ناتاليا غومنيوك

الغزو الروسي يزيد الديمقراطية في أوكرانيا

21 تموز 2022

المصدر: The Atlantic

02 : 00

متطوعون أوكرانيون يحملون بنادق حربيّة ويحمون الطريق الرئيسية المؤدية إلى كييف
واجه الناس العاديون في أوكرانيا مظاهر الاستبداد لكنهم رفضوها. هم لم يكتفوا بحمل السلاح، بل أرسلوا طلباتهم إلى قادتهم. تعامل المسؤولون مع حاجات المواطنين ومطالبهم بأسلوب مبتكر وسريع الاستجابة. قد يشتكي الناشطون من ممثّليهم المُنتخَبين لكنهم يتعاونون معهم في مطلق الأحوال للتوصل إلى تسويات فاعلة وإيجاد الحلول. ونظراً إلى انشغال الحكومة المركزية في كييف وقلة مواردها، اضطر المسؤولون ورؤساء البلديات والحكام المحليون للتكاتف في ما بينهم لابتكار الحلول بأنفسهم.

مع مرور الوقت، لم تجبرنا الحرب على الدفاع عن أرضنا وحريتنا فحسب، بل إنها سرّعت تحوّلنا إلى ديمقراطية حقيقية. لم تكن أوكرانيا مثالية بأي شكل حين بدأت الحرب، فقد كانت تتعامل مع مشاكل الفساد وسوء الإدارة ومركزية السلطة. لكننا أصبحنا أكثر ديمقراطية وليبرالية وأقل مركزية رداً على غزو فلاديمير بوتين. لم تفشل جهود الرئيس الروسي ميدانياً فحسب، بل إنها أكدت على اختلاف أوكرانيا عن روسيا، وهي تعطي نتائج معاكسة لما أراده بوتين.

اليوم، ثمة تعاون صادق بين القادة المُنتَخبين والموظفين الحكوميين غير المُسيّسين والمجتمع المدني. إذا عجز المسؤولون عن تأمين السترات الواقية من الرصاص للقوات الدفاعية البرية مثلاً، تهبّ الشركات المحلية للمساعدة حين تُبلغهم السلطات بما تحتاج إليه. ولا تقتصر هذه العملية على معدات الحرب، بل تقدّم جهات أخرى مولّدات للمستشفيات أو دور الحضانة وتؤمّن سيارات الإسعاف والإطفاء، وتُسلَّم هذه المستلزمات كلها بدعمٍ من الجيش في معظم الأوقات. لا يتجادل أحد حول هوية الأطراف التي تقدم هذه الخدمات ولا يتبادل الناس اللوم عند ارتكاب الأخطاء، بل يتعاون الجميع في ما بينهم لإتمام المهمة الموكلة إليهم: تحقيق المستحيل!

على صعيد آخر، أصبحت الأحقاد جزءاً من الماضي. بعد فرض الحُكم العرفي، أصبح الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي مخوّلاً تعيين رؤساء البلديات وحكّام المناطق في أنحاء البلد، لكنه فضّل أن يعيد تعيين من فازوا في الانتخابات، بما في ذلك أشخاص من أحزاب سياسية معارِضة أو حتى شخصيات كان ولاؤها لأوكرانيا موضع شك. قد تكون "كريفي ريه"، مسقط رأس الرئيس، خير مثال على ذلك. انتخبت هذه المنطقة وبلدة "دنيبرو" المجاورة قادة معارضين لزيلينسكي، مع أنهم يحملون توجهات سياسية متناقضة: اعتُبِر حاكم "دنيبرو" أكثر ولاءً لأوكرانيا، بينما بدا حاكم "كريفي ريه" موالياً لروسيا. كان هذان الزعيمان يتشاجران طوال الوقت، وقد اشتبكا علناً مع الرئيس. لكنهما يتواصلان الآن بشكلٍ يومي، وهما يقسمان يمين الولاء لحكومة زيلينسكي، أو يقولان إنهما يؤيدان الحكومة حتى انتهاء الحرب على الأقل.

