مايكل برينز

المنافسة بين القوى العظمى تسيء إلى الديمقراطية

16 تموز 2022

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

يعتبر الديمقراطيون والجمهوريون في الولايات المتحدة احتمال خوض منافسة طويلة الأمد مع الصين تحدياً قادراً على إثبات أفضل الإمكانات الأميركية. طوال سنوات، اعتبرت واشنطن الصين الخصم القوي الوحيد للجيش الأميركي ومصدر التهديد القادر على تقوية الإرادة الوطنية ومعالجة شوائب الديمقراطية الأميركية.

أدى الغزو الروسي الكارثي لأوكرانيا إلى ترسيخ هذه الفكرة التقليدية. لقد ذكّرت أحداث أوكرانيا العالم بأهم فضائل الديمقراطية واحتمال التوافق بين الحزبَين الأميركيَين الرئيسيَين لإدارة الشؤون العالمية، كما حصل بعد الحرب الباردة. في هذا السياق، كتب المحلل فرانسيس فوكوياما في شهر آذار: "كانت روحية العام 1989 قد خمدت، لكن أُعيد إحياؤها اليوم".

لكنّ إعادة تشكيل السياسة الخارجية الغربية لخوض صراع بين القوى العظمى لن تُسهّل ترميم الديمقراطية في الولايات المتحدة أو أي مكان آخر. لا شيء يثبت أن هذه المنافسة بين القوى العظمى تستطيع تقوية الروابط المدنية أو الحقوق المتساوية أو الأمن الاقتصادي، بل إنها قد تقلب الديمقراطية على نفسها. إذا كانت الولايات المتحدة تبحث عن نظام حُكم مبني على مجتمع مدني سلمي، فيجب أن تتجنب أي منافسة بين القوى العظمى. لا يمكن معالجة معظم التهديدات المطروحة على الديمقراطية عبر إطار عمل تنافسي، وعلى رأسها التغير المناخي، والقومية البيضاء وكره الأجانب، والأوبئة، واللامساواة الاقتصادية. بدل الرهان على إعادة إحياء الغرب عبر التصادم مع الصين وروسيا، يجب أن يدعم الأميركيون وشركاؤهم مؤسسات الحوكمة الإقليمية والعالمية لتخفيف الأضرار التي تتكبدها الديمقراطية بسبب المنافسة بين القوى العظمى.

كان الرئيس الأميركي جو بايدن محقاً حين استنكر مظاهر العنصرية وكره الأجانب ضد المهاجرين الروس والصينيين. لكنّ السياسة المعادية للعنصرية وكره الأجانب لا تقتصر على إدانة الكلام العنصري أو التفكير المتعصب، بل يجب أن تزيد صعوبة تناقل المشاعر المتطرفة. لكن تفشل إدارة بايدن في تحقيق هذا الهدف حتى الآن. يبدو أن جميع المبادرات الرامية إلى التفوق على الصين تؤجج المشاعر العرقية القومية عن غير قصد، محلياً وخارجياً. لهذا السبب، يجب أن يفهم صانعو السياسة الأميركية أن الرئيس الصيني شي جين بينغ يستمد قوته من هذه المنافسة، وينطبق هذا الوضع أيضاً على المتطرفين الأميركيين من اليمين المتطرف، وداعمي نظريات المؤامرة، والسياسيين الديماغوجيـــــــين في واشنطن.

هذه المنافسة المتأجّجة سمحت للمحافظين أيضاً بتجنب المحاسبة السياسية، فأعطت "الشرور" الصينية طابعاً مسيّساً بدل تحسين أداء المسؤولين في المناصب الرسمية. بعد هجوم 6 كانون الثاني 2021 على مبنى الكابيتول الأميركي بفترة قصيرة، سألت قناة "بي بي سي" وزير الخارجية المنتهية ولايته، مايك بومبيو، عن تأثير ذلك الحدث على صورة الولايات المتحدة حول العالم، فأجاب قائلاً: "أظن أن هذا السؤال هو جزء من الحملة الدعائية الصينية". كذلك، طلبت اللجنة الوطنية الجمهورية في مجلس الشيوخ من المحافظين المرشّحين للمناصب العامة في العام 2020 أن يبلغوا الناخبين بأن "فيروس كورونا هو عبارة عن هجوم صيني حاولت بكين التستر عليه لاحقاً لكنه قضى على حياة آلاف الناس" وأن الديمقراطيين "متساهلون مع الصين"، ثم دعوا إلى "معاقبة الصين على دورها في نشر الجائحة". كان هذا المعسكر يهدف بكل وضوح إلى تجنب استفتاء حول السياسات المحافِظة في عهد دونالد ترامب وسوء تعامله مع أزمة كورونا في الولايات المتحدة.

