روبين رايت - نيويوركر

بعد ستة عقود...تركيا حليفة أميركا بالاسم فقط

19 تشرين الثاني 2019

02 : 00

بعد سلسلة من التغريدات التي تدين جلسات الاستماع في مجلس النواب حول عزل الرئيس الأميركي ومستقبل عهده، أمضى ترامب بقية يوم الأربعاء وهو يحاول تملّق نظيره التركي رجب طيب أردوغان لإقناعه بالتعاون معه حول أي مسألة. صرّح ترامب أمام الصحافيين، فيما كان الزعيم التركي يقف إلى جانبه في المكتب البيضاوي: "نحن صديقان منذ فترة طويلة". ثم قال لاحقاً خلال مؤتمر صحافي مشترك: "أنا معجب جداً بالرئيس"! لا أهمية لفشل ترامب المتكرر في لفظ اسم "أردوغان" بطريقة صحيحة، كما فعل خلال زيارته الأخيرة في العام 2017، مع أنه أخطأ في لفظ الاسم بطرقٍ مختلفة في المناسبتَين. المهم هو أن ترامب لم يحرز أي تقدّم ملموس، مع أنه لوّح باحتمال عقد اتفاق تجاري بقيمة مئة مليار دولار. لكن لم يكن إخفاق الرئيس الأخير في السياسة الخارجية من صنعه وحده. خلال عهد أردوغان، زادت وقاحة تركيا في تحدي الولايات المتحدة والغرب وحتى حلف الناتو الذي تشارك فيه بثاني أكبر قوة عسكرية.



في السنوات الأخيرة، تذمّر المسؤولون الأميركيون لأن تركيا سمحت للمجاهدين بالتسلل عبر حدودها الجنوبية للانضمام إلى تنظيم "داعش" المشتق من "القاعدة" وجماعات مسلّحة أخرى في سوريا. ثم غزت تركيا سوريا خلال هذا الخريف لمحاربة الميليشيا الكردية التي تحظى بدعم أميركي وكانت قد هزمت "داعش". كذلك، تقرّبت تركيا من روسيا عسكرياً، وتعاونت مع إيران. سهّل بنك مملوك للدولة تنفيذ مخطط إيراني بقيمة مليارات الدولارات للتهرب من العقوبات الأميركية. محلياً، عمد أردوغان إلى قمع خصومه السياسيين، ووسائل الإعلام، وكبار رجال الأعمال، والأكاديميين، وحتى جيشه الخاص لفرض نظام حكمه. اعتُقِل آلاف الأشخاص بطريقة تنتهك مبادئ حقوق الإنسان في الاتحاد الأوروبي الذي حاولت تركيا الانضمام إليه منذ فترة طويلة.يقول فيل غوردون، مسؤول بارز في "مجلس العلاقات الخارجية" ومنسّق سياسة الشرق الأوسط في البيت الأبيض خلال عهد أوباما: "من حقنا أن نسأل: هل يمكن اعتبار تركيا حتى الآن حليفة الولايات المتحدة إلا بالاسم فقط"؟ تعتبر غونول تول، مديرة قسم الدراسات التركية في "معهد الشرق الأوسط" في واشنطن أن الأزمة القائمة هي الأسوأ في التاريخ الحديث للعلاقات بين واشنطن وأنقرة: "لطالما كانت معاداة الولايات المتحدة ظاهرة موجودة هناك، لكنها بلغت ذروتها في السنوات القليلة الماضية. تعتبر غالبية كبيرة من الناس في تركيا أن روسيا حليفة أفضل لبلدهم وأن الولايات المتحدة تطرح تهديدات متزايدة على الأمن القومي".يمثّل البلدان الجناحَين الغربي والشرقي من حلف الناتو، أكبر تحالف عسكري في العالم، وهما يتقاسمان منذ فترة الستينات الآراء نفسها حول التهديدات المشتركة التي تمثّلت سابقاً بالاتحاد السوفياتي أو التطرف. لكن لم يعد الوضع كذلك. تتعلق واحدة من أبرز المسائل المثيرة للجدل بقرار أردوغان شراء نظام الدفاع الجوي المزوّد بصواريخ "إس-400" المتقدمة من روسيا. تم تسليم أولى بطاريات الصواريخ، التي كانت جزءاً من صفقة بقيمة مليارَي دولار ونصف، في شهر تموز، ووصلت الشحنة الثانية في أيلول. ردّت الولايات المتحدة على تلك الخطوة بمنع تركيا من تصنيع أو شراء الطائرات الحربية المتقدمة "إف-35". لا يشتري أي عضو آخر في الناتو معدات عسكرية روسية لأن الحلف نشأ جزئياً للتصدي لنفوذ موسكو.