وصل الوضع إلى هذه المرحلة اليوم لأن الحرب وحّدت المجتمع الأوكراني ضد المعتدي الخارجي. لكن يتعلق سبب آخر بانشغال كييف بمسائل أخرى في معظم الأوقات، لذا يضطر القادة المُنتخَبون في مناصب أدنى مستوى لاتخاذ القرارات والتعاون مع الهيئات المحلية المجاورة أو فروع حكومية أخرى لأنهم لا يستطيعون الاتكال على توجيهات أصحاب أعلى المراتب. حتى أن الحرب جعلت الديمقراطية الأوكرانية لامركزية، فتقرّب القادة من الشعب الذي يحكمونه.

استدعى رؤساء البلديات وحكّام إقليم "دونباس" زملاءهم في غرب أوكرانيا لمناقشة عمليات نقل النازحين. تشكّل منطقة "دنيبرو" معقلاً للسلع والناس المتنقلين من وإلى "خاركيف". إنه الدور الذي تلعبه مدينة "زابوريزهزهيا" بالنسبة إلى "ماريوبول"، و"كريفي ريه" بالنسبة إلى "خيرسون"، و"أوديسا" بالنسبة إلى "ميكولايف"، وهكذا دواليك. يقول حاكم "خاركيف" إنه يتّصل دوماً برئيس بلدية عاصمته المستجدة، وهو عضو في حزب معارِض، لاتخاذ أهم القرارات بطريقة مشتركة، منها فرض حظر التجول أو إعادة فتح مترو الأنفاق في المدينة حين يصبح المكان آمناً.

يعتبر قادة روسيا، على غرار حكّام مستبدين آخرين، الديمقراطية "فوضوية"، لكن أدت لامركزية السلطة إلى تقوية أوكرانيا وتشجيع الشعب على التحرك وتبادل الأدوار في الحالات الطارئة. إذا غاب رئيس البلدية مثلاً، يبدي أي نائب محلي أو رئيس مجلس المدينة استعداده للتدخل فوراً.

لكن يترافق هذا الوضع مع بعض المخاطر. لا يدرك المحتلون الروس في أوكرانيا أن السلطات المحلية هناك لا تنفذ أوامر الرئيس أو الجهاز الأمني، بل إنها تمثّل مجتمعها أو تُعبّر عن رأيها الخاص. يعجز الروس عن فهم هذا الشكل من حرية التفكير، لذا يعذّبون المسؤولين والناشطين ويطالبون بمعرفة منظّمي الاحتجاجات في المناطق التي تسيطر عليها روسيا. تعرّض مئات السياسيين المحليين والموظفـــين الحكوميين للخطف أو التعذيب، أو حتى الإعدام، لأنهم رفضوا التعاون مع الروس. بالقرب من كييف، تعرّضت رئيسة بلدة، اسمها أولغا سوخينكو، للتعذيب والقتل مع زوجها وابنها. وفي منطقة "خيرسون" التي لا تزال محتلّة، في جنوب أوكرانيا، اعتُقِل 35 حاكماً محلياً من أصل 49 على الأقل في مرحلة معينة.

في العام 2015، فازت ليوبوف زلوبينا في الانتخابات وأصبحت واحدة من ثمانية ممثّلين يحكمون بلدتها "مالا روهان"، في منطقة "خاركيف"، في إطار اللجنة المحلية الحاكمة. هي تتذكر بكل فخر كيف نجحت، هي المزارِعة، في هزم "سيّدة البلدة الأولى"، أي زوجة حاكم سابق. بعد بدء الغزو الروسي، أخبر أحد سكان البلدة القوات الروسية بأن ليوبوف هي واحدة من القادة المحليين، ثم تعرّضت مزرعتها لضربة جوية بعد فترة قصيرة، ما أدى إلى نفوق 160 بقرة وخنزيراً وحَمَلاً. لكن لم تقف أعمال العنف التي واجهتها البلدة عند هذا الحد، فقد وَرَدَت "مالا روهان" في تقرير منظمة "هيومن رايتس ووتش" باعتبارها من أولى المواقع التي شهدت اغتصاب المحتلّين الروس للأوكرانيين. أخبر الجنود الروس الذين استولوا على البلدة ليوبوف بأنهم يريدون الاستحواذ على مزرعتها المدمّرة، لكنها رفضت حتى لو كلّفها الأمر حياتها. فوجّهوا أسلحتهم نحوها لكنهم امتنعوا عن إطلاق النار.