لكن لا تقتصر حملات نشر الكراهية على معسكر اليمين السياسي وحده. بدل إدانة الانتقادات العنصرية وسياسات الإلهاء من جانب الجمهوريين، يلجأ عدد كبير من الديمقراطيين إلى المقاربة نفسها أحياناً. أوضح تيم راين، الديمقراطي المرشّح لعضوية مجلس الشيوخ عن ولاية أوهايو، أنه مستعد للوم "الفزاعة" الصينية على الأزمة الاقتصادية التي تعيشها الطبقة العاملة، فقال في أحد الإعلانات: "الصين تفوز والعمال يخسرون"، "أصبحت المواجهة اليوم بيننا وبين الصين". شارك الديمقراطيون إذاً في خلق الاقتصاد الذي أوصل ملايين الأميركيين إلى وضع مالي هش، ما يعني أن هذا الفريق أيضاً يفضّل لوم الصين على الوضع القائم بدل الاعتراف بأخطائه.

في غضون ذلك، ظن الديمقراطيون أنهم يستطيعون كسب الدعم الذي يحتاجون إليه في مجال الاستثمارات في البنية التحتية عبر وضع هذه المشاريع في خانة المبادرات التي تقوي الولايات المتحدة في منافستها المطولة مع الصين. لكن أثبت الجمهوريون والديمقراطيون المحافظون أن التنافس مع الصين قد يعني غياب الاستثمار في مستقبل الولايات المتحدة على المدى الطويل.

بغض النظر عن منافع الإنفاق العسكري إذاً، من الواضح أنه يأتي على حساب تمويل المشاريع التي تفيد الشعب الأميركي مباشرةً، كما حصل خلال الحرب الباردة. يعني ذلك أن المعسكر الديمقراطي الذي يستعمل المنافسة الخارجية كعامل أساسي لتجديد نفسه محلياً يقوم برهان سيئ لا يراعي وقائع السياسة الأميركية.

في الصين، بدأت العوامل الجيوسياسية المرافقة لهذه المنافسة تعطي عواقب مشابهة. يتوقف اقتصاد الصين السياسي، وبالتالي نظام شي جين بينغ، على الأوليغارشيين الذين يستغلون هشاشة حقوق العمال وعدم اسـتقرار ظروف العمل، ثم ينقلون أرباحهم إلى الخارج للقيـــام باستثمارات محفوفة بالمخاطــر تحت إشراف الدولة. تلجأ الصين إلى هذه المقاربة لتمويل "مبادرة الحزام والطريق" التي تعتبرها واشنطن مؤشراً الى طموحات بكين بفرض هيمنتها. بعبارة أخرى، يرتكز النفوذ الصيني الاقتصادي على اللامساواة والقمع محلياً.

لا مفر من أن تنتج المنافسة هذا النوع من الديناميات. لا يمكن أن يتابع النمو الاقتصادي، الذي يعطي أكبر شرعية للسياسة الاستبدادية، السير على خط تصاعدي مستقيم. حين تبدأ معدلات النمو بالتراجع، كما يحصل اليوم بدرجة معينة، يحتاج النظام الحاكم إلى مصدر بديل للشرعية. اعتبر الرئيس شي جين بينغ النزعة القومية العرقية الحل البديل في هذه الظروف، فهي تضمن تماسك النظام السياسي في إطار اقتصادي قابل للاستغلال.

