المحتجون في هونغ كونغ ينقصهم الأمل!

14 : 59

منذ أشهر، قيل إن احتجاجات هونغ كونغ ستتلاشى قريباً. وخلال الصيف، قيل إنها ستنتهي مع بدء موسم المدارس. فتحت المدارس أبوابها لكن استمرت الاحتجاجات، وانضم طلاب الثانوية بزيّهم المدرسي المجعد حديثاً إلى صفوف المحتجين. وكان يُفترض أن يتباطأ مسار المتظاهرين غداة حظر استعمال الأقنعة في بداية تشرين الأول. لكن بعد يوم واحد على ذلك الحظر، شقّ المحتجون، مع أقنعتهم وخوذاتهم، طريقهم مجدداً لخوض مطارداتهم المعتادة في جزيرة هونغ كونغ.

أغلقت الحكومة عدداً كبيراً من خطوط مترو الأنفاق، وسرعان ما تحوّل هذا التدبير إلى حظر تجوّل حقيقي لأن معظم الناس يتكلون على نظام المترو الفاعل بقدر خدمات "أوبر" للتجول في هونغ كونغ. رغم ذلك، اختار المحتجون أن يتنقلوا سيراً على الأقدام، حتى أنهم كانوا يقطعون مسافات طويلة أحياناً. سرتُ معهم وطرحتُ عليهم الأسئلة التي أطرحها منذ أشهر: هل تظنون أنكم ستتابعون الاحتجاج؟ ما الذي يستطيع ردعكم؟

يقول واحد من أشهر الهتافات في هونغ كونغ: "خمسة مطالب، من دون زائد أو نقصان". تشمل تلك المطالب سحب قانون تسليم المطلوبين للصين الذي أجّج في الأصل الاحتجاجات في شهر حزيران، وتشكيل لجنة مستقلة للتحقيق بسوء سلوك الشرطة، وسحب اتهامات الشغب بحق المحتجين، والعفو عن المحتجين المعتقلين، والأهم من ذلك هو تنظيم اقتراع عام.

لا شيء يحرك سكان هونغ كونغ بقدر هذا المطلب الأخير. منذ أيام، أطلق شرطي النار على محتج في معدته من مسافة قريبة، ودهس ضابط شرطة آخر المحتجين بدراجته النارية، ما دفع الحشود إلى تغيير مسارها. في وقتٍ لاحق من ذلك اليوم، عقدت كاري لام، المديرة التنفيذية لهونغ كونغ، مؤتمراً صحافياً واعتبرت المحتجين بكل برود "أعداء الشعب". هي وصلت إلى منصبها بعدما انتخبها 777 شخصاً من أصل 1200 في "اللجنة الانتخابية"، علماً أن عدداً كبيراً من أعضائها رجال أعمال على صلة بالصين. يمكن اعتبار لام إذاً خيار بكين بامتياز. كشفت الاستطلاعات في تشرين الأول أن نسبة تأييدها تبلغ 22%، ما يعني أن شخصاً واحداً تقريباً من كل عشرة في هونغ كونغ سيصوّت لها طوعاً. لا عجب في أن يطالب المحتجون إذاً بحق انتخاب قادتهم.

من الواضح أن الاحتجاجات ألقت بثقلها على المحتجين. يشعر الكثيرون منهم بالتعب. ووفق بعض الاستطلاعات، تعرّض أكثر من 80% من شعب هونغ كونغ للغاز المسيل للدموع: إنه رقم هائل! كذلك، غرقت أحياء كثيرة في محيط مواقع الاحتجاجات في سُحب الدخان الضارة خلال مسيرة نظّمها المحتجون نيابةً عن حيواناتهم الأليفة. قال أحد السكان دامعاً إنه لا يستطيع وضع قناع على وجه كلبه، ووزع آخرون ملصقات عليها صور كلاب وقطط كجزءٍ من معدات الاحتجاج التي تشمل أيضاً خوذات وأقنعة وزجاجات من مشروب الطاقة المائي بوكاري (أصبح هذا الخليط المشروب الرسمي في الاحتجاجات).