وجد الجنود الروس صعوبة في التعامل مع هذا النوع من قوة الإرادة: يُصِرّ الأوكرانيون على التصدي للهجوم والدفاع عن مناطقهم المحلية بأنفسهم. تقول ليوبوف: "نحن الأوكرانيين، لا يمكن إرضاؤنا بحياة متواضعة. نحن نطمح إلى الأفضل ونريد أن نعيش بكرامة. هذا ما نناضل في سبيله اليوم".

أنا أتردد في قول ما يكرره الكثيرون حول اعتبار الحرية "جزءاً من الحمض النووي الأوكراني". لا أظن أن التاريخ يؤثر على المجتمع بقدر ما يتأثر الناس بطريقة تعليم التاريخ في المدارس أو مناقشته على موائد العشاء وفي الحياة العامة. لطالما كانت أفكار الحرية والنزعة إلى التمرد قوية في أوكرانيا، لكن تبقى السنوات الثلاثون منذ اكتساب استقلالنا أكثر أهمية من تركيبتنا الراهنة. في تلك الفترة، بقيت أوكرانيا تعددية رغم محاولات تزوير الانتخابات، ولطالما اتخذت المنافسة السياسية منحىً قبيحاً وعنيفاً لكنها بقيت موجودة. في الوقت نفسه، أساء الشعبويون استعمال فكرة الحرية، ومع ذلك بقي هذا المفهوم جزءاً من ثقافتنا السياسية وتنشئتنا الاجتماعية على جميع المستويات، وقد دافع عنه الناس بقوة خلال الثورات الجماعية في العام 2004، ثم في العام 2014 مجدداً.

لا يعيش الأوكرانيون اليوم أحداثاً تاريخية فحسب، بل إنهم يختبرون أيضاً توسّع الحُكم الديمقراطي في بلدهم. يتم تطبيق مفاهيم نظرية، مثل حُكم القانون وحقوق الإنسان والمساءلة عن طريق الانتخابات، بطريقة عملية فيما أصبحت حياة الناس على المحك. لكنّ هذا الوضع يفسّر خيبة أمل الأوكرانيين بالأطراف الدولية والمؤسسات التي تسخر من قوة هذه القيم واقتناع الشعب بها.

نحن نثبت أيضاً أن الديمقراطية ليست مهمة بنظر أقلية نخبوية فحسب، بل إنها تهمّ شعوباً بأكملها. تكشف تجربتنا أن الدفاع عن الديمقراطية يستحق العناء لأنه ينعكس إيجاباً على الشعب، ولأن الديمقراطيات تبقى أكثر قوة على المدى الطويل وتزيد الآمال بمستقبل أفضل.

بعد مرور أكثر من أربعة أشهر على بدء هذه الحرب وعودة عدد كبير من السفارات الأجنبية إلى العاصمة كييف، أسمع دوماً إلى أي حد تفاجأ الغرب بحجم الوحدة بين الأوكرانيين، ويسألني الكثيرون عن احتمال تجدّد الصراعات السياسية التي كانت قائمة في السنوات الأخيرة. كانت الانقسامات السياسية تُعتبر في تلك الفترة سبباً محتملاً لانهيار أوكرانيا كدولة بحد ذاتها. لكنّ بلدنا أثبت أنه الأقوى حين واجه أخطر أنواع التهديدات. لقد تحوّلت المسائل التي كنا نعتبرها نقاط ضعفنا (أي الخلافات السياسية، والتعددية الثقافية، وغياب التسلسل الهرمي) إلى عوامل تصبّ في مصلحتنا.

قد يكون بوتين محقاً في مسألة واحدة رغم كل شيء: الانتماء إلى أوكرانيا خيار سياسي. لقد تبيّن أن هذا الانتماء هو قرار واعٍ حول القيم المكتسبة والقناعة القائلة إن الشعب الذي يتمتع بإرادة حرّة قادر على تحسين وضع بلده. يشعر بوتين بالقلق من تشجيع شعوب أخرى على القيام بالمثل. لقد قام أربعون مليون أوكراني بهذا الخيار، ولا يمكن تدمير قرارنا إلا عبر إبادتنا كأمة سياسية كاملة.


MISS 3