جاك سنايدر

حركة حقوق الإنسان... لماذا تخسر؟

23 تموز 2022

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

محتجون إيغوريون في لندن يحثون الحكومة على اتهام الصين بارتكاب "الإبادة الجماعية" | كانون الأول 2021
لطالما طرحت حركة حقوق الإنسان المعاصرة نفسها كحملة مثالية. في عالمٍ تحتدم فيه سياسة القوة ويصبح الضعفاء فريسة للأقوياء، تميل هذه الحركة إلى تصوير نفسها كمنارة أخلاقية مبنية على مبادئ عالمية. يعتبر الناشطون في مجال حقوق الإنسان إنجازات حركتهم الأسطورية انتصاراً لاستقامتهم الدائمة التي تُمهّد لدعم قضايا تقدمية أخرى مستقبلاً. في العام 2012، كتب أرييه نير، أحد مؤسسي منظمة "هيومن رايتس ووتش"، أن حركة مكافحة العبودية كانت أول حملة حقيقية في مجال حقوق الإنسان لأن مناصريها تحركوا دعماً لحقوق الآخرين. زَعَم أوائل الناشطين من دعاة إلغاء عصر العبودية أن سعيهم المتواصل إلى تطبيق المبادئ التي تخدم مصالح الآخرين يطغى على تصرفاتهم لأن الحقيقة الأخلاقية الكامنة وراء قضيتهم كانت بديهية. سرعان ما تحوّل المهاتما غاندي ومارتن لوثر كينغ جونيور إلى قدوة يُحتذى بها من حيث القوة والتصميم في التاريخ الحديث.

أصبحت هذه الحركة متخبّطة اليوم لدرجة أن يطلق أسلوبها في الحوارات الأحادية وعمليات التشهير العدائية ردة فعل قوية من زعماء غير ليبراليين، وشعبويين يمينيين، ومختلف الناخبين من مناصري هؤلاء الزعماء حول العالم. اكتسب عدد كبير من القادة، على رأسهم الرئيس البرازيلي جايير بولسونارو، والرئيس الصيني شي جين بينغ، ورئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، شعبية واسعة حين اعتبروا الحملة الداعمة لحقوق الإنسان الليبرالية مشروعاً خاصاً بالمتنمرين الفاسدين والمعزولين الذين يريدون فرض أجندات غريبة بدل مبدأ تقرير المصير الشعبوي عبر أساليب عالمية نخبوية إمبريالية.

رفض الرئيس الصيني مثلاً تهمة ارتكاب إبادة جماعية بحق الأقلية الإيغورية في الصين، فأعلن انتصاره في إقليم "شينجيانغ" (حيث يقيم معظم الإيغوريين)، في تموز 2022، وتفاخر "بتوحيد" شعوب الصين. كذلك، لم تكن التُهَم التي وجّهها الرئيس الأميركي جو بايدن حول ارتكاب روسيا جرائم حرب كافية لمنع بوتين من تصعيد اعتداءاته ضد المدنيين الأوكرانيين. على صعيد آخر، اعتبر بايدن المملكة العربية السعودية "دولة منبوذة"، لكنه عاد وزار ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، في الرياض حديثاً. يعترف نير إذاً بأن مقاربة التشهير وتوجيه التُهَم بدأت تخسر فاعليتها مع مرور الوقت.

لكن كانت هذه الردود كلها ذاتية الصنع. تكمن المشكلة في نزعة المدافعين عن حقوق الإنسان إلى إساءة فهم أسباب نجاحهم التاريخي. لم تصبح الديمقراطية المبنية على الحقوق الفردية أنجح شكلٍ من التنظيم الاجتماعي المعاصر بسبب مبادئها الأخلاقية المتفانية، بل إنها حققت نتائج أفضل من الخيارات البديلة على مستوى خدمة مصالح الناس. يقدّم الناشطون في مجال حقوق الإنسان أفضل أداء لهم حين يسعون إلى زيادة قدرة الناس على النضال في سبيل حقوقهم، بدل إخضاع القادة القمعيين بطرقٍ تساعدهم على إطلاق أقوى ردود الأفعال القومية.

