"مايكروسوفت"... تعود إلى الساحة

02 : 00

لم تقف الأنباء السارة عند هذا الحد، بل كانت النتائج الفصلية في "مايكروسوفت" ممتازة، حتى أنها فاقت توقعات "وول ستريت" وبلغت عائداتها حتى نصف السنة 33.1 مليار دولار، ما يعكس زيادة بنسبة 14% خلال سنة، وأرباحاً بقيمة 10.7 مليارات دولار (+21%). سجلت خدمة "أزور" تحديداً معدل نمو قياسياً وصل إلى 59%. ومع حصد عائدات بقيمة 10.8 مليارات دولار، بات هذا القسم يشكّل ثلث النشاط الإجمالي في "مايكروسوفت".

إنها نهضة حقيقية في شركة التكنولوجيا العملاقة التي كانت تتجه إلى الانهيار منذ سنوات قليلة. عملياً، فوّتت "مايكروسوفت" جميع المنعطفات الاستراتيجية خلال العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، بدءاً من قطاع الهواتف الذكية وصولاً إلى مواقع التواصل الاجتماعي، مروراً بإعلانات الإنترنت. ولم تكن آفاق النمو في مصدر دخلها الأساسي، أي النظام البيئي "ويندوز"، مُشجّعة بأي شكل. في خضم المنافسة مع "غوغل" و"آبل" و"فيسبوك" و"أمازون"، بدت الشركة محكومة بالانهيار. حين اضطر المدير العام ستيف بالمر، خلف بيل غيتس، للرحيل في صيف العام 2013، بقرارٍ من مجلس الإدارة، لم يتهافت الكثيرون على تولي منصبه. عَنْوَنت مقالة في وكالة "بلومبيرغ نيوز" حينها: "لماذا ترفضون إدارة مايكروسوفت"؟

كان ساتيا ناديلا يترأس قسم "كلاود" في الشركة. غادر هذا الرجل جنوب الهند في عمر الواحد والعشرين لدراسة تكنولوجيا المعلومات في جامعة "ويسكونسن ميلووكي"، ثم صعد السلم تدريجاً في "مايكروسوفت". إنه شخص هادئ وكتوم وبعيد كل البعد عن شخصية سلفه الصاخب والحيوي. لكن لم يتأخر الرئيس الجديد، صاحب الابتسامة المهذبة الدائمة، في إحداث تغيرات جذرية. منذ توليه هذا المنصب، نفّذ أكبر خطة لتسريح العمال في تاريخ "مايكروسوفت"، فألغى 18 ألف وظيفة (14% من القوى العاملة)، منها 12500 في "نوكيا". كان ستيف بالمر قد اشترى في السنة السابقة القسم الخلوي في المجموعة الفنلندية مقابل أكثر من 7 مليـارات دولار، علـى أمل أن تكتسب "مايكروسوفت" الخبرة في مجال تصنيع الهواتف الذكية. لكن كان ناديلا مقتنعاً بأن شركته سبق وخسرت السباق في القطاع الخلوي، لذا فضّل التركيز على موارد "مايكروسوفت" في قطاعات ذات طابع استراتيجي. كانت فكرته الأساسية تقضي بتطوير قسم الحوسبة السحابية "كلاود" في أسرع وقت. نتيجةً لذلك، ارتفعت أرباح نصف السنة إلى 10.7 مليارات دولار، في زيادة نسبتها 21% خلال سنة، وعمدت "مايكروسوفت" في هذه الفترة إلى تأجير قوتها المحوسبة وقدراتها على التخزين للشركات التي تتعامل معها. يثق ناديلا بأن مستقبل القطاع يكمن في هذه التكنولوجيا، ولطالما أبدى قلقه من تأخّر شركته أمام توسّع "أمازون" و"غوغــل" في السوق.

