كيفن راد

منافسة أميركية - صينية في حدود المنطق؟

25 تموز 2022

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

الرئيس الأميركي بايدن خلال مؤتمر افتراضي مع نظيره الصيني شي جين بينغ | البيت الأبيض، تشرين الثاني ٢٠٢١
بعد سنة ونصف على وصول جو بايدن إلى الرئاسة الأميركية، زادت المنافسة بين الولايات المتحدة والصين احتداماً. بدل تفكيك السياسات الصارمة التي طبّقها الرئيس السابق دونالد ترامب تجاه بكين، قرر بايدن التمسك بها وأكّد توجّه البلدَين إلى خوض منافسة استراتيجية حادة وخطيرة عسكرياً لفترة طويلة. لكن لا يعني ذلك أن الولايات المتحدة والصين ستواجهان بالضرورة فترة من الأزمات والتصعيد والصراعات أو حتى الحرب. ربما يتّجه البلدان إلى إقرار مجموعة جديدة من الترتيبات التي تضمن تجديد الاستقرار وتحدّ من مخاطر التصعيد المفاجئ أو تقضي عليها بالكامل.

لا يسهل تقييم وضع العلاقات الأميركية الصينية في أي مرحلة، نظراً إلى صعوبة التمييز بين مواقف كل طرف (لتحقيق نتائج سياسية محلية معينة في معظم الأوقات)، وحقيقة ما يقوم به كل فريق وراء الأبواب المغلقة. لكن رغم الخطابات العدائية والمحتدمة في معظمها، ظهرت مؤشرات مبكرة على التوجّه إلى تجديد الاستقرار، منها محاولات استرجاع شكلٍ من الحوار السياسي والأمني الذي يهدف إلى السيطرة على الاضطرابات المتزايدة.

لكن لا تعني مساعي الاستقرار تطبيع العلاقات بين الطرفين، أي تجديد تواصل شامل ومتعدد الأطراف على المستويَين السياسي والاقتصادي. لقد أصبحت أيام العلاقات الطبيعية جزءاً من الماضي، ومع ذلك تبقى مساعي الاستقرار مهمة لأنها قد تُميّز بين المنافسة الاستراتيجية التي تتحكم بها معايير الاستقرار، والمنافسة الخارجة عن السيطرة والمبنية على استعمال القوة العسكرية لفرض الهيمنة، على أمل ألا يبالغ أي طرف في تحركاته يوماً. لهذا السبب يجب أن يوضح طرفا الصراع، وحتى الدول العالقة وسط هذه المعركة المحتدمة لرسم مستقبل الأنظمة الإقليمية والعالمية، طبيعة المنافسة الاستراتيجية المرتقبة.

نحو بناء حواجز حماية

نظراً إلى التجاذبات العلنية بين بكين وواشنطن، قد لا يوحي الوضع القائم برغبة الطرفين في استرجاع الاستقرار في إطار منافسة استراتيجية تحت السيطرة. خلال أول اجتماع مع وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، في آذار 2021، استعمل الدبلوماسي الصيني المرموق، يانغ جيشي، مستوىً غير مسبوق من التصريحات الهجومية علناً، فألقى محاضرة على مسامع بلينكن حول المشاكل الأميركية "الراسخة"، مثل العنصرية، واتّهم الولايـــات المتحدة بـ"الفوقية".

تزامنت هذه المواقف المتبادلة مع مشاحنات علنية بين وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن ونظيره الصيني وي فينغ في سنغافورة، في شهر حزيران من هذه السنة، فقد ألمح وي إلى دور الولايات المتحدة في الحرب الروسية في أوكرانيا باعتبارها "العقل المدبّر" وراء كل ما حصل. كانت التعليقات في وسائل الإعلام الصينية الرسمية لاذعة بالقدر نفسه، فراحت تهاجم الولايات المتحدة بسبب إخفاقاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وزعمت أن واشنطن أطلقت حملة شاملة لاحتواء بكين لأن "الدول الغربية التي تقودها الولايات المتحدة لا تريد أن تنشأ نسخة قوية عن الصين، لا سيما إذا كانت تلك النسخة اشتراكية"، كما قال واضع النظريات في الحزب الشيوعي الصيني، كيو شينغ شان، في وقتٍ سابق من هذا الشهر.

