ليانا فيكس

ماذا لو خرجت الحرب في أوكرانيا عن السيطرة؟

22 تموز 2022

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

جندي أوكراني في دورية بالقرب من زابوروجي | أوكرانيا ، تموز 2022

لكن يبقى احتمال اندلاع هذا النوع من الحروب ممكناً، إذ لا تسيطر أي آلية دولية على مسار الصراع المستمر. بقي دور الأمم المتحدة هامشياً، وينحاز الاتحاد الأوروبي إلى طرف واحد. أما الولايات المتحدة، فلا يسمح لها موقعها بإنهاء الحرب بشروطها، وتعجز روسيا أو أوكرانيا عن تحقيق هذا الهدف أيضاً. لقد انهارت المحادثات بين كييف وموسكو، ولم تنطلق أي جهود دبلوماسية لتجديد التواصل بين الولايات المتحدة وروسيا منذ بدء الحرب في 24 شباط الماضي. ولا ننسى تأثير حجم الصراع وتعقيداته، وعدد البلدان المتورطة فيه، وطبيعة التقنيات الجديدة المستعملة: يسهل أن يصبح هذا الخليط ساماً بامتياز.

لهذا السبب، لا تضمن رغبة بوتين وبايدن المشتركة في تجنب حرب متوسّعة احتواء المعركة من تلقاء نفسها. يسهل أن يخرج أي صراع عن السيطرة حتى لو لم يتخذ أي طرف قراراً مقصوداً بتصعيد الوضع أو استخدام أسلحة نووية. قد يبدو الهجوم النووي مستبعداً، لكنه يبقى خياراً ممكناً نظراً إلى حجم القدرات الروسية وغموض عقيدة موسكو النووية. حتى أن التصعيد العرضي قد يكون مرعباً أكثر من التصعيد المتعمد لأن الخيار الثاني ينذر باحتمال إخماد الوضع في أي لحظة. بعبارة أخرى، يسهل أن يُكبَح أي مسار مقصود مقارنةً بالتصعيد العشوائي.

قد تكون الحرب الباردة دليلاً مفيداً على الأحداث التي باتت تلوح في الأفق. نظراً إلى طول الصراع في تلك الحقبة وتخبّط القادة السياسيين والعسكريين من الطرفَين، كان لافتاً أن تنتهي المواجهة الأميركية السوفياتية بطريقة سلمية. لكن وراء معجزة صمود البشرية في العصر النووي، تكمن أحداث قاتمة كادت تطلق مواجهة شبه حتمية وتتعدد فصول التصعيد المتقطع خلال النصف الثاني من القرن العشرين. من المتوقع أن تتبع الحرب في أوكرانيا هذا النمط نفسه، ما يعني أن تشمل مراحل تبقى فيها المواجهة العامة تحت السيطرة ثم تليها مراحل أخرى حيث يحتدم الصراع فجأةً ويتّخذ منحىً فوضوياً. يجب أن يستعد صانعو السياسة والدبلوماسيون على طرفَي الأطلسي للتعامل مع هذا السيناريو بحذرٍ يفوق استعدادهم لأي تصعيد متعمّد. لقد أصبح "ضباب الحرب" احتمالاً واقعياً ويسهل أن يحجب حتى أفضل الاستراتيجيات.

أوضح بايدن منذ البداية الخطوط التي يرفض تجاوزها في أوكرانيا. هو لن يتدخل في الصراع مباشرةً، ولن يسمح بتورط الناتو، ولن يفرض على أوكرانيا أهدافاً حربية أكثر تطرفاً من تلك التي حدّدتها كييف. تقدم الولايات المتحدة كميات هائلة من المعدات إلى أوكرانيا، لكن شدّد بايدن على ضرورة التمييز بين دفاع أوكرانيا عن نفسها، وهو بند تلتزم به واشنطن بشكلٍ لا لبس فيه، والضربات الأوكرانية التي تستهدف روسيا. يبقى الدعم العسكري لأوكرانيا محصوراً ضمن هذه الخطوط. يريد بايدن أن تنتصر أوكرانيا بشروطها وعلى أرضها، لكنه لا يرغب في تحويل الصراع إلى حرب إقليمية، حتى أنه استعمل افتتاحية في صحيفة "نيويورك تايمز" لنقل هذه الأهداف إلى موسكو.