تزامناً مع كل احتجاج، تنتشر فيديوات حيث يتعرّض المحتجون للضرب على يد الشرطة. يُنقَل عدد كبير من اللقطات مباشرةً ويثير رعب من يشاهدوها. اعتُقِل آلاف الأشخاص حتى الآن، وتخرج قصص مخيفة من مراكز الشرطة، منها ادعاءات بحصول تعذيب واعتداءات جنسية واغتصاب. على منصة "تلغرام"، يزعم محتجون كثيرون أن مجموعة من حالات الانتحار الأخيرة ليست إلا جرائم قتل ارتكبتها الشرطة وأعطتها طابعاً انتحارياً. عند اعتقال المحتجين، من الشائع أن يصرخوا بأسمائهم، على أمل أن يتمكن المحامون وأفراد عائلاتهم من الوصول إليهم. حتى أن البعض يهتف بأنه لا يحمل ميولاً انتحارية. إذا لم يسمع أحد شيئاً عنهم مجدداً، يريد هؤلاء أن يتّضح للجميع المسؤول عما أصابهم.

غالباً ما أسأل المحتجين إذا كانوا يخشون عواقب المشاركة في تلك الاحتجاجات. تنقطع مقابلات كثيرة بسبب الغاز المسيل للدموع ورذاذ الفلفل، أو توجّه رجال الشرطة نحونا، أو وصول شاحنة مكافحة الشغب المزوّدة بمدافع المياه. بدأ الخوف من الغاز المسيل للدموع يتراجع بين المحتجين الذين اكتسبوا خبرة في الساحات. يضع البعض أقنعة مضادة للغاز، لكنهم يجازفون حينها بدخول السجن طوال سنة أو بمواجهة تهمة الشغب التي تترافق أحياناً مع حكم بالسجن لعشر سنوات. يستعمل البعض الآخر أقنعة جراحية رديئة، ما يسمح لهم بإخفاء هويتهم، لكنهم لا يستطيعون فعل شيء لتجنب شعور الحرقة في العيون والحلق والرئتين. هم يسعلون ويركضون ويغسلون عيونهم بالمحلول الملحي أو المياه ويتابعون مسارهم. لكنهم يخشون في المقابل التعرّض للخطف أو القتل.

يظن الكثيرون أن الناس قُتِلوا على يد الشرطة عشية 31 آب في محطة الأمير إدوارد، حين أغلقت الشرطة محطة المترو وحجزت المحتجين فيها. انتشرت فيديوات لشبّان يربضون على الأرض بعد رشّ رذاذ الفلفل على مسافة قريبة منهم وتعرّضهم للضرب. لكن مُنِع دخول المسعفين، ونقلت الشرطة المصابين إلى محطات أخرى، فيما انتظر الكثيرون في الخارج استلام الجرحى لكن من دون جدوى. نعرف بوقوع إصابات بالغة لأن هؤلاء الأشخاص نُقِلوا إلى المستشفى، لكن يظن المحتجون أن الشرطة قتلت عدداً صغيراً من الناس على الأقل وأغلقت المحطة لمحو الأدلة. لم تظهر أي أدلة رسمية حول أشخاص مفقودين، لكن في ظل هذا القدر من انعدام الثقة، بدأ المحتجون الذين تعرضوا لإصابات بالغة يقصدون "عيادات سرية" بدل المستشفيات العادية.

كل ليلة تقريباً، يحضر المحتجون إلى مدخل محطة الأمير إدوارد، بالقرب من مركز شرطة "مونغ كوك" مباشرةً. فيجلبون الأزهار والشموع وتقدمات أخرى، ويطالبون بنشر الصور التي التقطتها كاميرات المراقبة في تلك الليلة، ويطلقون الشعارات ويشتمون الشرطة. غالباً ما يواجهون في المقابل الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي. تعمد الشرطة أحياناً إلى إزالة الأزهار، لكن يعود المحتجون مع كميات إضافية منها في اليوم التالي.

