باري ر. بوزين

نظريات غير واقعية عن انتصار أوكرانيا

15 تموز 2022

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في كييف

في ظل تقدّم القوات الروسية في أوكرانيا، يبدو أن رئيس البلد وحلفاءه يُجمِعون على ضرورة أن تتابع أوكرانيا القتال حتى تحقيق النصر واسترجاع الوضع الذي كان قائماً قبل الحرب. يعني ذلك أن تتخلى روسيا عن الأراضي التي استولت عليها منذ شهر شباط الماضي، وألا تعترف أوكرانيا بضم شبه جزيرة القرم أو بالدويلات الانفصالية الناشئة في إقليم "دونباس"، بل تتابع مسارها للانتساب إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.

ستكون هذه النتيجة هزيمة واضحة بالنسبة إلى روسيا. ونظراً إلى التكاليف الكبرى التي تكبدتها حتى الآن وعدم التوجه إلى رفع العقوبات الاقتصادية الغربية عنها في أي وقت قريب، قد لا تُحقق موسكو أي مكاسب من هذه الحرب في نهاية المطاف، بل إنها قد تضعف بشكلٍ دائم، أو "تصبح مستضعفة لدرجة أن تعجز عن تكرار ما فعلته حين قررت غزو أوكرانيا"، كما قال وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن.

إقترح داعمو أوكرانيا مسارَين لتحقيق النصر. يمرّ المسار الأول بأوكرانيا، ما يعني أن تهزم أوكرانيا روسيا في ساحة المعركة، بمساعدة الغرب، فتستنزف القوات الروسية أو تتفوق عليها عبر مناوراتها الحذقة. أما المسار الثاني، فهو يمرّ بموسكو. من خلال استعمال خليط من المكاسب في ساحة المعركة والضغوط الاقتصادية، يستطيع الغرب أن يقنع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بإنهاء الحرب، أو ربما يقنع مسؤولاً آخر في أوساطه المقرّبة باستبداله بالقوة.

لكن ترتكز نظريّتا النصر على أسس هشة. في أوكرانيا، يبقى الجيش الروسي قوياً بما يكفي للدفاع عن معظم مكاسبه. وفي روسيا، يبقى الاقتصاد مستقلاً بما يكفي ويفرض بوتين سيطرة كافية تمنعه من التنازل عن تلك المكاسب. لن تؤدي الاستراتيجية الراهنة إلى انتصار أوكرانيا إذاً، بل من المتوقع أن تستمر حرب دموية لا تصل إلى نهاية حاسمة. سيكون أي صراع مطوّل مكلفاً جداً على مستوى الخسائر البشرية والأضرار الاقتصادية، حتى أن الوضع قد يتفاقم ويصل إلى حد استعمال الأسلحة النووية.

يتكلم قادة أوكرانيا وداعموهم إذاً وكأن النصر أصبح وشيكاً. لكن تبقى هذه الفكرة مجرّد وهم. يجب أن يعيد الغرب وأوكرانيا النظر بطموحاتهما وينتقلان من استراتيجية الفوز بالحرب إلى تطبيق مقاربة أكثر واقعية، أي التوصل إلى تسوية دبلوماسية لإنهاء القتال.

يصعب تقييم أثر الخسائر البشرية على حسابات بوتين المرتبطة بمصالحه الخاصة. لكن من المستبعد أن يقنعه هذا العامل بالانسحاب. غالباً ما تتكبد القوى العظمى خسائر كبرى في الحروب التي تمتد على سنوات، وقد يحصل ذلك لأسباب واهية أحياناً. هذا ما أصاب الولايات المتحدة مثلاً في فيتنام وأفغانستان والعراق، وهذا ما أصاب الاتحاد السوفياتي في أفغانستان أيضاً. قبل بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في شهر شباط الماضي، أصرّ الكثيرون في الغرب على تنظيم صفوف الأوكرانيين لإنشاء حركة تمرّد مستعدة لخوض حرب عصابات ضد روسيا. كان هذا المعسكر يأمل في منع أي هجوم روسي مسبقاً، أو تحميل القوات الروسية تكاليف كبرى قد تدفعها إلى الانسحاب سريعاً في حال أقدمت على الهجوم. لكن تكمن مشكلة هذه الاستراتيجية في تكبّد المتمردين خسائر هائلة قبل أن يتمكنوا من زيادة الأعباء على قوات الاحتلال. قد يبدي الأوكرانيون استعدادهم لزيادة الخسائر المؤلمة خلال أي حرب استنزاف تقليدية ضد روسيا، لكنهم لا يستطيعون بالضرورة أن يسببوا أضراراً كافية لتحقيق النصر الذي يطمحون إليه.

