظر جورجيا دورها للحصول على الامتياز نفسه. قد تمتد المفاوضات المتعلقة بعضوية الاتحاد على عشر سنوات أو أكثر، لكن تضمن صفة "المرشّح" النفوذ الذي تحتاج إليه الحكومات لمعالجة الفساد وتطبيق إصلاحات اقتصادية وسياسية واسعة: يجب أن تتخذ أوكرانيا هذه الخطوات لتجاوز إرثها الأوليغارشي. في نهاية المطاف، من المتوقع أن تصبح عضوية الاتحاد الأوروبي شكلاً من الاندماج المؤسسي الرسمي بين الديمقراطيات الأطلسية من دون استفزاز روسيا.

إذا تحقق هــــذا السيناريو، قد يوافق الناتو على ضم فنلندا والسويد وقد يقبل البلدان التي تطمح للانضمام إليه في منطقة البلقان. لكن ستقف الخطوات المتوقعة عند هذا الحد. من خلال رسم حدود واضحة لتوسّع الناتو شرقاً ومحاولة توسيع نطاقه في المنطقة الرمادية عن طريق الاتحاد الأوروبي، قد يتمكن الغرب وروسيا أخيراً من تجاوز مشكلة أساءت إلى علاقتهما منذ بدء توسّع الناتو بعد نهاية الحرب الباردة. وحتى لو استعمل بوتين توسّع الناتو كعذر للاستيلاء على الأراضي التي يريدها، يمكن إخماد المنافسة المحتدمة بين روسيا والغرب من خلال توضيح مستقبل الناتو.

كانت الحرب في أوكرانيا بمثابة جرس إنذار جيوسياسي لأوروبا، ويُفترض أن يستفيد الناتو من هذه المرحلة. أطلقت أوروبا حملات خاطئة عدة على مر السنين لزيادة قوتها الجيوسياسية ومسؤولياتها، لكن قد تُحقق جهودها هذه المرة نتائج أكثر إيجابية بفضل روسيا. سبق ودفع العدوان الروسي الأوروبيين إلى القيام باستثمارات جديدة ومهمة في القدرات العسكرية. خصّصت ألمانيا مثلاً مئة مليار يورو لتحديث جيشها المتداعي، ووافقت على الالتزام بالعتبة التي حدّدها الناتو وإنفاق 2% من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع.

كذلك، أعلنت دول أوروبية أخرى عن زيادات ملحوظة في ميزانياتها الدفاعية. يتطلب تحويل هذه الاستثمارات إلى قدرات فاعلة لخوض الحروب فترة من الزمن وتنسيقاً عابراً للحدود الوطنية بين الناتو والاتحاد الأوروبي. لكن قد تكون هذه الاستثمارات، لا سيما انقلاب الموقف الألماني، كفيلة بتغيير قواعد اللعبة، فتحصل أوروبا أخيراً على الثقل الجيوسياسي الذي تحتاج إليه في عالمٍ تجدّدت فيه معالم المنافسة بين القوى العظمى. في غضون ذلك، يجب أن تتابع الولايات المتحدة الضغط على حلفائها وتتعاون معهم للاستفادة من استعدادهم المستجد لتحمّل أعباء دفاعية متزايدة.

قد تُمهّد زيادة القوة الأوروبية لتوسيع الشراكة العابرة للأطلسي. يشتكي الديمقراطيون والجمهوريون في الولايات المتحدة منذ وقتٍ طويل من افتقار الناتو إلى ركيزة أوروبية أكثر صلابة. وبغض النظر عن هوية الحزب الحاكم في واشنطن، لا مفر من تحسّن الرابط الأطلسي إذا وسّعت أوروبا ثقلها الجيوسياسي. وبما أن روسيا تُهدد الجناح الشرقي لحلف الناتو في الوقت الراهن وتفرض الاضطرابات في غرب المحيط الهادئ متطلبات جديدة على الموارد الأميركية، ستُسَرّ واشنطن بتوسّع القدرات الأوروبية. قد تضطر القوات الأميركية للبقاء في أوروبا في المستقبل المنظور بعد تجدّد التهديدات الروسية، لكن يجب أن تتمكن أوروبا من التحرك وحدها عند الحاجة.