في ظل الظروف السياسية المشحونة اليوم، يصعب أن يجمع أي فريق بين المبادئ والبراغماتية. لكن يستطيع السياسيون والناشطون الداعمون للديمقراطية وحقوق الإنسان أن يبدؤوا بالتأكد من فاعلية أنظمة التشغيل المركزية للنظام الديمقراطي الليبرالي لتقديم منافع جماعية عن طريق الاقتصاد العالمي المفتوح، وأنظمة التحالفات العسكرية التي تحمي الشركاء الليبراليين من عدوان الأطراف الاستبدادية، وعبر حرية التعبير وتداول المعلومات.

لن تكون هذه المهمة سهلة بأي شكل. أدى توسّع اللامساواة الاقتصادية وتكثيف حملات التضليل إلى تشويه سمعة النظام المبني على الحقوق. يتعلق سبب أساسي برواج النزعة التحررية التي حجبت الفكرة القائلة إن الدولة الليبرالية مُلزَمة بتنظيم الأسواق الاقتصادية ويُفترض أن يوجّه الصحافيون المسؤولون سوق الأفكار. للبدء بإعادة إحياء النظام المبني على الحقوق، تستطيع الدول الديمقراطية وجماعات الدفاع عن الحقوق أن تسعى إلى تشديد القوانين ضد عمليات تبييض الأموال الدولية، والتهرب الضريبي، وإخفاء الأصول المسروقة، ونشر خطابات الكراهية حول العالم، وحملات التشهير والمعلومات الكاذبة.

في غضون ذلك، يجب أن تُحسّن الدول الليبرالية طريقة توسيع نفوذها عبر فتح المجال أمام بلدان جديدة للانضمام إليها بشروط معينة، بدل المطالبة بإصلاحات ليبرالية سريعة. نجح الاتحاد الأوروبي مثلاً في إرساء نظام حُكم مستقر وديمقراطي في معظم أوروبا بعد حقبة الحرب الباردة، عبر انتظار مطالبة الدول بالانضمام إليه ثم فرض تدريب مكثّف لبلوغ معايير الحُكم والقانون والحقوق السائدة في الاتحاد. (كانت شروط الاتحاد الأوروبي متساهلة أكثر من اللزوم أحياناً، ويتّضح ذلك في التراجع الديمقراطي الحاصل في المجر وبولندا مثلاً). لكن في أماكن أخرى، فُرِض انتقال مفاجئ إلى الأنظمة الغربية ظاهرياً على دول أفريقيا والشرق الأوسط، مع أنها تفتقر إلى الظروف المؤسسية والديمغرافية والاقتصادية التي تسمح لها بالنجاح. كانت النتائج المُحققة في أماكن مثل بوروندي والعراق ورواندا قصيرة الأمد في معظم الأوقات، وقد أدت إلى سفك الدماء في نهاية المطاف.

لتجنب الحملات المكثفة والقسرية، يجب أن تُخفف الدول الليبرالية والناشطون عموماً الشعارات القانونية والأخلاقية والعالمية، مقابل التركيز على مصالح الأقليات الوطنية المؤثرة عبر التشديد على المسائل التي تحظى بشعبية واسعة، مثل مكافحة الفساد والازدهار الاقتصادي. تحمل مكافحة الفساد أهمية خاصة في هذا المجال. نظّمت جماعات محلية ثلث الاحتجاجات الحاشدة حول العالم في الفترة الأخيرة للتنديد بالفساد. لكن لم تنضم منظمات بارزة في مجال الحقوق العابرة للأوطان إلى هذه الجهود إلا بعد قمع الدولة للاحتجاجات، وقد أقدمت على هذه الخطوة لمجرّد أن تعارض القمع، لا الفساد. من خلال التحرك ضد الفساد مباشرةً، ستحصل حركة حقوق الإنسان على قضية محورية لتقوية حُكم القانون.أقنعت جماعات حقوق الإنسان الدول أيضاً بوضع احتجاز أقلية الإيغور في معسكرات اعتقال صينية في خانة "الإبادة الجماعية". لكن يُمهّد هذا النوع من التُهَم لسوء فهم كبير على مستوى تفسير المصطلحات. في المقابل، يمكن تسليط الضوء على مسائل يتخذ منها الشركاء التجاريون الأجانب مواقف واضحة على مستوى القانون والمصالح الخاصة من خلال فرض حدود صارمة على الصادرات التي تتكل على أعمال السخرة، كتلك التي يتعرض لها الإيغوريون المحتجزون. كذلك، تستطيع جماعات المجتمع المدني أن تنظّم حملات مقاطعة مستمرة لإثبات جدّية المدافعين عن الحقوق. يعكس هذا التحرك موقفاً داعماً للتعامل المنصف مع جميع العمال الصينيين، وقد يُشجّع الصين على تحسين أنظمة المساءلة ومعايير العمل فيها.

