كريستينا هوك

الحرب الروسية في أوكرانيا إبادة جماعية

2 آب 2022

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

مقابر في بوتشا | أوكرانيا ، أبريل 2022
مع مرور كل يوم جديد، يتّضح للجميع أن روسيا ترتكب أفظع جريمة يمكن تصوّرها في أوكرانيا: الإبادة الجماعية. دمّرت القوات الروسية أجزاء واسعة من البلد، وذبحت المدنيين الضعفاء، واغتصبتهم، وعذبتهم، ورحّلتهم، وأرعبتهم. يكمن منطق مخيف وراء أعمال العنف هذه، وهو يهدف إلى نسف الهوية الأوكرانية الوطنية وإبادة أوكرانيا المعاصرة كبلد مستقل عبر "روسنة" السكان وقتلهم.

أدركت الولايات المتحدة حجم المخاطر المطروحة، وسبق وقدّمت موارد هائلة للدفاع عن أوكرانيا. ستُحدد التطورات الحاصلة على الخطوط الأمامية هناك مستقبل الأمن الغربي. قد يسمح الانتصار الأوكراني بتقوية القانون الدولي في وجه الانتهاك الفاضح لسيادة الأراضي، ويعيد التأكيد على أهمية منع الانتشار النووي، ويحافظ على مصداقية الولايات المتحدة على الساحة الدولية.

تخوض روسيا حرباً توسعية قد تترافق مع عواقب جيوسياسية وأخلاقية عميقة، ويطرح إصرارها على إطلاق حملة من ممارسات الإبادة الجماعية مخاطر وتداعيات استثنائية على صانعي السياسة الغربية. يجب أن يفهم الأميركيون وحلفاؤهم (والمجتمع الدولي ككل) معنى هذا العنف المريع ويلتزموا بكبح مسار الأعمال الوحشية الروسية.

كما حصل في حالات أخرى من الإبادة الجماعية، يشارك عدد كبير من الروس العاديين في حملة بلدهم، ولا يقتصر المسؤولون عن هذه الممارسات على مرتكبي جرائم القتل (معظمهم من الجنود)، بل يبرز دور آخر لمنظّمي الإبادة أيضاً. تشمل هذه المجموعة بيروقراطيين روس، ومسؤولين يديرون المناطق المحتلة، ومجنِّدين عسكريين، ومخططين، ومستشارين، ومسؤولين في القنصليات، وعاملين في خدمة الأطفال لتسهيل عمليات الترحيل. يتراوح المتورطون في الإبادة إذاً بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أعلى سلسلة القيادة، والقادة الميدانيين المسؤولين عن إعطاء التعليمات في ساحة المعركة. في الوقت نفسه، زادت سهولة ارتكاب الإبادة بفضل كبار رجال الدين الأرثوذكس الروس الذين أعطوا بركتهم لخوض الحرب، والمعلّقين في وسائل الإعلام الحكومية حيث عمدوا إلى شيطنة الأوكرانيين ودعوا إلى إبادتهم. ولا تحصل أي إبادة من دون متفرجين يكتفون بالوقوف على الهامش: قد لا يوافق هؤلاء على مقاربة الحكومة الروسية لكنهم لا يحركون ساكناً لمنعها.

تفرض الإبادة على مرتكبيها اعتبار الضحايا أقل من مستوى البشر. تعجّ التقارير الإخبارية ومنشورات مواقع التواصل الاجتماعي في روسيا بمبررات للعنف ضد الأوكرانيين. اتّضحت هذه النزعة في موقف ديمتري روغوزين، رئيس وكالة الفضاء الروسية السابق، حين طالب عبر "تويتر" و"تلغرام"، في شهر حزيران الماضي، بأن "تنهي" روسيا الأوكرانيين باعتبارهم "تهديداً وجودياً على شعب روسيا وتاريخها ولغتها والمدنيين الروس". ثم تابع قائلاً: "لننهِ هذه المسألة إلى الأبد من أجل أحفادنا".