يُعتبر الغزو الروسي لأوكرانيا نوعاً تقليدياً من العدوان الإقليمي، لكنه يكشف في الوقت نفسه مدى تعقيد الأجندة الأمنية في هذه المرحلة. تؤثر تداعيات الصراع على مجموعة متنوعة من المسائل. أصبحت الشؤون العسكرية والعمليات الاستخبارية وأمن الطاقة في طليعة الملفات المؤثرة. قد يكون وقف الاتكال على الوقود الأحفوري الروسي ضرورة استراتيجية، لكنه يترافق أيضاً مع آثار سلبية على التغير المناخي لأن أوروبا قد تضطر لإعادة فتح محطات الكهرباء العاملة بالفحم، فيما يزيد منتجو الطاقة ضخ النفط والغاز. تتعدد المسائل التي أثّرت عليها هذه الحرب، بدءاً من الأمن الإلكتروني، والأمن الغذائي، وسلاسل الإمدادات، وصولاً إلى موجات الهجرة، والعلاقات مع الصين، وأنظمة الدفع الدولية.

يجب أن تتكيّف المؤسسات العابرة للأطلسي مع الظروف المستجدة بالشكل المناسب. يستطيع الناتو أن يتولى جزءاً من هذه المسائل المتداخلة، لكنه يعجز عن معالجتها كلها. أثبت الحلف قدرته على إضافة بند الأمن الإلكتروني إلى أجندته، وأطلق حواراً بنّاءً حول العواقب الجيوسياسية للصعود الصيني. تحضر أستراليا، واليابان، ونيوزيلندا، وكوريا الجنوبية، قمة مدريد هذا الأسبوع كدول مراقِبة. يبقى الاتحاد الأوروبي أنسب محاور في ملفات أمن الطاقة، والعقوبات الاقتصادية، والحوكمة الرقمية، وسلاسل الإمدادات التكنولوجية، والمناخ، ومجموعة من المسائل الأخرى. لكن خسرت بريطانيا مقعدها على طاولة الاتحاد الأوروبي في بروكسل، ما يُصعّب إنشاء مؤسسات عابرة للأطلسي ومناسبة للترابط العالمي.

يمكن تحسين التكامل بين المسائل الجيوسياسية والجيو- اقتصادية عبر تعميق الروابط بين الناتو والاتحاد الأوروبي. يقضي خيار آخر بإنشاء مجلس جديد وعابر للأطلسي وتكليفه بمعالجة المشاكل السياسية بطريقة تضمن تجاوز العوائق المؤسسية والبيروقراطية وتفكيكها. قد تشمل هذه الهيئة ممثلين عن الناتو والاتحاد الأوروبي، فضلاً عن دول أعضاء منتقاة، للإشراف على أجندة حيوية ومتنوعة وعابرة للأطلسي. قد يكون مجلس التجارة والتكنولوجيا الذي نشأ حديثاً بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مثالاً إيجابياً حول الابتكار المؤسسي الذي يهدف إلى تمكين السياسات من مواكبة التغيرات التكنولوجية. أوضحت تداعيات الحرب أن العولمة والترابط العالمي يُحتّمان نشوء أشكال جديدة من الحوكمة والتعاون عبر الأطلسي. من الضروري أيضاً أن تراقب أي هيئة جديدة الروابط التي تزداد تقارباً بين السياسة الخارجية والسياسات المحلية. إذا أغفل القادة على طرفَي الأطلسي عن هذه الروابط، سيتحمّلون المخاطر بأنفسهم وقد يُهددون أيضاً التضامن العابر للأطلسي.

في النهاية، لا يزال الناتو ركيزة أساسية لصمود المجتمع العابر للأطلسي الذي يتقاسم المصالح والقيم نفسها. أثبت هذا الحلف أهميته وفاعليته ووحدته حين أطلق رداً حازماً على العدوان الروسي ضد أوكرانيا. لكن حان الوقت كي يبدأ الناتو التحرك لوقف إطلاق النار والتوصل إلى نهاية دبلوماسية هناك. تسمح هذه الخطوات بالحفاظ على التضامن العابر للأطلسي والتصدي للتهديدات المحلية على الديمقراطية الليبرالية. يجب أن يصبح هذا التحول جزءاً من جهود مكثّفة لبناء هندسة عابرة للأطلسي وواضحة الأهداف في ظل توسّع الترابط العالمي في القرن الواحد والعشرين.