والتر ماير

زيارة إلى مسقط رأس فولوديمير زيلينسكي

14 تموز 2022

المصدر: DER SPIEGEL

02 : 00

منزل فولوديمير زيلينسكي الأول في كريفي ريه

«كريفي ريه» مدينة قلبها من فولاذ! لا يزال هذا الوصف يناسبها حتى اليوم لأنها تعجّ بمشاهد مستوحاة من الحقبة السوفياتية: يعمل الرجال هناك أمام أفران الصهر طوال عشر ساعات يومياً، وتهرع النساء العاملات إلى منازلهنّ بعد الدوام مساءً عبر وديان ضيقة. ويطغى خام الحديد وفحم الكوك والفولاذ على أجواء هذه المنطقة.

في هذه المدينة الواقعة في وسط أوكرانيا، يتكلم معظم السكان (630 ألف نسمة) اللغة الروسية. قد لا يفعلون ذلك في المكاتب الإدارية لكنها اللغة التي يستعملونها في الشوارع. تبدو تلك الشوارع مغطاة بغبار خام الحديد، فتتشكل بحيرات حمراء عميقة بعد هطول الأمطار. تسجّل "كريفي ريه" أعلى عدد من إصابات السرطان في البلد، وتغطي مصانع الفولاذ منطقة بحجم أي مدينة أوكرانية متوسطة.

خلال الحقبة السوفياتية، نشأ فتى حساس على مسافة غير بعيدة من مصنع مماثل. كان يحضر دروساً في الرقص والغيتار في فترة بعد الظهر، حتى أنه ظهر في برنامج Gentleman Show حين كان في عمر الحادية عشرة. تُخصَّص هذه المسابقة لمواهب الغناء والرقص والتمثيل. فاز حينها فتى لقبه "فوفا" في البرنامج.

لا بد من زيارة "كريفي ريه" لفهم ما جعل "فوفا" الموهوب في الموســـيقى والكوميديا يتحول إلى فولوديمير زيلينسكي، الرجل بقميصه الزيتي الذي يقود بلده للتصدي للأعمال العدائية الروسية منذ أربعة أشهر. كانت مدينة الفولاذ التي وُلِد ونشأ فيها الرئيس الأوكراني كفيلة برسم شخصيته وتقويته. هذا ما يقوله السكان الحريصون على إبراز دور المدينة في نجاحه على الأقل. لكن يقول آخرون إن زيلينسكي شخصياً هو من شق طريقه ووصل إلى ما هو عليه.

بدأ زيلينسكي يشتهر في الأوساط السياسية بعد مشاركته في المسلسل التلفزيوني Servant of the People (خادم الشعب) في العام 2015، علماً أنه عرض أحداثاً عادت وتحققت على أرض الواقع. هو يؤدي فيه دور مدرّس يصبح رئيس البلاد بفضل نضاله الحثيث ضد الفساد، فيكسب قلوب الناخبين بسهولة. إنه الخط الذي سار عليه زيلينسكي في الحياة الواقعية أيضاً.

ينحدر زيلينسكي من عائلة يهودية، لكنه لم ينشأ في بيئة متدينة. كانت المنطقة التي عاش فيها في بلدته تُعتبر محصّنة نسبياً خلال الفترة التي تلت انهيار الاتحاد السوفياتي، فقد شهدت المدينة حينها معارك محتدمة بين العصابات.

يقول أندريه شايكان، عميد معهد الاقتصاد والتكنولوجيا في جامعة "كريفي ريه": "بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، اختفت مظاهر الثقافة أو الرياضة، فراح الشباب يتسكع في كل مكان". كان شايكان طالباً جامعياً أثناء وجود زيلينسكي هناك، وهو لا يزال يُعلّم في المعهد، ويقع مكتبه اليوم في مبنى استُعمِل قَبْوه سابقاً من جانب وزارة الداخلية السوفياتية والشرطة النازية السرية.

درس زيلينسكي القانون في شبابه، قبل أن يصبح كوميدياً ثم رئيساً للبلاد، وأصبح شايكان منذ ذلك الحين رب عمل والد زيلينسكي، وهو رجل طموح وحيوي في منتصف السبعينات من عمره لا يزال يكشف للطلاب أسرار تكنولوجيا المعلومات وتصاميم البرمجيات. في شهر حزيران الماضي، أشرف هذا الأخير على امتحانات في "كريفي ريه".

