مارك كانسيان

كيف نكسر الحصار الروسي في البحر الأسود؟

6 تموز 2022

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

عمليّة تحميل للحبوب على سفينة شحن راسية في ميناء كونستانتا في البحر الأسود
يواجه العالم اليوم أزمة غذاء عالمية بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا. تُعتبر المنتجات الزراعية الروسية والأوكرانية أساسية لحماية الأمن الغذائي العالمي (تؤمّن روسيا وأوكرانيا حوالى 13% و8.5% من صادرات القمح العالمية على التوالي)، لكن أصبحت هذه الصادرات الحيوية خارج السوق بسبب العقوبات المفروضة على روسيا والحصار الروسي البحري للموانئ الأوكرانية. نتيجةً لذلك، قد يتعرّض ملايين الناس لمستوى حاد من انعدام الأمن الغذائي، لا سيما في الدول النامية. تبدو المخاطر المطروحة مريعة، فقد تؤدي أي أزمة غذائية بهذا الحجم إلى مجاعة عالمية كارثية، وتؤجّج الاضطرابات السياسية في البلدان التي تتكل على واردات الحبوب، وتُحدِث صدمات قوية في الاقتصاد العالمي ككل.

يملك المجتمع الدولي الخيارات العسكرية والدبلوماسية اللازمة لتخفيف حدّة هذه الأزمة المرتقبة، لكن يترافق كل خيار منها مع سلبيات معينة. يستطيع حلف الناتو أن يستعمل وحداته البحرية الهائلة وقوته الجوية الواسعة لمرافقة سفن الحبوب الأوكرانية. لكن تحدّ "اتفاقية مونترو" من حجم القوة التي تستطيع دخول البحر الأسود، وقد تتصدى روسيا للقوافل بترسانتها البحرية عبر استخدام الألغام والغواصات على الأرجح. تبرز مقاربات بديلة وأقل استفزازاً، مثل إرسال القوافل من دول أخرى أو شحن الحبوب من موانئ غير أوكرانية في البحر الأسود، لكن تحتاج هذه الخطوات أيضاً إلى موافقة روسيا.

باختصار، ما من حلول سهلة لهذه الأزمة. لكن رغم صعوبة الخيارات المحتملة، لا يستطيع الغرب أن يتجاهل المشكلة بكل بساطة. إذا توسّعت موجة المجاعة في نهاية المطاف وسبّبت اضطرابات سياسية، لا مفر من تصاعد الضغوط على الغرب لدفعه إلى التحرك. يجب أن يضع الأميركيون وحلفاؤهم خطة واضحة، ولو أنها غير مثالية، إذا أرادوا تجنّب كارثة عالمية يسهل أن تخرج عن السيطرة.

للتحايل على الحصار البحري الروسي وتحرير شحنات الصادرات الزراعية الأوكرانية، تقضي إحدى الطرق بنقل الكميات براً. بمساعدة دول مجاورة مثل بولندا ورومانيا، سبق ولجأت أوكرانيا إلى الطرقات البرية وسكك الحديد لشحن الحبوب. تحمل وسائل النقل هذه منفعة واضحة، إذ تعجز روسيا عن إعاقة هذا النوع من العمليات. قد تكون خطوط سكك الحديد معرّضة نظرياً لهجوم الصواريخ أو الطائرات، لكن يصعب اعتراض هذه المسارات لفترة طويلة. حاولت قوات الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية تعطيل سكك الحديد الألمانية واليابانية، لكن سرعان ما استنتجت سهولة إصلاح هذه الخطوط (تقتصر العملية على إغلاق الحُفَر وبناء مسارات جديدة)، ما يعني أن الاعتداءات يجب أن تكون متواصلة. لكن تفتقر روسيا إلى الوسائل اللازمة لتطبيق هذه المقاربة، فقد استنزف البلد الصواريخ عالية الدقة التي يحتاج إليها لشن اعتداءات مماثلة، ولا تصل قواته الجوية إلى عمق كافٍ في الأراضي الأوكرانية لضرب خطوط سكك الحديد التي تنقل الحبوب إلى الموانئ الأوروبية.

لكن يعجز نظام سكك الحديد في أوكرانيا عن التعويض عن خسارة التجارة البحرية للأسف. يتطلب نقل جميع صادرات الأغذية الأوكرانية (حوالى 30 مليون طن من الحبوب) مئة شحنة تقريباً، مقارنةً بـ300 ألف حمولة عبر سكك الحديد. ووفق بعض الحسابات، يمكن نقل جميع كميات الحبوب عبر تلك السكك خلال 14 شهراً، مقابل أربعة أشهر فقط عن طريق البحر. أمام هذه الأرقام، يمكن اعتبار الشحن البري تدبيراً موقتاً مفيداً، لكنه ليس حلاً طويل الأمد للأزمة الغذائية الناشئة.