على غرار ما يحصل في الولايات المتحدة، تطرح النزعة القومية العرقية في الصين مشكلة واضحة لأنها تولّد العدائية. لا تشير دبلوماسية "الذئب المحارب" التي يطبقها الحزب الشيوعي الصيني (إنه شكل عدائي من الدبلوماسية الشائعة في عهد شي جين بينغ) إلى انعدام الأمان بقدر ما تنذر بتأجيج المشاعر القومية لتحقيق غايات سياسية مقصودة. كذلك، تعطي هذه النزعة القومية طابعاً منطقياً لمشاريع تحديث جيش التحرير الشعبي وتوسيعه، مثلما استُعمِلت النزعة الوطنية المفرطة في الولايات المتحدة لتبرير ميزانيات البنتاغون الضخمة. من الواضح أن الرجعيين في واشنطن وبكين يحملون المواصفات نفسها، فهم يستفيدون سياسياً من التآزر السلبي لهذه المنافسة بين الطرفين.

على صعيد آخر، أثبتت مجريات التاريخ الحديث أن المنافسة بين القوى العظمى لا تُسهّل جهود إضعاف الحكام المستبدين، بل إنها قد تُحقق نتيجة معاكسة في نهاية المطاف. لم تنتج هذه المنافسة قادة من أمثال فلاديمير بوتين في روسيا، أو رودريغو دوتيرتي في الفيليبين، أو رجب طيب أردوغان في تركيا، أو فيكتور أوربان في المجر، لكنها تعجز أيضاً عن السيطرة على العوامل التي أوصلتهم إلى السلطة، أبرزها النزعة القومية العرقية، واللامساواة الاقتصادية، والتراجع الديمقراطي. لا يمكن اعتبار المنافسة بين الدول إطار عمل مستدام لتحسين الديمقراطية محلياً، بل إن المنافسة الجيوسياسية تدفع الولايات المتحدة إلى تقديم تنازلات أخلاقية غير ليبرالية باسم الديمقراطية. أرادت إدارة بايدن أن تقنع الجميع بأن "الولايات المتحدة عادت إلى الساحة" كزعيمة "للعالم الحرّ"، فأقامت مقارنات مشحونة بالنفاق بين الدكتاتورية والديمقراطية، واستعملتها كركيزة إيديولوجية للمنافسة بين القوى العظمى. لكنّ إشراك الحكومات الخارجية في سياسة خارجية معادية للصين وروسيا يبقى نهجاً انهزامياً ومتناقضاً من الناحية المنطقية إذا كانت العقلية نفسها تبرر دعم الولايات المتحدة للقادة الديماغوجيين والمستبدين، من تركيا والمملكة العربية السعودية إلى الفيليبين وبلدان أخرى. باختصار، يمكن تحسين طريقة استعمال النفوذ السياسي الأميركي المحدود.

إذا بقيت المنافسة بين القوى العظمى الركيزة الوحيدة للاستراتيجية الأميركية الكبرى، قد تطلق دوامة لامتناهية، وتؤكد على مسارات روسيا والصين العسكرية، وتبرر تقوية الإجراءات البيروقراطية في مجال الأمن القومي الأميركي استعداداً لخوض صراع دائم. لن تتمكن هذه المنافسة من تصحيح أسباب الضعف الديمقراطي التي تشتق في الأساس من هشاشة الاقتصاد، والفساد السياسي، والعنصرية، بل إنها ستُمهّد لانتخاب قادة مستبدين يهاجمون الإخفاقات الأميركية الداخلية ويربطونها بسياسة خارجية "ضعيفة".

نظراً إلى رغبة الرأي العام الدائمة في زيادة الاستثمارات الأميركية الداخلية، حان الوقت لتغيير المسار الراهن.

يطمح الأميركيون إلى سياسة خارجية تتماشى مع التوقعات الديمقراطية وتوجهات الرأي العام. يُفترض أن تبذل أي قوة عظمى حقيقية قصارى جهدها لمعالجة المسائل العالقة التي زادها وباء كورونا سوءاً، لا سيما اللامساواة العرقية والاقتصادية، وأزمة الصحة العامة، والتدهور البيئي الجامح. لن تُحقق المنافسة الجيوسياسية أياً من هذه الأهداف.


MISS 3