لكن تحصل تطورات من نوع آخر وراء هذه المواقف الظاهرية. في تموز 2021، اجتمعت نائبة وزير الخارجية الأميركي، ويندي شيرمان، مع وزير الخارجية الصيني وانغ يي في "تيانجين"، ودعيا إلى فرض "حواجز حماية" في هذه العلاقة الثنائية. سرعان ما أصبح هذا البند محور أول اتصال مهم بين بايدن ونظيره الصيني شي جين بينغ، وقد اعتُبِر هذا التواصل في بكين مؤشراً إيجابياً جداً. بحلول موعد القمة الافتراضية الأولى بين الرئيسَين، في تشرين الأول 2021، شدّد بايدن علناً على "ضرورة فرض حواجز حماية منطقية لمنع تحوّل المنافسة القائمة إلى صراع حقيقي ولإبقاء قنوات التواصل مفتوحة".

وعندما حدّد بلينكن الخطوط العريضة للاستراتيجية الأميركية تجاه الصين خلال خطابٍ ألقاه في "جمعية آسيا" في العاصمة واشنطن، في شهر أيار الماضي، قال إن "المنافسة المحتدمة بين القوتَين العظميين حتمية، لكنها لن تؤدي إلى صراع شامل". حتى أنه اقتبس كلام بايدن حين قال إن "الصراع الوحيد الذي يُعتبر أسوأ من الصراع المتعمّد هو الصراع غير المقصود". ثم تكلم عن "حرص الأميركيين على التحكم بهذه العلاقة بطريقة مسؤولة لمنع ذلك الصراع". وقبيل لقاء لاحق بين بلينكن ووانغ خلال اجتماع وزراء خارجية مجموعة العشرين في بالي، أعلن مسؤول بارز في الإدارة الأميركية أن الهدف من الاجتماع يتعلق "بالسيطرة على المنافسة المحتدمة بين الولايات المتحدة والصين بطريقة مسؤولة، من خلال فرض حواجز حماية على هذه العلاقة كي لا تتحول المنافسة إلى سوء تقدير أو شكلٍ من المواجهة".

هكذا تحوّل هذا التشديد على حواجز الحماية إلى جانب دائم من الجهود الدبلوماسية بين الولايات المتحدة والصين. اتّضح هذا التوجه خلال اجتماع مدته أربع ساعات بين يانغ ومستشار الأمن القومي الأميركي، جايك سوليفان، في شهر حزيران الماضي، فقد ركّز ذلك اللقاء على "إبقاء خطوط التواصل مفتوحة للسيطرة على المنافسة بين البلدين"، وفق بيان صادر عن البيت الأبيض. ربما بدأت المواقف الدبلوماسية تتحول إلى تحركات ملموسة حديثاً، فقد أعاد الطرفان فتح قنوات حوار فاعلة ورفيعة المستوى، فضلاً عن مناقشة احتمال إطلاق محادثات حول الاستقرار الاستراتيجي النووي، ولو على مضض. لكن لا تزال هذه الجهود كلها في بدايتها.

ثمة توجّه إيجابي عام على المستوى الاقتصادي، وقد اتّضح ذلك من خلال التواصل الأخير بين وزيرة الخزانة الأميركية، جانيت يلين، ونائب رئيس الوزراء الصيني، ليو هي، حول وضع الاقتصاد العالمي، والاتفاق على معايير المحاسبة لإعادة القوائم الصينية إلى بورصة نيويورك، والتعاون بين المفاوضين التجاريين الأميركيين والصينيين خلال اجتماع منظمة التجارة العالمية لمناقشة آليات حل النزاع. يتّضح النهج نفسه أيضاً عبر التقدم الأولي داخل الولايات المتحدة، أو بين بكين وواشنطن، لاستكشاف احتمال تخفيض أو إلغاء الرسوم الجمركية المفروضة خلال الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين لمحاربة التضخم. قد لا تكون هذه التحركات كافية، لكنها تعكس تقدّماً على جبهات مختلفة في هذه العلاقة التي بقيت مجمّدة حتى الفترة الأخيرة.