بموجب القانون، يحق للبيت الأبيض (استناداً إلى "قانون مكافحة أعداء أميركا من خلال العقوبات" الصادر في العام 2017) أن يفرض العقوبات على البلدان التي تقتني معدات دفاعية روسية. لم يفرض ترامب أي عقوبات بعد، على اعتبار أن النظام لن يصبح جاهزاً للاستعمال قبل شهر نيسان. لكنه اعترف خلال مؤتمره الصحافي مع أردوغان بأن حصول تركيا على صواريخ "إس-400" طرح "تحديات بالغة الصعوبة"، وقد فشل الزعيمان في حل خلافاتهما بحسب قوله لكنهما سيتابعان التحاور. في الحد الأدنى، تريد واشنطن من أنقرة أن تؤجّل إطلاق النظام، لكن يظن الخبراء أن أردوغان لن يوافـــــق

على الأرجــح.يتّضح الانقسام الاستراتيجي المتزايد بين الولايات المتحدة وتركيا في اختلاف رأيهما حول مكانة رجلَين تجمعهما علاقات متباينة مع البلدَين. بالنسبة إلى الولايات المتحدة، كان الجنرال مظلوم كوباني عبدي (اللقب الحربي لزعيم "قوات سوريا الديمقراطية" الكردي) أهم شخصية في حملة هزم "داعش" على مر خمس سنوات. خسر مظلوم أكثر من 11 ألف عنصر، رجالاً ونساءً، خلال محاربة المجاهدين من "داعش" في سوريا، بالتعاون مع أكثر من 70 دولة مشارِكة في ائتلاف يقوده الأميركيون. تكلم ترامب مع مظلوم مرتين في الأسابيع الأخيرة وأشاد به بشكلٍ متكرر. وفي الشهر الماضي، طلبت مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ المنتمين إلى الحزبَين الجمهوري والديمقراطي من وزارة الخارجية الأميركية تسريع معاملات منح التأشيرة كي يزور مظلوم واشنطن.لكن خلال المؤتمر الصحافي المشترك بين ترامب وأردوغان، اعتبر الرئيس التركي مظلوم (اسمه الحقيقي فرهاد عبدي شاهين) إرهابياً. قال أردوغان: "يجب ألا يرحّب بلد مثل الولايات المتحدة بشخص مماثل". أصدر الإنتربول "إشعاراً أحمر" لإلقاء القبض على مظلوم بطلبٍ من تركيا (يفرض هذا الإشعار على جميع الدول الأعضاء اعتقال الشخص المطلوب). نتيجةً لذلك، تبدو فرص زيارة مظلوم للولايات المتحدة ضئيلة اليوم.

على صعيد آخر، تختلف تركيا والولايات المتحدة حول مكانة رجل الدين التركي المُسنّ فتح الله غولن الذي عاش في جبال "بوكونوس" في بنسلفانيا طوال عشرين سنة. منذ محاولة الانقلاب، أدت الحملة القمعية التي أطلقها أردوغان إلى دق ناقوس الخطر في الحكومة الأميركية وجماعات حقوق الإنسان. اتهمت وزارة الخارجية الأميركية، في تقريرها السنوي حول حقوق الإنسان هذا العام، حكومة أردوغان بارتكاب جرائم قتل تعسفية، وبمقتل أشخاص محتجزين بطرقٍ مشبوهة، وبقضايا اختفاء قسري وتعذيب واعتقالات تعسفية وأسر عشرات آلاف الناس، منهم معارضون في البرلمان، ومحامون، وصحافيون، وثلاثة موظفين من حاملي الجنسية التركية في البعثة الأميركية إلى تركيا. كذلك، اتُهِمت الحكومة التركية بإغلاق بعض وسائل الإعلام، واضطهاد منتقدي السياسات الحكومية، وحجب مواقع إلكترونية، وتقييـد حرية التجمّع والتنقل وإنشاء الجمعيات. في هذا السياق، يقول نايت شينكان، مدير الأبحاث الخاصة في منظمة "فريدم هاوس": "تصاعدت حملة القمع المريعة منذ العام 2016". تُسجّل تركيا راهناً أكبر عدد من الصحافيين المعتقلين في العالم. كذلك، طُرِد حوالى 150 ألف شخص من وظائف الخدمة المدنية وحُرِموا من حقوقهم المدنية ومن العمل في القطاع الخاص بعد وضعهم على اللائحة السوداء. تظن تول أن المسار السياسي العام يوضح أن تركيا أصبحت اليوم "في قبضة رجل واحد".

