توم ماكتاغ

نزعة "ترامبية" غير مقصودة تطغى على "الناتو"

7 تموز 2022

المصدر: The Atlantic

02 : 00

الرئيس دونالد ترامب في مؤتمر صحفي بعد المشاركة في قمة الناتو في بروكسل
إذا عاد دونالد ترامب إلى السلطة في العام 2025، سيتعامل مع عالم مختلف بالكامل عن الكيان الذي حاول بناءه خلال عهده الرئاسي السابق. لقد انهارت جميع الآمال بتطبيع العلاقات مع روسيا بسبب المذبحة المستمرة في أوكرانيا، وأصبحت الصين أقوى من أي وقت مضى، وتقترب إيران من اكتساب أسلحة نووية، ولا يزال كيم جونغ أون يتصرف بالشكل الذي اعتاد عليه. توسّعت نزعة "الترامبية" في العالم منذ رحيل ترامب من السلطة بدرجة محدودة لكن مؤثرة. بدأ حلف الناتو الذي اجتمع في مدريد، في الأسبوع الماضي، للاتفاق على استراتيجية جديدة للدفاع عن الغرب، يشبه المنظمة التي أرادها ترامب وجماعته في الحزب الجمهوري دوماً. زاد اهتمام أعضاء الناتو الأوروبيين بدفاعاتهم، ويحمل الحلف توجّهاً أقرب إلى شرق أوروبا في تطلعاته ومواقفه، وهو يُركّز للمرة الأولى على المنافسة الكبرى بين الولايات المتحدة والصين بهذا الشكل العلني. ترامب ليس المسؤول الأول عن هذه التغيرات كلها (يمكنه أن يشكر فلاديمير بوتين على كل ما يحصل!)، لكن تشكّل هذه التقلبات لحظة مهمة في مسار الغرب، إذ تتجه أوروبا إلى تقبّل المخاوف السياسية الأميركية المحلية أكثر من أي وقت مضى. يُعتبر هذا التحول الأوروبي جزءاً من محاولات تهدف إلى حماية الوضع القائم منذ تأسيس الناتو لكنه أصبح مُهدداً اليوم بسبب العدوان الروسي وتركيز واشنطن المتزايد على الصين، منافِستها الأولى في القرن الواحد والعشرين.

تزامناً مع اقتراب الناتو من التطلعات الأميركية، لم تكن استراتيجيات الدول الكبرى التي شكك بها ترامب بكل وضوح، لا سيما ألمانيا وفرنسا، عقيمة لهذه الدرجة يوماً. اضطرت ألمانيا للتخلي عن تردّدها القديم بشأن زيادة الإنفاق على الدفاع وعن مشروع خط أنابيب "نورد ستريم 2" المُخطط له مع روسيا. أما فرنسا التي تحاول منذ وقتٍ طويل توسيع دورها في الاتحاد الأوروبي أكثر من الناتو، فهي تواجه اليوم قارة أوروبية تفضّل توسيع دور الحلف، وتدرك فرنسا أن هذا التوجه مرادف لدعم الهيمنة الأميركية.

في غضون ذلك، بدأت الأولويات تتغير في مجموعة الدول الصناعية السبع، وهي منظمة أخرى كان ترامب يمقتها وقد اجتمعت في الأسبوع الماضي أيضاً بعدما حوّلها الغزو الروسي لأوكرانيا إلى هيئة تخدم المصالح الأميركية بكل وضوح.

كان لافتاً أن يرفض جو بايدن طرح الرئيس باراك أوباما بإعطاء الأولوية لمجموعة العشرين التي تتألف من اقتصادات متقدمة وتشمل ديمقراطيات ناشئة مثل الهند وأندونيسيــــــا، بالإضافة إلى روسيا والصين. في واحدة من أولى مبادرات أوبامـا على الساحة الدولية، قال الرئيس السابق إن مجموعة العشرين ستصبح من الآن فصاعداً أهم صيغة دولية كونها تمثّل جميع قوى القرن الواحد والعشرين، بدل التمسك بعالمٍ "اقتصر على جلوس روزفلت وتشرشل في قاعة لاحتساء مشروب البراندي". قرر نائب الرئيس عكس هذا المسار وإعادة مجموعة السبع إلى دورها السابق، ما يعني أن تكون أقرب إلى كتلة من القوى الغربية الغنية التي تقـرر مسارها بنفسها.

إذا عاد ترامب إلى السلطة، فلن يضطر للتذمر من المسائل التي أزعجته خلال عهده الرئاسي السابق، حين عجزت أوروبا بكل وضوح عن تقاسم أعبائها الدفاعية الخاصة مع الولايات المتحدة، تزامناً مع عقد صفقات مستقلة مع الصين وروسيا في مجالَي التجارة والطاقة. كان مبرراً أن يتساءل ترامب حينها عن نزعة أوروبا إلى استغلال الولايات المتحدة. لم تعد هذه المشكلة حادة بالقدر نفسه اليوم، مع أن أوروبا تزيد اتكالها على الولايات المتحدة.

تزامناً مع تأييد الحزبَين الجمهوري والديمقراطي في الكونغرس للدعم الأميركي العسكري لأوكرانيا وفرض العقوبات الاقتصادية على روسيا، سُرّ الكثيرون بزيادة قوة الناتو وتوسّع الدعم الذي يحظى به الحلف. لكنّ هذه التطورات كلها لن تكون كافية بنظر ترامب.