تنذر جميع المؤشرات اليوم بمحاولات منسّقة ومنهجية لتدمير الهوية الوطنية الأوكرانية. وفي ظل تراكم الأدلة على حصول إبادة جماعية في أوكرانيا، تتصاعد الضغوط القانونية والأخلاقية لكبح ما يحصل. صادق 153 بلداً على "اتفاقية منع الإبادة الجماعية" الصادرة عن الأمم المتحدة، وهي تنص على منع هذه الجريمة والمعاقبة عليها. تترافق الإبادة أيضاً مع زعزعة الاستقرار، ويدرك الكثيرون في واشنطن هذا الواقع. في العام 2011، اعتبر الرئيس الأميركي باراك أوباما منع الإبادة الجماعية "محور مصالح الأمن القومي". وفي العام 2018، اعتبر الكونغرس الإبادة وأنواعاً أخرى من هذه الجرائم "تهديداً على الأمن القومي والدولي".

بالإضافة إلى فهم التداعيات الأمنية للإبادة الجماعية، أبدى البيت الأبيض استعداداً متزايداً لوصف أعمال العنف ضد جماعات محددة بمصطلحات صارمة. حصد الرئيس الأميركي جو بايدن الإشادة مثلاً حين وضع الأعمال الوحشية المستمرة في الصين (ضد الإيغوريين)، وميانمار (ضد جماعة الروهينجا)، وأوكرانيا، في خانة الإبادة الجماعية. بدأ هذا الوضوح في استعمال المصطلحات يتحوّل إلى بصمة أساسية في سياسته الخارجية، لكنه ينعكس أيضاً على تعامل الأميركيين مع إبادة الأوكرانيين على يد الروس.

يجب أن تواجه الولايات المتحدة والغرب وأطراف أخرى الواقع الوحشي وراء نوايا الكرملين الحقيقية. تأتي مظاهر الإبادة في أوكرانيا لتغيّر الخيارات السياسية المطروحة. لا يمكن وقف الحروب المترافقة مع الإبادة عبر استراتيجيات دبلوماسية نموذجية، أو اتفاقيات وقف إطلاق النار، أو التفاوض على الأراضي. لقد تعلّم الغرب هذا الدرس حين واجه عدائية أدولف هتلر وأعماله الوحشية ويجب أن يتذكر هذه الحقيقة مجدداً.

يستطيع الغرب أن يتجنب تصعيد الوضع عبر نشر قوات الناتو في أوكرانيا مثلاً والتلويح باستعمال الأسلحة النووية، تزامناً مع مساعدة أوكرانيا على كبح الإبادة الجماعية. في المقابل، يجب أن تشكك الحكومات الغربية بالمفاوضات الروسية المرتبطة بوقف إطلاق النار، لأن كل وقت إضافي يسمح للقوات الروسية بترسيخ قبضتها في الأراضي المحتلة وإطلاق حملة وحشية "لروسنة" البلد. لا يمكن ردع الكرملين عبر فضح ممارساته المشينة، لكن قد تمتنع الحكومات في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط عن التعاون مع روسيا مباشرةً بعد توجيه رسائل متماسكة ومنسّقة حول حملة الاستعمار الروسي الجديد المبنية على الإبادة الجماعية.

لن تُحقـــق السياسات التقليدية المرتبطة بحمايـــة المدنيين إلا نجاحاً محدوداً في سياق أي إبادة جماعيــة. بدأ عدد كبير من النساء والأولاد يعــود إلى أوكرانيا لأن دول الاتحاد الأوروبي خفّضت نطاق خدمات اللاجئين، ما يعني إضافة هذه الجماعات إلى المدنيين المعرّضين للهجوم. يجب أن تساعد الحكومات الغربية أوكرانيا عبر مبادرات مكافحة الاتجار بالأولاد مثلاً من خلال تمويل وتدريب الخدمات الوقائية الأوكرانية على وقف عمليات الترحيل الروسية. كذلك، يُفترض أن تبذل جهوداً رادعة أخرى، على غرار حملة العقوبات البريطانية الجديدة ضد روسيا بسبب "التعامل الهمجي مع الأولاد".