في المقابل، بقيت مواقف بوتين أكثر غموضاً، فتعهد أن يواجه الحلفاء "عواقب" وخيمة لأنهم يقدمون مساعدات عسكرية إلى كييف. في شهر حزيران مثلاً، كان الجدل محتدماً حول تسليم السلع إلى "كالينينغراد" (إقليم روسي منفصل عن البر الروسي الرئيسي)، فهدد بوتين ليتوانيا بمواجهة عقوبات غير محددة. ليتوانيا منتسبة إلى حلف الناتو، وسيؤدي أي هجوم روسي ضدها إلى اندلاع صراع عسكري مباشر. في أماكن أخرى، قد يهندس بوتين الأزمة أو يستغلها في البلقان مثلاً لتحسين موقع روسيا، فينظّم الانقلابات، أو يشارك في نشاطات شبه عسكرية، أو يطلق غزواً مباشراً. تحمل الاعتداءات السيبرانية الكبرى ضد البنية التحتية الأساسية في أوروبا والولايات المتحدة مخاطر إضافية، وقد تردّ الولايات المتحدة ودول أخرى عليها في حال وقوعها، ما يعني بدء فصل جديد من الحرب.

لكن يبقى جزء من مواقف بوتين الغامضة مجرّد كلام صاخب. هو لا يستطيع تحمّل كلفة توسيع نطاق الحرب. تملك روسيا على الأرجح الأموال اللازمة لمتابعة تطبيق سياستها الرامية إلى تغيير النظام في أوكرانيا، لكن ثمة نقص كبير في عناصر الجيش الروسي نتيجة خطة الحرب الأولية المدمّرة التي وضعها بوتين. سيؤدي أي صراع إضافي إذاً إلى تفاقم هذه المشاكل، لا سيما إذا حصلت المواجهة مع قوات الناتو المجهّزة بأفضل المعدّات. نظرياً، يمكن إيجاد حل وسطي بين بوتين وبايدن، فهما لا يريدان إشعال الوضع ويفضلان الالتزام بقواعد الحرب الخفية.

يبدو أن أكثر ما يهمّ الدول الغربية اليوم هو إبقاء جنودها خارج الحرب. ابتعدت الولايات المتحدة عن قواعد الحرب الباردة وتخلّت عن خيار إنكار تورّطها في الصراعات حين دعمت المجاهدين في أفغانستان خلال معركتهم ضد القوات السوفياتية في فترة الثمانينات. في أوكرانيا، قدّم الأميركيون وحلفاؤهم أسلحة ثقيلة إلى الجيش الأوكراني علناً، ونظّموا تدريبات عسكرية للعناصر خارج أوكرانيا، وتقاسموا المعلومات الاستخبارية مع الأوكرانيين لتحديد المواقع المستهدفة. أما روسيا، فهي لم تستهدف مواكب الأسلحة المتوجهة إلى أوكرانيا أثناء وجودها على أراضي دول الناتو، ولم تمنع تدفق القادة السياسيين الأميركيين والحلفاء إلى كييف في مناسبات متكررة، إذ يضطر جميعهم للتنقل في بلد غارق في الحرب. كان هذا النوع من ضبط النفس مستبعداً بالكامل خلال الحرب العالمية الثانية، لكنه نموذجي في الحرب الباردة.

رغم جميع المخاطر المطروحة، يمكن منع الصراع في أوكرانيا من الخروج عن السيطرة عبر التحلي بالصبر والحفاظ على الهدوء بطريقة مدروسة. يبرر النجاح في الحرب اتخاذ قرارات حاسمة وسريعة، لكنّ تعقيدات الصراع تبرر إبطاء المسار أيضاً. عند وقوع أي حادث (مثل عمل حربي روسي ضد بلد خارج أوكرانيا، لكن من دون أن يحصل بأمرٍ من بوتين)، من الضروري أن يقيّم الأميركيون وحلفاؤهم الوضع بدقة. قد يصعب جمع الأدلة في هذه الظروف، لكن يُفترض أن يبقى الرد الأميركي مدروساً ومنطقياً وألا يرتكز بالضرورة على منطق العين بالعين، وإلا يستحيل على أي طرف أن يكبح دوامة التصعيد غير المبررة.