في المقام الأول، تتعدد المسائل الواضحة والمتفاقمة التي تستطيع الولايات المتحدة التذمر منها في الأداء الأوروبي، ولا شك في أن ترامب سيلاحظها ويتطرق إليها إذا عاد إلى البيت الأبيض. بدأت أوروبا، بقيادة فرنسا، تبني الحواجز لحماية قطاعها الدفاعي: تعني القواعد الجديدة أنّ تلقي أي شركة دفاعية أوروبية فلساً واحداً من الاتحاد الأوروبي سيجعل الشراكات مع أطراف من خارج الاتحاد شبه مستحيلة نظراً إلى القيود الصارمة المفروضة على الملكية الفكرية. إنه تكتيك مقصود لإضعاف جاذبية تلك الشراكات.

سبق ولاحظ ترامب هذا النوع من السياسات الحمائية مع اقتراب نهاية ولايته الأولى، وفق معلومات مسؤول بارز في حلف الناتو، لكن توزعت تلك السياسات على خطوات متعددة منذ ذلك الحين. تهدف هذه التنظيمات في الأساس إلى تطوير قدرات صناعية عسكرية خاصة بأوروبا كي يتمكن الأوروبيون من تحسين قدرتهم على الدفاع عن أنفسهم. إنه شكل من تقاسم الأعباء. من المتوقع أن ينعكس هذا الوضع إيجاباً على الغرب ككل لأسباب عدة. لكن تسلّط هذه الخطوة الضوء على مشاكل أكثر حدة: ما الذي يدفع الولايات المتحدة إلى تحمّل كلفة الدفاع الأوروبي إذا كانت أوروبا تبني الحواجز أمام شركات الدفاع الأميركية؟ وإذا كان الغرب يستحق دفاعاً جماعياً، فكيف يُعقَل أن يتابع تشييد الأسوار بين مختلف أعضائه؟ في هذا السياق، يقول مسؤول حكومي أوروبي: "لا بأس ببناء الحواجز في محيط الغرب. لكن لا يمكن بناؤها داخل الغرب".

تتعلق المشكلة الثانية بجانب سطحي لكن أكثر أهمية: شخصية ترامب بحد ذاتها. من السذاجة أن نتوقع حل مشاكله مع أوروبا يوماً أو تحسّن الوضع بعدما تعالج أوروبا المسائل التي ينتقدها. لا تبدو مشكلة ترامب مع أوروبا واضحة المعالم، بل إنها مسألة فطرية. هو يُعبّر بكل بساطة عن عقلية «أميركا أولاً» حين يواجه أي خلافات سياسية، ويرفض حلفاء بلده الغربيين لأسباب فلسفية أكثر عمقاً. عملياً، لا يؤيد ترامب النظام الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة لأن هذا النهج يزيد الأعباء على بلده برأيه، وهو وضع لا تحتاج إليه واشنطن ولا تستفيد منه. هو يظن أن الولايات المتحدة، باعتبارها أقوى دولة في العالم، ستصبح في حال أفضل حين تخوض منافسة مباشرة مع جميع الأطراف الأخرى، فلا تدعم حلفاءها المزعومين قبل أن يعودوا وينافسوا الولايات المتحدة في قطاع الأعمال.





خط أنابيب الغاز "نورد ستريم 2" الذي يصل روسيا بألمانيا



في هذا السياق، تقول فيونا هيل، مستشارة ترامب السابقة في شؤون روسيا، إن ترامب يريد أن تنفتح أوروبا على الصناعات الأميركية مقابل انفتاح الولايات المتحدة على أوروبا. حين يتطلع ترامب إلى حلف الناتو ومجموعة السبع، هو لا يرى نظاماً أميركياً حيث تترافق القوة مع المسؤوليات، بل يشاهد طرفاً يستغل الآخر.

يعترف المسؤول في حلف الناتو بأن الأوروبيين يشعرون في أوساطهم الخاصة بحالة من الذعر والإحباط إزاء احتمال عودة ترامب إلى الرئاسة الأميركية، ويظن الكثيرون أن هذه النتيجة أصبحت حتمية. لكن بناءً على مسار ولايته الأولى وتوجهات سياساته منذ رحيله من السلطة، لا داعي لانتشار القلق وسط الأوروبيين. لم يتفكك الناتو خلال عهده بل توسّع الوجود الأميركي في أوروبا. حتى أن أسلوبه الفظ وغير الدبلوماسي في التملق والتهديد والإهانة أنتج حالة طارئة وسط القادة الأوروبيين ودفعهم إلى معالجة مخاوفه. لكن على المستوى الاستراتيجي، لم تغيّر أوروبا مسارها. تابعت ألمانيا وفرنسا دعمهما لإقامة علاقات منفصلة مع روسيا والصين وتخفيف اتكال أوروبا على الولايات المتحدة. لم يكن ترامب المسؤول عن تغيير الوضع بل جنون العظمة الذي أصاب بوتين.

أخيراً، يجب أن يعترف الجميع بأن ترامب لا يصيب في جميع توقعاته. في العام 2018، عبّر ترامب عن سروره في ختام قمة الناتو في بروكسل، لكنه وجّه تحذيراً لاذعاً إلى ألمانيا بشأن مشروع خط أنابيب الغاز مع روسيا، فقال: "قد تصبح علاقات الجميع مع روسيا حسنة، ما يعني تراجع المشاكل المتعلقة بخط الأنابيب".

قد لا يكون ترامب شبيهاً برجال الدولة المعتادين على شرب البراندي، مثل تشرشل وروزفلت. لكن حتى لو أصبح معظم العالم الغربي أقرب إلى توجهات ترامب، لا يعني ذلك أنه ما عاد يتوق إلى عيش تجربة تلك الشخصيات البارزة، فيجلس في قاعة مع بوتين وشي جين بينغ لاتخاذ القرارات وحدهم، بعيداً عن حلفاء واشنطن المزعجين. بنظر ترامب، قد تصبح أوروبا أقل إزعاجاً، لكنّ الغرب ليس العالم الذي يريد قيادته.


MISS 3