ردّت حكومة هونغ كونغ المدعومة من الصين على هذه الأحداث كلها بطريقة تثبت أنها فقدت السيطرة على الأوضاع. ويبدو أن أفضل حل لفرض السيطرة مجدداً يقضي من وجهة نظرها بتكثيف حملات القمع. في غضون ذلك، يقول نصف سكان هونغ كونغ تقريباً إن ثقتهم بالشرطة معدومة. قبل موجة الاحتجاجات الأخيرة، في شهر حزيران، اقتصرت نسبة من يؤيدون هذا الرأي على 6.5% في الاستطلاع نفسه. بغض النظر عما يحصل، لا تكسب هذه الحكومة غير المُنتخَبة أي شكل من التعاطف أو التأييد. لذا قد تعمد إلى استعمال أسلوب الترهيب المباشر.

في الأسبوع الماضي، توجّهتُ إلى "فيكتوريا بارك"، حيث أعلن المرشحون المؤيدون للديموقراطية عن استعدادهم لعقد الاجتماعات اللازمة تمهيداً للانتخابات المقبلة في هونغ كونغ. لا يتمتع المجلس التشريعي بالصلاحيات الكاملة ولا يستطيع تنظيم اقتراع عام، وقد يُسحَب المرشحون "غير المقبولين" من المنافسة بسبب "عدم أهليتهم" ويُمنَعون من الترشّح، كما حصل مع جوشوا وونغ، زعيم مرموق من "حركة المظلات" التي نشأت في العام 2014. مع ذلك، يبرز عدد آخر من المرشحين الداعمين للديموقراطية وناخبيهم، ويتوق الناس على ما يبدو إلى رفع صوتهم. تكلمتُ مع شابتَين، من بين آلاف الحاضرين الآخرين، قبل أن تطلق الشرطة الغاز المسيل للدموع في الحديقة وتعتقل بعض المرشحين وتضربهم.

كانت واحدة منهما تضع رسومات زرقاء فاتحة للنجوم والقمر على أظافرها. أما الشابة الثانية، فكانت تعتمر قبعة عصرية تتماشى مع لون قناعها الجراحي، وراحت عيناها النابضتان تلمعان في الفتحة الصغيرة بينهما. لم تستعمل المرأتان أي خوذة أو نظارات واقية، ولم تحملا حقائب ظهر فيها معدات مماثلة.سألتُهما بحذر شديد: "ألا تخافان"؟ فأجابتا سريعاً: "نحن نخاف طبعاً". ضحكتا للحظة قبل أن تسترجعا نبرة جدّية وتُضيفا: "إنها آخر فرصة لنا. إذا تراجعنا، لن يبقى أي رادع بيننا وبين الصين". كذلك، تكلّمتا عن "سنجان" وما فعلته الصين بأقلية الإيغور. سمعتُ الكثير عن مصير هذه الجماعة من المحتجين على مر الأشهر الأخيرة. ربما أرادت الصين أن تجعل تلك المنطقة درساً للآخرين، لكن استخلص سكان هونغ كونغ استنتاجاً معاكساً: قاوموا بكل قوتكم! فإذا خسرتم مرة، سيواجه الشعب كارثة كبرى ولن يحرك العالم ساكناً!

لا تثق الشابتان بانتصار هذه التحركات. إنه رأي شائع على نطاق واسع. من الواضح أن المحتجين ليسوا من النوع المتفائل. لا يمكن التركيز على النواحي الإيجابية في هذه الحالة. مع ذلك، تُصِرّ واحدة من المرأتَين: "لا نستطيع الاستسلام رغم كل شيء. إذا فعلنا، لا مستقبل لنا في مطلق الأحوال. حتى أننا قد ننجرّ إلى القتال".

أعطتني إحدى الشابات مظلة: يستعمل المحتجون هذه الأداة للاحتماء من أشعة الشمس، وكاميرات المراقبة، والمروحيات فوق رؤوسهم، والمياه الزرقاء المغطاة برذاذ الفلفل في مدافع المياه، وقنابل الغاز المسيل للدموع. لاحظ المحتجون أنني لا أملك مظلة وقلقوا عليّ. هم يحملون مظلات إضافية لمشاركتها مع الآخرين. قالت لي المرأة إنني قد أحتاج إلى المظلة وتمنّت لي حظاً سعيداً. ثم تدفقت سُحب الغاز المسيل للدموع باتجاهنا، كما يحصل دوماً في هونغ كونغ راهناً، فتفرّقت الحشود.