أداة لــتــأجــيــل الاســتــحــقــاقــات؟

حتى الآن، رفضت الصين علناً مصطلح "المنافسة الاستراتيجية"، سواء كانت تحت السيطرة أو خارجة عن السيطرة. يتعارض تقبّل هذا المفهوم مع الشعار الصيني القديم الذي يدعو إلى بناء علاقة مع الولايات المتحدة استناداً إلى مبادئ شي جين بينغ الثلاثة: "لا صراع لا مواجهة"، و"الاحترام المتبادل" للأنظمة السياسية القائمة في كل بلد، و"التعاون الذي يرضي الطرفَين". لكن ترفض بكين وضع هذه العلاقة الثنائية في خانة المنافسة الاستراتيجية علناً، لأن هذا الموقف يؤكد خوض الصين منافسة حقيقية على الهيمنة الإقليمية والعالمية، ويتعارض هذا الوضع مع موقف بكين الرسمي الذي يحصر طموح البلد العالمي بتطوير "رابطة المصير المشترك للبشرية" بدل زيادة القوة الوطنية الصينية لأقصى حد.

مع ذلك، يبدو أن الصين تتجه اليوم إلى تقبّل الواقع (أو حتى المصطلح الذي كانت ترفضه) للسيطرة على علاقتها التنافسية مع الولايات المتحدة. قد تتمكن بكين مثلاً من تقبّل خليطٍ من المنافسة السلمية والتعاون البنّاء في إطار حواجز حماية استراتيجية ضرورية. تُعتبر المصطلحات المستعملة لوصف إطار العمل الاستراتيجي مهمة في النظام الصيني أكثر من النظام الأميركي، لأنها قد تسمح باتخاذ خطوات محورية من جانب المسؤولين بعدما كانوا عالقين في سجن لغوي فرضته عليهم عقيدة إيديولوجية معينة. تتّضح هذه الظاهرة وسط الدبلوماسيين الصينيين تحديداً، فقد اضطر هؤلاء لتبنّي خطابات "الذئب المحارب" القومية بسبب مجموعة من الحوافز السياسية المحلية. لهذا السبب، تبرز الحاجة إلى إعادة صياغة الإيديولوجيا المعتمدة بدءاً من أعلى المراتب لتسهيل النشاطات الدبلوماسية الأقل إيديولوجية والأكثر براغماتية في أدنى المراتب.

أخيراً، قد تسمح المنافسة الاستراتيجية التي تبقى تحت السيطرة بتجديد استقرار العلاقات الأميركية الصينية خلال العقد المقبل، أي حين تبلغ المنافسة بين هاتين القوتَين العظميين أخطر مرحلة على الإطلاق نتيجة اقترابهما من مستوى اقتصادي واحد. قد تصبح مساعي الاستقرار الأكثر إيجابية خلال الأشهر الستة المقبلة، مع اقتراب موعد الانتخابات النصفية في الولايات المتحدة والمؤتمر الحزبي العشرين في الصين. لكن يتطلب التعامل مع مجموعة واسعة من التحديات المحلية والدولية التي تطرحها الصين، وحتى الولايات المتحدة أحياناً، فترة أطول بكثير. إذا استنتجت بكين وواشنطن أن التحكم بعلاقتهما الثنائية ينعكس عليهما إيجاباً خلال الأحداث الشائكة في المرحلة المقبلة، فقد يعتبر الطرفان هذه المقاربة مفيدة لهما على المدى الطويل أيضاً.

لا مفر من استمرار المنافسة الاستراتيجية بين هاتين القوتين. قد يعتبر النقاد المنافسة الخاضعة للسيطرة مجرّد وسيلة لتأجيل الاستحقاقات المهمة، لكنّ هذه الاستراتيجية ليست سيئة، لا سيما إذا كانت تمنع نشوء عالمٍ يرتفع فيه احتمال اندلاع الأزمات وتصعيد الوضع، أو ما يسمّيه القوميون الساذجون عملية التطهير عن طريق الحرب. اعتُبِرت هذه الفكرة محبّذة للمرة الأخيرة في العام 1914، ولم تنتهِ حينها الأحداث بطريقة إيجابية.


MISS 3