إذا أرسل الناتو القوافل إلى الموانئ الأوكرانية، قد يضطر للتعامل مع هجوم روسي. نظراً إلى تحذيرات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين المتكررة حول عدم تدخّل الحلف في الصراع، من المستبعد أن يسمح لأي قافلة تابعة للناتو بخرق الحصار من دون إبداء ردة فعل معيّنة. ستبقى روسيا متفوقة استراتيجياً لأنها لن تضطر لاعتراض حركة جميع الشحنات. قد يكون مستوى الاستنزاف الذي يقتصر على 25% أكثر مما يستطيع الناتو وسفن الشحن البحرية تحمّله.

قد تستعمل روسيا ألغاماً بحرية وغواصات لمهاجمة قوافل الحبوب لأن هذه الأسلحة فاعلة وخفية ويسهل إنكار استعمالها، ما يعني عدم تحمّل اللوم عن الضربة الأولى. سبق وزرعت روسيا ألغاماً تحت البحر على مسافات قريبة من الموانئ الأوكرانية. قد تحاول أوكرانيا إزالتها، لكن تتطلب هذه العملية بحثاً بطيئاً وشاقاً عبر سفن صغيرة وهشة. تزداد هذه المسألة تعقيداً لأن أوكرانيا زرعت الألغام أيضاً على طول ساحلها للتصدي للقوات الروسية. لا يصعب على موسكو اتهام كييف إذا تضررت سفن الحبوب بسبب الألغام إذاً.

تطرح غواصات "كيلو" الست في أسطول البحر الأسود الروسي أكبر تهديد على القوافل لأنها هادئة ومدجّجة بالأسلحة. يمكنها أن تهاجم الطوربيدات، أو تطلق صواريخ "كروز" من خارج نطاق السفن المرافِقة، أو تزرع الألغام في مسار القوافل. كذلك، قد تطلق الصواريخ الأرضية المضادة للسفن النار من شبه جزيرة القرم باتجاه السفن، فتندلع معركة كبرى حين يحاول الناتو تعطيل بطاريات الصواريخ الروسية. لكن من المستبعد أن تشارك قوات روسية أخرى بأي طريقة مؤثرة. لا تستطيع القوات الروسية السطحية الضعيفة أن تضاهي أبسط السفن المرافِقة في أسطول الناتو. يمكنها أن تحاول إطلاق النار على سفن القوافل من مسافة قريبة للساحل، لكن ستُعرّضها هذه العملية لصواريخ أوكرانيا المضادة للسفن والقوة الجوية التابعة للناتو. كذلك، قد تستعمل روسيا قواتها الجوية الهائلة، لكن تشارك جميع هذه الوحدات في الحرب البرية وكان أداؤها سيئاً حتى الآن.

إذا قررت روسيا مجابهة القوافل، سيعرف العالم على الأرجح بالانفجارات التي تستهدف سفن الحبوب. قد تنكر روسيا تورطها في هذه العمليات، فتزعم أن السفينة المستهدفة اصطدمت بلغم أوكراني. قد يتقبّل الناتو هذا الإنكار الروسي ويجرّب مقاربة مختلفة لمنع تصعيد الوضع. أو قد يطلق حملة بحرية لإزالة الألغام وهزم الغواصات الروسية. في هذه الحالة، قد تندلع حرب بحرية في المرحلة اللاحقة.

لا مفر من أن تتحول هذه الحرب إلى سلسلة من المعارك بين القوافل حين يحاول الناتو دفع سفن الشحن لخرق الحصار الروسي. يرتفع احتمال وقوع هذا النوع من المناوشات لأن القافلة التي تبحر بسرعة 12 ميلاً بحرياً تحتاج إلى يوم كامل للإبحار من ميناء "أوديسا" نحو المضائق. لن تكون نتيجة هذه المعركة مؤكدة نظراً إلى غياب أي سابقة معاصرة لهذا النوع من الاشتباكات البحرية بين الجهات المتنافِسة. على عكس الحروب الجوية والبرية، لم تقع معارك بحرية كثيرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. من المتوقع أن يتفوق الناتو سريعاً، نظراً إلى سفنه القوية وتفوّقه الجوي الهائل، بعد إطلاق سلسلة من معارك القوافل المطوّلة. لكن لن تجرؤ دول كثيرة في الحلف على خوض مواجهة عسكرية مباشرة مع روسيا وتحمّل مخاطر التصعيد التي ترافق هذا الخيار، حتى لو نجح ذلك التحرك في خرق الحصار الروسي وتخفيف حدة الأزمة الغذائية المتفاقمة.