تعرّف فولوديمير، الرئيس، على شايكان خلال مسابقة "نادي المرح والخيال". اعتُبِر هذا البرنامج نقطة انطلاق إلى عالم التلفزيون والأفلام والمسرح. يقول العميد اليوم إنه أدرك سريعاً أنه لا يستطيع مضاهاة النجم الكوميدي المستقبلي وفرقته: "كانوا يتدربون لسنوات وبلغوا أعلى درجات الاحتراف. وكان فولوديمير قائدهم وقدّم المقاطع الفردية بنفسه".

يقول شايكان إنهما تابعا بعضهما على مر سنوات. أراد زيلينسكي في البداية أن يصبح ضابطاً في الشرطة مثل جدّه، لكنه كان يعود إلى الجامعة التي تخرّج منها في "كريفي ريه" مرتَين في السنة، حتى العام 2019، للمشاركة في برامج لجمع الأموال لأطفال خسروا أهاليهم أو أولاد محرومين بالقدر نفسه. يضيف شايكان: "هو شخص لا يتهرب من المسؤولية".

مع استمرار رحلتنا في هذه المنطقة الوعرة ومتعددة الأوجه، قد توحي أجزاء من وسط المدينة بأننا أخذنا منعطفاً خاطئاً ووصلنا في النهاية إلى قرية زراعية أوكرانية خلابة. لكن سرعان ما تلوح أبراج سكنية في الأفق وتنتشر على مد النظر. وسط هذه المظاهر المتناقضة، تتعدد عناصر الحياة المعاصرة أيضاً: ثمة مكان للاسترخاء وتدخين الأركيلة في مطعم "غروشا" الجورجي، بالقرب من متجر جنسي اسمه "نو تابو". تقع هذه الأماكن كلها على بُعد مسافة قصيرة من المنطقة التي أمضى فيها زيلينسكي طفولته.

لكن تتعدد المواقع التي لا تزال على حالها، منها السيرك القديم من الحقبة السوفياتية، وحديقة "هيروز"، و"القصر الثقافي لعلماء المعادن". ولا يزال الغبار الأحمر المريع الذي ينتشر في الهواء على حاله أيضاً، فهو يتناثر حين يبلغ الإنتاج ذروته. في حي زيلينسكي السابق، يروي الناس قصصاً حول تجوّل كلاب حمراء اللون في المناطق السكنية بالقرب من المناجم وأفران الصهر. يستعمل سكان "كريفي ريه" الأحواض، التي تمتص الغبار أمام مصانع الفولاذ وسبق وتحولت إلى بحيرات صغيرة، للصيد والسباحة.

يقع المبنى السكني الذي وُلِد فيه زيلينسكي في فناء مُورِق في شارع اسمه "هوروفا" اليوم. كان الرئيس الحالي لوكالة الاستخبارات الأوكرانية، إيفان باكانوف، يعيش في الطابق نفسه من ذلك المبنى مع والدَيه. انتقلت عائلة زيلينسكي لاحقاً إلى مجمع الأبراج السكنية الضخمة "آنت هيل" الذي شمل 854 شقة لكنه عاد وهُدِم لاحقاً. في خضم رحلة البحث عمّن يحملون ذكريات عن الرئيس الأوكراني، ظهر رجل يحمل منجلاً وراح يطلق التهديدات. هو يخشى أن تصل الصور إلى الروس عن المكان الذي عاش فيه الرئيس سابقاً، ما يعني تعريض حياة آلاف الناس للخطر.




متنزّه للأطفال في كريفي ريه



أحياناً، يبدو وكأن الرفاق القدامى من "كريفي ريه" يعيقون مسار الرئيس بدل مساعدته. قصد إيفان باكانوف الجامعة نفسها مع زيلينسكي مثلاً، ثم أصبحا شريكَين في العمل. في العام 2019، نظّم باكانوف حملة زيلينسكي الانتخابية الناجحة، ثم عُيّن رئيساً لوكالة الاستخبارات. لكن تذكر التقارير الأوكرانية اليوم أنه قد يرحل من هذا المنصب قريباً. هو يتلقى اللوم على الأخطاء الاستراتيجية الكارثية التي سمحت للروس بدخول مدينة "خيرسون" المهمة. حتى أنه المُلام على استفحال الفساد داخل وكالة الاستخبارات الأوكرانية.

