أنوشا راثي

صندوق النقد الدولي: نعمة أم نقمة؟

3 آب 2022

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

أصدر صندوق النقد الدولي في الأسبوع الماضي تقريراً مستحدثاً عن "آفاق الاقتصاد العالمي" وحذّر من مستقبل اقتصادي قاتم وغير مؤكد. يذكر التقرير أن التضخم في الاقتصادات النامية قد يصل إلى 9.5%، ومن المتوقع أن يبقى مرتفعاً لفترة أطول. كذلك، تتفاقم أعباء الديون في الدول النامية بسبب إصرار البلدان الغنية على كبح التضخم عبر رفع أسعار الفائدة. في الوقت نفسه، تبرز أزمات أخرى على مستوى الطاقة والغذاء والمناخ.

من سريلانكا إلى السلفادور وغانا، كانت الدول النامية قد بدأت تتعافى من أزمة كورونا للتو حين جاء الغزو الروسي لأوكرانيا ليرفع أسعار المواد الغذائية والطاقة إلى مستويات قياسية في أنحاء العالم، فتفاقمت بذلك مشكلة الديون في الجنوب العالمي.

يقول ستيفن نيلسون، أستاذ مساعِد في الاقتصاد السياسي الدولي والمقارن في جامعة "نورث وسترن": "تحمل البلدان التي بقيت تاريخياً على هامش النظام المالي العالمي نقاط ضعف هائلة لأنها تتكل على تلقي عملات الدول الأخرى لدفع مستحقاتها. إنه شكل من اللامساواة البنيوية، وهو خلل راسخ في النظام المالي الدولي".

نظرياً، يستطيع صندوق النقد الدولي أن يُسعِف الاقتصادات المتعثرة. لكن عملياً، لا تخلو هذه الرحلة الإنقاذية من التكاليف.

ما هو مسار الإقراض في صندوق النقد الدولي؟

تأسس صندوق النقد الدولي، إلى جانب البنك الدولي، في آخر أيام الحرب العالمية الثانية رداً على الانهيار الاقتصادي والمالي الدولي خلال الثلاثينات.

يراقب صندوق النقد الدولي النظام المالي العالمي ويمنح الدول خطوط ائتمان قصيرة الأجل بأسعار فائدة أقل من مستوى السوق، كي تتمكن من تسديد ديونها الراهنة ودفع المال للدائنين. لكن لا وجود لأي قروض مجانية في صندوق النقد الدولي.

حفاظاً على قدرة الإيفاء وحرصاً على مساعدة الدول في تسديد مدفوعاتها، يوصي صندوق النقد الدولي البلدان بتبنّي سياسات معينة لتحسين ميزانياتها المالية وتسهيل وصولها إلى أسواق الرساميل. غالباً ما تكون هذه السياسات مؤلمة، وهي تدخل في خانة تدابير التقشف. يُطلَب من الحكومات التي تتلقى المساعدة أن تقوم بخيارات شائكة مثل تقليص منافع الرعاية الاجتماعية أو خفض الدعم عن المحروقات والمواد الغذائية. يحبذ خبراء الاقتصاد هذه التدابير لكن يمقتها الجائعون في الشوارع.

أصبح هذا النوع من التقشف صعباً في ظل الأزمة الاقتصادية متعددة الأوجه اليوم. في أواخر شهر أيار، طلب صندوق النقد الدولي من باكستان أن تطبّق سياسات ملموسة، بما في ذلك رفع الدعم عن الوقود ومصادر الطاقة، لتحقيق أهداف برنامجها وضمان استمرار المساعدات المالية من الصندوق. في نهاية حزيران، تابع هذا البلد الغارق في ضائقة مالية كبرى رفع الدعم عن المحروقات لتخفيف عجزه المالي، فزادت أسعار السلع الاستهلاكية بنسبة 17% وانتشرت الاحتجاجات في أنحاء البلد.