حتى أن الأوكرانيين قد يعجزون عن تحمّل هذا الكم من الخسائر لفترة طويلة. يسهل أن يفقد أكثر الجنود وطنية صبرهم إذا بدا لهم القتال عقيماً. وإذا زادت الخسائر لدرجة أن تضطر أوكرانيا لإرسال قوات أقل جهوزية إلى معركة ميؤوس منها، لا مفر من انهيار الدعم لحرب الاستنزاف غير المحدودة في نهاية المطاف. في المقابل، يتمتع الروس بقدرة عالية على تحمّل الألم. لقد سيطر بوتين على الخطاب المحلي المرتبط بهذه الحرب لدرجة أن يقتنع جزء كبير من المواطنين الروس بأن المعركة تتعلق بحماية الأمن القومي.



يتفقدون المباني السكنية التي دمّرها هجوم صاروخي في خاركيف





إلى طاولة المفاوضات

لا أحد يستطيع التأكيد على عدم تضرر الجيش الروسي لدرجة انهياره أو استحالة تضرر روسيا بما يكفي لدفع بوتين إلى الاستسلام. لكن تبقى هذه النتائج مستبعدة جداً. توحي الظروف الحالية بأن القتال الذي يمتد على أشهر أو سنوات سيؤدي إلى طريق مسدود على طول خطوط المعارك الراهنة. يُفترض أن تتمكن أوكرانيا من كبح التقدم الروسي بفضل قواتها المندفعة، والدعم الغربي الكبير الذي تتلقاه، وتفوّقها على مستوى التكتيكات الدفاعية.

لكن تملك روسيا عدداً أكبر من القوات العسكرية، ويُفترض أن يسمح لها هذا العامل بالتصدي للاعتداءات الأوكرانية المضادة التي تهدف إلى كبح المكاسب الروسية. في روسيا، قد تزعج العقوبات الغربية الشعب وتوقف النمو الاقتصادي، لكن يُفترض أن تتوقف التداعيات المتوقعة عند هذا الحد نظراً إلى اتكال البلد على نفسه لتأمين إمدادات الطاقة والمواد الخام. في المقابل، قد تفقد الشعوب الغربية صبرها، فتنزعج من الأضرار الجانبية للعقوبات وتسأم من الحرب، وقد لا يعود الدعم الغربي لأوكرانيا سخياً بالقدر نفسه. تشير هذه العوامل مُجتمعةً إلى تعادل الطرفَين في ساحة المعركة.

مع مرور الأشهر والسنين، ستتكبد روسيا وأوكرانيا معاً خسائر كبرى لبلوغ أهداف سبق وحققها البلدان: كسب أراضٍ محدودة لروسيا، وإنشاء حكومة قوية ومستقلة تسيطر على معظم أراضي ما قبل الحرب في أوكرانيا. في مرحلة معينة، سيضطر البلدان للتفاوض على الأرجح، وسيعترفان بأهمية خوض مفاوضات جدّية حيث يقدّم كل طرف تنازلات قيّمة.

إذا كانت هذه النتيجة الأقرب إلى الواقع، من غير المنطقي أن تنقل الدول الغربية المزيد من الأسلحة والأموال إلى الحرب لتوسيع مظاهر الموت والدمار مع كل أسبوع جديد. يجب أن يتابع حلفاء أوكرانيا تقديم الموارد التي يحتاج إليها البلد للدفاع عن نفسه في وجه الاعتداءات الروسية، لكن من دون أن يشجعوا الأوكرانيين على تبديد مواردهم خلال اعتداءات مضادة عقيمة. بل يجب أن ينتقل الغرب إلى طاولة المفاوضات فوراً.