قد يرغب داعمو حقوق الإنسان أحياناً في تجنب أسلوب التشهير بالكامل، فيفضلون العمل على طريقة الاستشارات الإدارية بدل انتقاد العيوب الثقافية في مجتمع معيّن، ما يعني التشديد على توصيات متطورة، وترسيخ عقلية الاستثمار، وتقديم حوافز إيجابية. تكشف الأبحاث مثلاً أن الانتهاكات الراسخة ضد حقوق المرأة، مثل زواج الأطفال أو بتر الأعضاء التناسلية الأنثوية، تراجعت عندما زادت سهولة اطلاع السكان على وسائل الإعلام الدولية، وتحسّنت فرص العمل المتاحة أمام النساء خارج المنزل، وأصبحت المجتمعات معاصرة ولو جزئياً: إنها الإصلاحات الإيجابية التي تستطيع تقوية الاقتصاد. في المقابل، قد يعطي التشهير بالدول واعتبارها "رجعية" أثراً معاكساً لأن هذا الأسلوب يُسيّس الممارسات التي تحمل معنىً رمزياً بالنسبة إلى هوية البلد الثقافية، ما يؤدي إلى إطلاق ردة فعل قوية ضد حقوق المرأة.

لا يعني ذلك ألا توضح الدول الليبرالية أو الناشطون في مجال حقوق الإنسان المبادئ المعمول بها. بل يجب أن تتخذ هذه الأطراف مقاربة حذرة واستراتيجية في طريقة نشر هذه القيم، تزامناً مع تجنب المطالب العقيمة. اعتبر بايدن نظيره بوتين "مجرم حرب يستحيل بقاؤه في السلطة"، لكنه لا يملك أي أدوات عملية لتحويل هذا الموقف الاستفزازي إلى واقع ملموس. قد يعطي هذا النوع من الإدانات الفارغة آثاراً مُرضِية على المدى القصير، لكنه يبدو أقرب إلى النفاق في نهاية المطاف، حتى لو كان صادقاً. في هذا السياق، تذكر الناشطة في مجال حقوق الإنسان، بريسيلا هاينر، في كتابها الجديد أن المقايضات ممكنة بين السلام والعدالة. على سبيل المثال، قد يكون تهديد النُخَب العسكرية ومجموعة أخرى من صانعي السياسة بالسجن كفيلاً بمنع عروض العفو أو اللجوء السياسي إذا شاركوا في إنهاء الحرب (في النهاية، تبقى الحرب أخطر شكل من انتهاك حقوق الإنسان). يعني التعقّل خدمةً للعدالة، كما يذكر نظام المحكمة الجنائية الدولية، التحكم بهذه المقايضات عبر إطلاق تحقيقات ذكية من الناحية التكتيكية، تزامناً مع تأجيل لوائح الاتهام الشائكة.

رغم جميع الانتكاسات الأخيرة، لا تزال حقوق الإنسان أقوى سلاح في ترسانة الديمقراطية. لكن للاستفادة من هذه الأسلحة، يجب أن يفهم المعنيون أن قوة تلك الحقوق تكمن في ارتباطها بالمصالح الذاتية، ما يعني ضرورة دعمها بتحالف سياسي صلب وقادر على تحقيق نتائج موثوق بها. القوة أولاً ثم الحقوق!