لقد انقلب الكونغرس ضد تركيا. في الشهر الماضي، مرّر مجلس النواب قراراً مدعوماً من الحزبين (354 صوتاً مؤيداً مقابل 60 صوتاً معارضاً) لإدانة الغزو التركي لسوريا. وفي 29 تشرين الأول، صادق المجلس على قانون "الاحتماء من صراعات تركيا" (403 أصوات مؤيدة مقابل 16 صوتاً معارضاً)، وهو يدعو إلى فرض عقوبات على مسؤولين أتراك محددين يرتبطون بغزو شمالي سوريا، ويطالب وزارة الخارجية الأميركية بتقدير ثروة أردوغان وعائلته.

قبل التصويت على قانون "الاحتماء من صراعات تركيا"، أوضح إليوت أنغل، نائب ديموقرطي عن ولاية نيويورك ورئيس "لجنة العلاقات الخارجية" في مجلس النواب: "هذه العقوبات مُصمّمة بشكلٍ خاص لاستهداف المسؤولين الأتراك والمؤسسات التركية المسؤولة عن سفك الدماء في سوريا، من دون إيذاء الشعب التركي بلا مبرر. في النهاية، أردوغان هو المسؤول عن هذه الأفعال المريعة، لا الشعب التركي. أردوغان بلطجي مستبد". طرحت مجموعة من الحزبَين قانوناً مشابهاً في مجلس الشيوخ.



أمام هذه الضغوط من الحزبَين، اضطر ترامب لاتخاذ خطوة غير مألوفة، فدعا خمسة أعضاء جمهوريين بارزين في مجلس الشيوخ إلى الانضمام إليه خلال محادثاته مع أردوغان في المكتب البيضاوي. أدان الديموقراطيون قرار ترامب باستضافة أردوغان، ويظن أعضاء الكونغرس من الحزبَين أن الإدارة الأميركية يُفترض أن تعاقب تركيا بعد شرائها صواريخ "إس-400" الروسية.

لا يمكن طرد تركيا من الناتو مهما فعلت، لأن الحلف المؤلف من 29 بلداً لا يملك آلية لطرد أعضائه. تقدّم تركيا منافع استراتيجية تصبّ في مصلحة الولايات المتحدة والناتو معاً لأنها صلة وصل بين أوروبا والشرق الأوسط وبلدان كانت في السابق جزءاً من الاتحاد السوفياتي، وقد شكّلت طوال عقود محطة للتسوق الاستراتيجي. لكنّ تصدّع التحالف الأميركي التركي دفع الولايات المتحدة، برأي شينكان، إلى إعادة توزيع مواردها في بلدان أخرى وإعادة تشكيل استراتيجيتها. تُخطط واشنطن لتقوية روابطها العسكرية مع رومانيا على البحر الأسود، ومع اليونان وقبرص وإسرائيل في شرق البحر الأبيض المتوسط، ومع الأردن والعراق في الشرق الأوسط. حين أطلقت الولايات المتحدة ثماني مروحيات خلال الغارة التي قتلت زعيم "داعش"، أبو بكر البغدادي، في الشهر الماضي، انطلق الفريق من العراق مع أن البغدادي كان على بُعد أميال قليلة من الحدود التركية. يقول شينكان: "ستتابع الولايات المتحدة إعادة تموضعها وستأخذ أفعال تركيا بعين الاعتبار".في غضون ذلك، حصل أردوغان على كل ما يريده من ترامب. يقول فيل غوردون: "تلقى الرئيس التركي ختم الموافقة الرئاسي لزيارة المكتب البيضاوي وتسنّى له أن يفرض وجهة نظره على الرئيس مباشرةً. يبدو أن ترامب يستمتع بهذه اللقاءات الشخصية بين الرؤساء، لكنه لم يثبت بعد المنافع التي ستتلقاها الولايات المتحدة من هذا اللقاء بالذات".

MISS 3