تشهد ممرات وزوايا الدخان والغبار اللامتناهية على تحوّل مصنع "أسوفستال" في "ماريوبول" إلى آخر معقل للمدافعين عن المدينة. لا تزال "كريفي ريه" بعيدة كل البعد عن هذا الواقع، لكن يقول العامل فيتالي، الذي يشرف على حوضٍ ضخم لجمع الحديد المنصهر بعد فصله عن ركام المعادن، إنه لا يستبعد انجرار المنطقة إلى الحرب قريباً. أشار ميزان الحرارة على يساره إلى 1435 درجة مئوية. هل يُعتبر هذا العمل الأخطر في المصنع كله؟ يجيب فيتالي: "الخطر موجود في كل مكان، لا سيما في هذه الفترة".

يثبت خطاب فولوديمير زيلينسكي البسيط أن بلدة الفولاذ ولدت رجلاً يتمتع بإرادة حديدية. لكنّ هذه الفرضية تتغاضى عن تأثير الأبوَين والجدَّين في حياة ذلك الفتى المُلقّب باسم "فوفا". بعيداً عن وسط المدينة، في ضواحي "كريفي ريه"، تقع مقبرة "جميع الإخوة" التي تشمل ضريحاً أسود اللون لسيمون زيلينسكي وزوجته. كان جدّ الرئيس عقيداً في الشعبة السوفياتية رقم 57 للبنادق الآلية خلال الحرب العالمية الثانية، وهو الناجي الوحيد من بين أربعة أشقاء.




الحي السكني المعروف باسم "آنت هيل"



تابع سيمون القتال رغم انتهاء الحرب. نظراً إلى سمعته الممتازة، طلب منه مجلس المدينة أن يلقي القبض على عصابة سيئة السمعة في "كريفي ريه". يقال إن حلم حفيده فولوديمير بأن يصبح ضابط شرطة اشتق من إعجابه بجدّه. تداولت وسائل الإعلام حول العالم صورة يظهر فيها زيلينسكي وهو يركع أمام ضريح جدّه عشية تنصيبه.

لم تمرّ ثلاث سنوات على ذلك الحدث حتى أخبر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نظيره زيلينسكي اليهودي بأنه ينوي "اجتثاث النازية" من أوكرانيا.

لا أحد يعرف بعد إذا كانت الحرب ستصل إلى "كريفي ريه" التي تحمل معنىً رمزياً مهماً باعتبارها مسقط رأس الرئيس. في الشمال، باتجاه "دنيبرو"، يتابع الرجال مراقبة الوضع في خنادقهم بقيادة العقيد ألكسندر بيسكون. تنتشر هناك أيضاً قوة التفاعل السريع المعروفة باسم "بودرايا سمينا". إذا هاجم الروس المنطقة فعلاً، ستكون تلك القوة في طليعة الجهات الأوكرانية التي تتحرك لإطلاق رد مضاد. في الجنوب حيث يحمل عضو في الحرس الوطني رقعة على زيّه مع شعار "الولاء هو شرفي"، تُحفَر الخنادق وتُحوَّل مسارات الطرقات كي تتمكن الدبابات من العبور فيها عند الحاجة. بدأت التحضيرات إذاً لأسوأ السيناريوات. إستهدفت القذائف التي أطلقتها قاذفة الصواريخ المتعددة "أوراغان" حديثاً بلدات تقع على بُعد 20 كيلومتراً من جنوب "كريفي ريه"، وتنطلق صفارات الإنذار المرافقة للغارات الجوية ليلاً نهاراً. إذا أراد السكان أن ينفذوا تعليمات الإدارة العسكرية، فيجب أن يمضوا معظم أوقاتهم في الملاجئ.

إنطلقت صفارات الإنذار مجدداً حين حُمِل نعش الجندي إيفان دريوتشكوف نحو القبر في منطقة مغطاة بالحصى، بالقرب من المقبرة المركزية. لكن لم يلتفت الكثيرون إلى ما يحصل. التصقت نساء باكيات بالنعش فيما كان الكاهن يتابع مساره عمداً. بالقرب من قبر دريوتشكوف، حُفِر 16 قبراً آخر في آخر شهرَين وحملت جميعها العلم الأوكراني. في المحصّلة، تشمل بلدة "كريفي ريه" ما مجموعه 36 مقبرة.