كتاب

" النزاع على جبل لبنان، الذّاكرة الجماعيّة وحرب الجبل" لمكرم رباح (٢/٣)

02 : 00

بشير الجميل في زيارة الأمير مجيد إرسلان في دارته في عاليه

الحلقة الثانية

عُدْتَ؟... إلى القتال



*لضرورات النشر تم اجتزاء النص الذي سيصدر ضمن الكتاب في الأول من آب المقبل*



جاء الردّ الرئيس على اجتياح قريتهم من أقربائهم وجيرانهم المقيمين في بلدة قبّيع المجاورة لها، والتي عجب أهلها، مثلما عَجِبوا، من تسلل القوات اللبنانية. يومها تصدّى غانم طربيه، القائد الأعلى في ميدان تلك المعركة، للمقاتلين المسيحيين، عند حفافي قريته، على مقربة من الجامع المخصّص للسنّة من المصطافين في المنطقة. عندما بدأ الاجتياح الإسرائيلي في السادس من حزيران، كان غانم في موسكو، يتلقى علاجاً طبيّاً. ولكنه ما لبث أن سارع إلى القفز في أول طائرة متجهة إلى دمشق، ثم أكمل دربه سيراً على الأقدام، من الحدود السورية وصولاً إلى قرنايل، حيث لقِيه واحد من رفاقه. ثم قاد غانم السيارة، مارّاً بنقاط التفتيش الإسرائيلية التي صادفها في طريقه إلى المختارة للقاء وليد جنبلاط. وما إن وصلها، حتى قفز فوق السياج للدخول إلى القصر حيث وليد جنبلاط وقيادته العليا كانوا قيد الاعتقال. وما إن هَمّ بارتقاء السلّم المؤدي إلى البهو الأساسي، حتى سارع أنور الفطايري، وهو من قدماء المنضوين في الحزب التقدمي الاشتراكي، إلى إبلاغ جنبلاط بوصول غانم، الذي هرع إلى استقباله عند الباب، قائلاً له: "أراك عدت!". وما لبث غانم أن استعلم عما يجب فعله، ليأتيه الجواب واضحاً: "علينا أن نقاتل". عندها، التفّ غانم على نفسه، وعاد إلى منزله، وانصرف إلى تحضير رجاله استعداداً للمعركة المرتقبة. ما كان لغانم، الذي تابع دورات تدريبية مكثّفة في كل من لبنان والاتحاد السوفياتي على السواء، أوهام بشأن تلهّف الدروز إلى القتال؛ فهم كانوا لا يزالون يعانون تبعات الصدمة التي أثارها الاجتياح في نفوسهم. بل إن بعضهم كان على اقتناع بأن القوات اللبنانية أفضل تدريباً وتجهيزاً من ميليشيا الحزب التقدمي الاشتراكي، التي سيستحيل عليها التغلّب على الغزاة. لكن هذا التقدير ما كان يرتكز إلى أي أساس إطلاقاً، لأنه كان للحزب التقدمي الاشتراكي، بحلول عام 1983، وبناء على ما يؤكد عليه غانم، ميليشيا مدرّبة أفضل تدريب وقادرة بالتالي على الدفاع عن مناطقه إن اقتضت الحاجة.

كان قرار غانم بمواجهة القوات اللبنانية قد خضع لاعتبارين أساسيين هيّئا له. تمثل أولهما، وقد كان تكتيكياً تنظيمياً، في الحَؤول دون اتصال القوات اللبنانية بفرقها العسكرية الموجودة في الأجزاء الجنوبية من جبل لبنان، وبعمقها المسيحي في منطقة المتن الشمالي. بالنسبة إلى الدروز، كان من الممكن لمثل هذا السيناريو أن يؤدي إلى نتائج عسكرية كارثية، بحيث تفصل المنطقة برمّتها فصلاً كاملاً عن خطوط إمداد الحزب التقدمي الاشتراكي، وتواجه بالتالي الهلاك المحتوم. أما ثاني هذين الاعتبارين، وهو أكثرهما أهمية، فلقد كمن في أن المعركة المرتقبة كانت لأجل "الوجود والكرامة" لا غير، مذكّراً رفاقه في السلاح، قبل شَنِّها، بوجوب استحضار ما حصل في قرية أخرى، قائلاً لهم: "تذكروا صليما". بالنسبة إلى غانم، البالغ من العمر آنذاك الثامنة والعشرين، فإنه كان من الواضح أن الواجب الآني كان بإملاء من تراث عائلته وأنه ما كان يفعل إلا ما سبقه أجداده إلى فعله في عام 1860 وعام 1958:

إن والدي، الذي قاتل مع الثوار في عام 1958، استشهد في جواري أثناء المعركة، وكذلك سقط العديد من أبناء عمومتي وخؤولتي... لم نطلب الإذن بمواجهة القوات اللبنانية، ولكننا كنا نعلم ما ينبغي القيام به. كنت أدافع عن أرضي وعِرضي، تماماً كما فعل والدي في عام 1958، وجدّ جدّي قبله في عام 1860.