مقاربة مختلفة

انطلاقاً من هذه القناعة، أحدث ناديلا تغيرات تنظيمية كبرى للانتقال من منطق السلع إلى منطق الخدمات. لم يعد الهدف الأساسي يتعلق ببيع أكبر عدد ممكن من رخص "ويندوز"، بل بتقديم حل لوجستي يرضي العملاء. نتيجة هذه الاستراتيجية، بدأ ناديلا تعزيز منتجاته الرائدة. منذ وصوله، طرح نسخة من "ويندوز أوفيس" لنظام التشغيل "آي أو إس" في "آبل". أحدثت هذه الخطوة صدىً مدوياً في عالم المعلوماتية: حتى تلك الفترة، كانت "مايكروسوفت" ترفض دوماً نقل "ويندوز" إلى بيئة غير مرتبطة بها. تتماشى تلك النسخة مع نظام التشغيل "أندرويد" المستعمل في 80% من الهواتف الخلوية حول العالم. وصل التغيير أيضاً إلى طريقة تسويق منتجات "مايكروسوفت". في العام 2015، أصبحت وظائف برنامج "أوفيس" الأساسية مجانية لتسويقها على نطاق أوسع. كان هذا التغيير بالغ الأهمية في "مايكروسوفت" التي حاولت حتى تلك الفترة تحقيق أكبر قدر من الأرباح استناداً إلى منجم الذهب الذي تملكه.

تقول هيرمينيا إيبارا، أستاذة وباحثة في مجال السلوك التنظيمي في كلية لندن لإدارة الأعمال، نشرت للتو دراسة عن المقاربات الإدارية لرئيس "مايكروسوفت": "لتحقيق النجــــاح، أدرك ساتيا ناديلا سريعاً أنه مضطر لتطبيق تقنيات تختلف بالكامل عن تلك التي سمحت للشركة بنشر "ويندوز" على نطاق واسع".التعاطف والشراكة قبل المنافسةدعماً لمنطق الانفتاح، قرر المدير العام الجديد تعيين بيغي جونسون، الرئيسة السابقة لشركة تصنيع وحدات المعالجة الأميركية "كوالكوم"، كنائبة رئيس مسؤولة عن تطوير الأعمال. تعقد جونسون الاتفاقيات مع الشركات التي كانت تُعتبر حتى الآن منافِسة، على غرار خدمتَي تخزين الملفات "بوكس" و"دروبوكس"، فأصبحتا جزءاً من "أوفيس". استمرت حملة التغيير في العام 2016 مع انضمام الشركة إلى مؤسسة "لينكس"، وفي العام 2018 مع إعادة شراء منصة "غيت هاب" التي تجمع مصمّمين يستعملون هذا النظام التشغيلي الحر والمجاني. يقول كريس سكينر في مدونته الخاصة بالتحليل المالي: "في السابق، كانت "مايكروسوفت" تخاف من جميع منافسيها وتسعى إلى سحقهم. لكنّ ناديلا قَلَب المعايير رأساً على عقب معتبراً جميع المؤسسات شركاء محتملين لمساعدة "مايكروسوفت" على النمو. فساهم في إنشاء ثقافة الانفتاح بناءً على مبدأ التعاون". لترسيخ هذه التوجهات الاستراتيجية الجديدة، اضطر ناديلا لإعادة النظر بثقافة الشركة بالكامل. في عهد بيل غيتس ثم ستيف بالمر، كانت المقاربة الإدارية عمودية وقسرية، ما يعني أن التسلسل الهرمي كان واضحاً، وشكّلت السيطرة التامة والمنافسة بين الموظفين جزءاً من جوهر العمل في الشركة. لكن ترافقت الأخطاء المرتكبة دوماً مع تداعيات كبرى وأدى هذا النهج في نهاية المطاف إلى الحد من أخذ المجازفات. أدرك ناديلا حقيقة المشكلة القائمة، فطلب من كبار المدراء قراءة كتاب Nonviolent Communication (تواصل غير عنيف) لمارشال روزنبيرغ.