ستدخل الحرب في أوكرانيا شهرها السادس قريباً. ورغم وفرة الكلام عن تجاوز روسيا الخطوط الحمراء الغربية عبر تحركاتها خلال الحرب وتجاوز الغرب الخطوط الحمراء الروسية عبر تقديم المساعدات العسكرية إلى أوكرانيا، لم ينتهك أحد بعد الخطوط الحمراء الحقيقية. في بداية الحرب، أعلن الطرفان مجموعة من القواعد الخفية، منها تقبّل روسيا تقديم أسلحة ثقيلة ودعم استخباري من الحلفاء إلى أوكرانيا، لكن من دون نشر أي قوات غربية ميدانياً. كذلك، كان يُفترض أن تتقبّل الدول الغربية، ولو على مضض، الحرب التقليدية الروسية داخل الحدود الأوكرانية طالما لا يؤدي الصراع إلى استخدام أسلحة الدمار الشامل. حتى الآن، لا تزال هذه القواعد الخفية قائمة، وهي تثبت أن الرئيس الأميركي جو بايدن ونظيره الروسي فلاديمير بوتين لا يريدان خوض الحرب على نطاق أوسع.




صاروخ نووي من نوع RS-24 Yars خلال استعراض عسكري في موسكو | روسيا، 24 حزيران 2020



لا تستطيع الدول الغربية أن تكبح نزعة بوتين إلى توسيع نطاق الصراع. هو وحده يستطيع فعل ذلك، وتتصرف الولايات المتحدة حتى الآن بتحفظ واضح. ابتكرت واشنطن قنوات لإخماد التصعيد العسكري بما يخدم مصالح الطرفَين في سوريا، ويُفترض أن تتابع القيام بالمثل في أوكرانيا. يجب أن تتذكّر الولايات المتحدة وتُذكّر حلفاءها مراراً بمخاطر التصعيد غير المرغوب فيه وضرورة التعامل مع المواقف الروسية الاستفزازية بالشكل المناسب. يبقى التجاهل أفضل رد على أسلوب الاستفزاز الذي يحبّذه بوتين. ينطبق المبدأ نفسه على تهديدات بوتين النووية. يجب ألا تُقابَل المواقف الشفهية العدائية بالردّ في جميع الحالات، بل يمكن تجاهلها استراتيجياً.

ما من حل سحري لتجنب توسّع نطاق الحرب. لن تكون المحادثات والمفاوضات والجهود الدبلوماسية كافية لتحقيق هذا الهدف. لا يمكن السيطرة على بوتين إلا من خلال استعمال القوة، لكنّ هذه المقاربة لا تخلو من المخاطر في جميع الظروف. لتطبيق سياسة فاعلة على المدى الطويل، تقضي الخطوة الأولى بالاعتراف بالواقع المستجد: نحن أمام حرب واسعة قد تدوم لسنوات، وهي تدور في قلب النظام الدولي وتقترب من حدود الفوضى. اعتاد صانعو السياسة والدبلوماسيون في الدول الحليفة تطبيق قواعد نظام دولي ليبرالي، لكن يجب أن يتعلموا الآن كيفية التعامل مع غياب هذا النظام.

لا توشك الولايات المتحدة وروسيا على خوض حرب عالمية ثالثة، ولا تُعتبر كل خطوة في هذه المرحلة وجودية. يواجه الجيش الروسي عدداً هائلاً ومتزايداً من القيود، ولا مفرّ من أن تطلق الحرب في أوكرانيا حالات طارئة جديدة، وشائكة، ومزعجة ومرعبة. يجب أن يتعلّم العالم التعايش مع هذا الوضع. دامت أزمة الصواريخ الكوبية في الماضي 13 يوماً، لكن من المتوقع أن تدوم الأزمة الناجمة عن الحرب في أوكرانيا لفترة طويلة.