الياس الزايك وفؤاد أبو ناضر وفادي فرام



من ناحيته، أكّد فؤاد أبو ناضر، وقد كان رئيس أركان القوات اللبنانية، أن تصرفات رجاله أتت بمبادرة خاصة منهم؛ فهم ما كانوا زوِّدوا بأي نوع من التعليمات تملي عليهم البحث عن السلاح أو حتى توقيف الناس. ولقد أعلن أبو ناضر، الذي صادف أنه ابن خالة مانويل الجميّل كذلك، أن معركة قبّيع برمّتها كانت "حادثاً"، وأن القائد الميداني للقوات اللبنانية في المنطقة "تصرّف، بوحي من غبائه التام، بلا أية تعليمات، وهو ما أدّى إلى مقتل اثنين من رجالنا؛ وفيما كنا نحاول سحب جثتيهما، قتل رجلان آخران؛ وهكذا خرج الوضع كليّاً عن السيطرة". إن المربك في الأمر، هو أن الجنود المرسَلين إلى المتن، كانوا من نخبة الفِرق القتالية في القوات اللبنانية، كونهم كانوا ينتمون إلى وحدات دفاع بيروت، التي أسسها مسعود الأشقر الملقّب بـ"پوسي"، الذي، وعلى الرغم من تسليمه قيادة وحدته إلى جوزيف الزايك، سارع إلى بحمدون ما إن وصلته أخبار الحدث. تولَّى پوسي قيادة ميدان المعركة، وحاول العمل على إعادة دعم رجاله، وإخراجهم من المعركة الحربية المفتوحة، التي تورَّطوا فيها مع ميليشيا الحزب التقدمي الاشتراكي. ولكن، وهو ما كان مفاجأة صعقته، حالت قوات الجيش الإسرائيلي دون إرساله ومن معه ذخائر إلى مقاتليه في الميدان، بل ودون نَصْبه مدافع الهاوِن لتزويدهم بالدعم. وبحسب الأشقر، بلغ الوضع بين جنوده وقوات الدفاع الإسرائيلية، حدّ التفجر والدخول في تراشق وشيك بالنيران اقتضى منه التدخل شخصياً للحَؤول دون تصعّده.



وحدات بيروت



في القيادة المركزية الخاصة بالقوات اللبنانية والقائمة في منطقة الكرنتينا، أعطي الأمر لوحدات المغاوير (كوماندو) للاحتشاد والاستعداد للقيام بالتحرك إلى قُبَّيْع، حيث كانت حِدَّة المعركة ماضية في تصاعدها. وما إن وصلتها، وهي المؤتمرة ببوب حداد، أحد أبطال معركة زحلة، حتى قامت قوات مغاوير القوات اللبنانية بمهاجمة مواقع الحزب التقدمي الاشتراكي المنشأة على تلة استراتيجية مشرفة على قبّيع، لكنها فشلت في الاستيلاء عليها. وصف ناصيف نخّول، وقد كان واحداً من ثلاثة قادة لوحدة المغاوير، المهمة الموكلة إليه أسوة بغيرها من المهمات المغوارية الأخرى، كـ"مهمة مستحيلة"، حيث أصيب، كما العديد من رفاقه وقائده، بجراح خطرة استلزمت إخلاءهم على وجه السرعة إلى بيروت، لتلقي العلاج الطبي. ومن الناحية الأخرى، كابد الحزب التقدمي الاشتراكي العديد من الإصابات، لوقوع العبء الأكبر من القتال على كاهل ما يقارب اثني عشر مقاتلاً من أهالي المنطقة، ما كان لديهم سوى معدات محدودة. ولكن الخبر راح ينتشر رويداً رويداً، ليجد هؤلاء المقاتلون أنفسهم وقد أُرْفدوا بأنسبائهم وبمقاتلين آخرين انضموا إليهم لنصرتهم من البلدات والقرى المجاورة. ومن هذه المجموعات التي ضمّت كل منها عشرة مقاتلين، ثمّة واحدة انطلقت من قرية بمريم، بقيادة فوزي أبي شاهين، واسمه الحركي "أبو متعب"، الذي رأى المعركة التي قاتل فيها في عام 1982 بوصفها شبيهة بتلك التي شَنّها دروز سوريا في قرية القُرَيْع بقيادة سلطان باشا الأطرش، ضدّ الاحتلال الفرنسي. قال أبو شاهين وهو يستحضرها:



غانم طربيه القائد الميداني لمعركة 27 حزيران في قبّيع ـ القرَيّة



في ذلك اليوم، كان عددنا ما يقارب ثمانية عشر مقاتلاً؛ استوينا على متن مركبة راحت تَشُقّ دربها باتجاه ساحة المعركة. كانت الكتائب تستعمل كل أنواع الأسلحة النارية والمدافع، تحضيراً لإمطار قبَّيْع بالقصف، وبالتالي المتن برمّته. ولكن كما تعرف، فإن الشباب [أي المقاتلين] وأهالي الجبل يفوقون إيماناً ومرونة تكيفيّة مع الصعاب والطوارئ أهالي كسروان أو المرتزقة القادمين من مصر، الذين جاؤوا ليخضعوا شعباً [أي الدروز] لسلطانهم، في حين أن هذا الشعب لا يخضع إلا لله عزّ وجَلّ.

MISS 3