يثبت هذا الكتاب منافع التعاطف والتعاون ويعكس روحية جديدة سعى المدير الخمسيني الشاب إلى نشرها. استوحى ناديلا مقاربته أيضاً من أعمال كارول دويك، باحثة في جامعة "ستانفورد"، فهي ابتكرت مفهوم "عقلية النمو" الذي يعتبر أن الإبداع الفردي يتطور في بيئة إيجابية. توضح إيبارا: "كانت الثقافة الإدارية القديمة تطلق مجموعة كاملة من العمليات لمتابعة فرض السيطرة على الموظفين. لكن جاء ناديلا ليُغيّر طرق توزيع المكافآت وتحريك عجلة البيع عبر تمضية وقت إضافي مع العملاء وفهم حاجاتهم وابتكار المنتجات بناءً عليها".

اليوم، يتشجّع الموظفون على أخذ المجازفات حتى لو كان الفشل محتملاً. في آذار 2016، ظهر الروبوت "تاي" الذي كان من تصميم باحثين في مجال الذكاء الاصطناعي في "مايكروسوفت" وأراد تقليد لغة المراهقين على مواقع التواصل الاجتماعي. لكن بعد ساعات قليلة على طرحه عبر موقع تويتر، تعرّض لهجوم عنيف من مستخدمي الإنترنت الشباب وضاعف العبارات العنصرية والكارهة للنساء. بعد سحب البرنامج والضجة السلبية التي أثارها، أرسل ناديلا رسالة إلكترونية إلى مصممي "تاي" لتشجيعهم على متابعة أبحاثهم والتعبير عن دعمه لهم.فيما تنشر السلطة المطلقة لشركات التكنولوجيا العملاقة رعباً حقيقياً في هذا القطاع، يحرص رئيس "مايكروسوفت" النافذ على عدم تصوير شركته كـ"إمبراطورية للشر". لذا قدّم مليار دولار لشركة "أوبن آي" التي تُشجّع الذكاء الاصطناعي الأخلاقي، وكانت "مايكروسوفت" في السنة الماضية أول شركة تدعو إلى تنظيم استعمال أنظمة التعرّف على الوجوه. فيما تواجه الشركات المنافِسة، "غوغل" و"فيسبوك" و"أمازون"، فضائح متكررة على خلفية سوء استعمال بيانات المستخدمين، يُرسّخ ساتيا ناديلا الأسس الأخلاقية في شركته. إنه رهان رابح حتى هذه اللحظة: يضاعف المرشحون الديمقراطيون للرئاسة الأميركية تهديداتهم بتفكيك شركات الإنترنت العملاقة بموجب قوانين مكافحة الاحتكار، لكن نادراً ما يُذكَر اسم "مايكروسوفت" بين الشركات المستهدفة!

بعد تشويق دام أكثر من سنة، صدر الحكم النهائي أخيراً! فازت شركة "مايكروسوفت" في نهاية تشرين الأول بعقد المشروع الفرعوني "جيداي" ("المشروع المشترك للبنية التحتية الدفاعية"). تبلغ قيمة هذه الصفقة 10 مليارات دولار وتهدف إلى تمرير البيانات المرتبطة بجميع القوات الأميركية المسلحة في الخوادم الآمنة للشركة. يُحسَب هذا الإنجاز لخدمة "مايكروسوفت أزور" السحابية، فقد تفوقت على "أمازون" التي كانت من المرشحين الأوفر حظاً. يشتبه البعض بتدخل ترامب لإبطال المنافسة التي تطرحها هذه الشركة برئاسة جيف بيزوس، وهو واحد من معارضيه المعروفين. سُرّ رئيس "مايكروسوفت"، ساتيا ناديلا، بهذه النتيجة، بغض النظر عن سببها، فهو وضع تلك التكنولوجيا على رأس أولوياته منذ توليه منصبه في العام 2014.


MISS 3