لن تكون نتائج الجهود الدبلوماسية مؤكدة طبعاً، لكن لا يمكن التأكيد أيضاً على نتائج استمرار القتال لاختبار نظريات النصر الأوكرانيـة والغربية. يكمن الفرق بين الحالتَين في تراجع كلفة الجهود الدبلوماسية مقارنةً بالحــرب. بعيداً عن عامل الوقت وأجرة الطيران وكلفة القهوة، تبقى تكاليف الدبلوماسية سياسية بطبيعتها. قد يسرّب المشاركون مثلاً تفاصيل المفاوضات لإضعاف أحد المعسكرَين، وقد ينسفون اقتراحاً معيناً ويوجّهون انتقادات سياسية لاذعة، لكن تبقى هذه التكاليف السياسية ضئيلة مقارنةً بكلفة استمرار الحرب.

يسهل أن تتصاعد تلك التكاليف أيضاً. قد تتفاقم الحرب في أوكرانيا وتشمل اعتداءات أكثر تدميراً من الطرفَين. تنشط وحدات روسيا والناتو على مسافة قريبة من بعضها بحراً وجواً، وستكون الحوادث ممكنة. كذلك، قد تنجرّ دول أخرى مثل بيلاروسيا ومولدوفا إلى الحرب، فتتصاعد المخاطر المطروحة على دول الناتو المجاورة. أكثر ما يثير الرعب هو امتلاك روسيا أسلحة نووية قوية ومتنوعة، وقد يصبح بوتين أكثر ميلاً إلى استخدامها إذا بدا انهيار روسيا وشيكاً في أوكرانيا.

يصعب أن يتوقع أحد طبيعة الحلول المرتقبة للحرب، لكن أصبحت الخطوط العريضة للتسوية واضحة منذ الآن. يجب أن يقدّم كل طرف تنازلات مؤلمة، فتتخلى أوكرانيا مثلاً عن جزء كبير من أراضيها رسمياً، وتتخلى روسيا في المقابل عن جزء من مكاسبها في ساحة المعركة وتمتنع عن المطالبة بأي مساحات أخرى مستقبلاً. لمنع أي اعتداءات روسية مستقبلية، تحتاج أوكرانيا إلى ضمانات قوية لتلقي الدعم العسكري من الولايات المتحدة وأوروبا، فضلاً عن استمرار تدفق المساعدات العسكرية (شرط أن تتألف بشكلٍ أساسي من أسلحة دفاعية، لا هجومية).

كذلك، يجب أن تعترف موسكو بشرعية هذه الترتيبات ويوافق الغرب على رفع جزء كبير من العقوبات الاقتصادية التي فرضها على روسيا. في الوقت نفسه، يُفترض أن يطلق الناتو وروسيا جولة جديدة من المفاوضات للحد من خطورة الانتشار العسكري والتفاعلات الحاصلة على حدودهما. سيكون الدور الأميركي القيادي عاملاً أساسياً في أي حل دبلوماسي. وبما أن الولايات المتحدة تبقى أكبر داعمة لأوكرانيا وتتولى تنظيم حملة العقوبات الاقتصادية الغربية ضد روسيا، يمكنها أن تفرض أكبر الضغوط على الطرفَين.

يبقى اقتراح هذه المبادئ أسهل من تحويلها إلى بنود قابلة للتنفيذ في أي اتفاق رسمي. لكن يجب أن تبدأ المفاوضات عاجلاً وليس آجلاً لهذا السبب تحديداً. ترتكز نظريات النصر الأوكرانية والغربية على منطق هش. في أفضل الأحوال، يمكن اعتبارها أداة مكلفة قد تُمهّد لمأزق مؤلم وتبقي معظم الأراضي الأوكرانية بيد روسيا. إذا كانت هذه النتيجة أفضل ما يمكن تحقيقه بعد أشهر أو سنوات إضافية من القتال، تقضي المقاربة المسؤولة الوحيدة اليوم بإنهاء الحرب فوراً بالطرق الدبلوماسية.


MISS 3