يقضي خيار أقل صدامية بإشراك دول من خارج الناتو في عمليات مرافقة سفن الشحن. قد يبدي بلد مثل مصر استعداده لتحمّل مخاطر هذه القوافل، فهو يتكل بشدة على الحبوب المستوردة. تمنع هذه المقاربة غير المباشرة روسيا من التكلم عن حصول عدوان مزعوم من جانب الناتو، فهي ترتكز على دوافع إنسانية لتخفيف حدة المجاعة المحتملة. لكن تبقى هذه العملية جزءاً من الحسابات الدبلوماسية لأن الأطراف الثالثة لا تملك على الأرجح القدرات العسكرية اللازمة لمحاربة روسيا بالمستوى المطلوب.

تستطيع أوكرانيا أن تنقل الحبوب عبر سكك الحديد إلى ميناء "كونستانتا" الروماني الذي يقع على بُعد 190 ميلاً فقط من "أوديسا"، ثم تُشحَن الكميات من هناك بحراً على متن سفن تابعة لأطراف ثالثة. هذه المقاربة تمنع إقامة أي رابط مباشر مع أوكرانيا والحرب، ما يمنح موسكو فسحة معينة لتجنّب المواجهة. لكن قد لا تبدي روسيا استعدادها لتقبّل هذه الخطة نظراً إلى العقوبات المفروضة على صادراتها.

على صعيد آخر، قد تفضّل الولايات المتحدة مقاربة مباشرة وتقرر تسجيل السفن التجارية كمركبات أميركية أو تغيير علمها الأصلي كي تضطر روسيا لمهاجمة سفن أميركية لترسيخ حصارها. ثمة سابقة لهذا التحرك: غيّرت الولايات المتحدة علم ناقلات نفط كويتية لمنحها شكلاً من الحماية البحرية الأميركية خـــلال الحرب الإيرانيـة العراقية، بين العامين 1987 و1988، لضمــان استمرار تدفـــق النفط. لكـن تبقى هذه الاستراتيجية محفوفة بالمخـاطر: خلال حرب الناقلات، تعرّضت تلك السفن للقنص والألغام رغم تغيير علمها، واحتاجت إلى المرافقة لحمايتها بغض النظر عن جنسيتها المتبدّلة. بعبارة أخرى، قد لا يكون هذا التكتيك كافياً لردع روسيا.

أخيراً، يمكن اللجوء إلى خيارات دبلوماسية أخرى للتعامل مع هذا الوضع. أعلن بوتين مثلاً أن روسيا قد تسمح بمرور الشحنات من أوكرانيا بشروط معينة. قد يُعقَد اتفاق متبادل بين السفن، ما يعني أن تشارك سفينة تجارية من أوكرانيا في التجارة الدولية مقابل السماح لسفينة من روسيا بالقيام بالمثل. لم يلقَ هذا الاقتراح تأييداً واسعاً لأنه يمنح روسيا موارد مالية هائلة ويشكّل سابقة في مجال رفع العقوبات. مع ذلك، تتردد الدول الغربية في المجازفة بخوض مواجهة عسكرية، ومن المتوقع أن يزداد الوضع الغذائي العالمي سوءاً. لهذا السبب، قد تحصد المقاربة الدبلوماسية تأييداً دولياً متزايداً مع مرور الوقت.

تملك الدول التي تتكل على الحبوب الأوكرانية والروسية إمدادات كافية لفترة من الزمن على الأرجح، وتتلقى مخازنها مساعدات من الغرب على المدى القصير، ولم تصدر بعد أي تقارير عن استفحال الجوع. لكن لا يمكن أن يستمر هذا الوضع لفترة طويلة. إذا استمرت الحرب، لا مفر من أن يؤدي تراجع الإمدادات إلى حالات نقص حادة وأعمال شغب بسبب قلة الغذاء، ما يعني اضطراب المجتمع وزعزعة استقرار الأنظمة القائمة. سيواجه الغرب حينها ضغوطاً متزايدة للتحرك. لم تصبح المجاعة العالمية حادة بعد، لكن ستكون نتائجها كارثية حين تستفحل في كل مكان. من مسؤولية الناتو والغرب أن يضعا خطة واضحة كي لا يتحول النقص إلى أزمة حقيقية.


MISS 3