على صعيد آخر، يجب أن تستهدف الحكومات الشبكات التي تحرّض على الإبادة، فتطلق جهوداً مشابهة للعقوبات البريطانية الأخيرة ضد "المرتكبين والمحرّضين" الروس، علماً أن هذه المبادرة وسّعت نطاق المستهدفين بدل الاكتفاء بمعاقبة القتلة. في الوقت نفسه، يجب أن تلاحق المحاكم الدولية المتورطين في الإبادة، فيما تلجأ المحاكم الوطنية إلى مبدأ الولاية القضائية العالمية لمحاكمة الأفراد على جرائم دولية خطيرة. كذلك، يجب أن يُساق المرتكبون إلى العدالة، حتى لو حوكموا غيابياً، ويتلقى المنشقون الروس ضمانات بعدم تسليمهم إلى روسيا إذا وافقوا على الإدلاء بشهادتهم خلال جلسات المحاكمة. ويجب أن تحاول الحكومات أيضاً تقييد داعمي بوتين. قد تنقلب الشخصيات القوية ضد بعضها وتتشتّت بذلك أوساط الأوليغارشيين الذين يتمتعون بنفوذ هائل في روسيا شرط إعاقة الاستثمارات الخارجية التي يقوم بها رجال الأعمال الروس، وفرض العقوبات عليهم، وتجميد أصول المتورطين. كذلك، يجب أن توضح الحكومات الغربية للأطراف التي تتواصل معها أن بوتين يقود الاقتصاد الروسي إلى الحضيض، ويترافق هذا الوضع مع عواقب كارثية على جزء كبير من الأوليغارشيين.

أخيراً، يُفترض أن يكون حظر التأشيرات الغربية مؤشراً كافياً كي يدرك منظمو الإبادة الجماعية والبيروقراطيون والموظفون ذوات الرتب المنخفضة أن أفعالهم تمنعهم من السفر وتحرمهم مع أفراد عائلاتهم من فرص التعليم الدولي. كان تأسيس "المجموعة الاستشارية الخاصة بالجرائم الفظيعة لأوكرانيا" بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة يهدف إلى تسهيـــــل محاكمة مرتكبـــــي الجرائم خلال الغزو الروسي، وهي خطوة تستحق الإشادة. لكن يجب أن تتلقى هذه المجموعة دعماً متزايداً من مئات الموقّعين على اتفاقية الأمم المتحدة لمنع الإبادة الجماعية. إلى جانب هذه التدابير، تستطيع الحكومات الغربية أن تساعد الروس المعارضين للحرب في أوكرانيا وغير المستعدين للبقاء على هامش الأحداث عبر دعمهم لتنظيم احتجاجات لامركزية يصعب سحقها، ومنحهم معدات اتصالات آمنة، وتسهيل المحاولات الروسية المحلية لإنقاذ الأوكرانيين بعد ترحيلهم. قد تسمح الحملات العالمية التي تدافع عن المعتقلين السياسيين الروس بحمايتهم أثناء احتجازهم.




جثث مدنيين في بوتشا | أوكرانيا



رغم هذه الاقتراحات كلها، لا يمكن وقف الإبادة الجماعية بعد مرحلة معينة إلا عن طريق القوة. لكن تبقى المساعدات العسكرية الغربية لأوكرانيا أساسية لكبح حملة بوتين الدموية الحاقدة. يتوقف نجاح الجيش الأوكراني على سرعة تلقي إمدادات متزايدة من الأسلحة الثقيلة. يجب أن يبذل الغرب إذاً جهوداً غير مسبوقة لتحويل الجيش الأوكراني إلى قوة بمستوى حلف الناتو، من حيث المعدات والصيانة والخدمات اللوجستية وقدرات التدريب، حتى لو كان هذا الجيش يخوض الحرب.

يدرك صانعو السياسة أن هذه المهام كلها ستكون شاقة. لكن لا يمكن السماح لروسيا بمتابعة ممارسات الإبادة الجماعية في أوكرانيا. إذا سمحت لها الحكومات بارتكاب "جريمة الجرائم"، ستجازف بإطلاق سلسلة من الأحداث المتلاحقة حيث تزيد جرأة روسيا لمتابعة تنفيذ أجندتها الإمبريالية. في الوقت نفسه قد تقرر الصين، شريكتها الاستبدادية، استعراض قوتها سعياً لتحقيق طموحاتها وضم الأراضي التي تريدها، حتى لو سبّبت خسائر مدنية هائلة وهددت النظام العالمي. يتذكر الجميع موقف الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون، حين دعا إلى مضاعفة المساعدات وإنهاء المهمة بأي ثمن رداً على طلبات الجيش الإسرائيلي خلال حرب أكتوبر في العام 1973. سيكون هذا النوع من قوة الإرادة والاستعداد التام لدعم حليف مُهدّد أساسياً لمنع دمار مريع، وكبح محاولات طمس أمة كاملة، ووقف الإبادة في مهدها.


MISS 3