في الكاميرون، التي تحاول راهناً الاستفادة من خيار "التسهيل الائتماني المُمدّد"، لم تتغير توصيات صندوق النقد الدولي رغم احتجاج سائقي الأجرة على نقص الوقود وتقلّب الأسعار، فدعا البلد إلى خفض الدعم عن المحروقات. كذلك تُخطط تونس، التي تعاني من نقص الحبوب وفق معطيات البنك الدولي، لخفض الدعم عن المواد الغذائية بوتيرة تدريجية فيما تزداد الضغوط لإقرار اتفاق مع صندوق النقد الدولي. (من المعروف أن فرط الدعم للمحروقات والمواد الغذائية في الدول الأقل تقدّماً يفيد الأغنياء أكثر من الفقراء لأنهم يستهلكون نسبة كبيرة من هذه السلع).

هل تكيّف صندوق النقــــد الدولي مع الحاجات الاقتصاديـــــــــــــــــة في الجنوب العالمي؟

يقول جيروم فيلبس، رئيس الجمعية الخيرية البريطانية Debt Justice المعنية بمعالجة الديون ومشاكل اللامساواة العالمية: "يزعم صندوق النقد الدولي أنه لم يعد يفرض سياسة التقشف على أحد، لكن لا يمكن تجنب استعمال هذا المصطلح. لا تزال عمليات الإقراض تتطلب شروطاً تؤثر على أفقر الناس في زمنٍ ترتفع فيه أسعار الوقود والمواد الغذائية على نحو كارثي".

كجزءٍ من استجابة الإغاثة الخاصة بأزمة كورونا، قدّم صندوق النقد الدولي مساعدات مالية إلى 90 بلداً عبر استعمال "صندوق احتواء الكوارث والإغاثة" ومنشآت إقراض متنوعة، بما في ذلك "التسهيل الائتماني السريع" و"التسهيل الائتماني المُمدّد". كانت هذه البرامج تهدف إلى تقديم الهبات لتخفيف أعباء الديون وتأمين مساعدات مالية مُيسّرة للبلدان التي تتراجع مداخيلها وواجهت أضراراً كبرى بسبب أزمة كورونا. في بعض الدول الأفريقية مثل سيراليون، والسنغال، ومدغشقر، وموريتانيا، وسيشل، بدأ صندوق النقد الدولي يضيف "طبقات" من الإقراض الاجتماعي لتأمين الدعم الاجتماعي والرعاية الصحية والتعليم للفئات الأكثر ضعفاً في الدول المتلقية.

وكجزءٍ من حملة "إنهاء التقشف" العالمية، دعا أكثر من 500 أكاديمي ومنظمة من 87 بلداً صندوق النقد الدولي والحكومات الوطنية إلى وقف تدابير التقشف مقابل تأييد السياسات التي تدعم العدالة بين الجنسين والأمن البيئي وتخفيض اللامساواة في الدخل. لكن لا مفر من تحمّل عواقب هذه المقاربة في مرحلة معينة، ما يعني طرح سياسات تضمن جذب المستثمرين الأجانب عبر رفع أسعار الفائدة المحلية مثلاً وتشديد السياسات المالية، وهي تدابير لا تحظى بشعبية سياسية.

في الوقت نفسه، يشجّع الخبراء صندوق النقد الدولي على تقديم أموال إضافية واستعمال "حقوق السحـــب الخاصة" لمساعدة الدول المحتاجة. تشير "حقوق السحب الخاصة" إلى أصول احتياطية دولية أنشأها صندوق النقد الدولي لدعم الاحتياطيات الرسمية الخاصة بأعضائه. لا يعتبر الصندوق حصص "حقوق السحب الخاصة" الحل الشافي لجميع المشاكل التي تواجهها البلدان النامية، لكنها تبقى أساسية للدول التي أصبحت بأمسّ الحاجة إلى المساعدات.

إلــــــــى أيــــــــن؟

من الناحية الإيجابية، قد لا يكون صندوق النقد الدولي المنقذ الوحيد للدول المتعثرة. بدأت مجموعة متزايدة من الحكومات تشارك في اتفاقيات ثنائية مع بلدان أخرى ومقرضين من القطاع الخاص لتسديد ديونها السيادية. تحاول سريلانكا وحدها نيل مليار ونصف دولار من أكبر داعميها الماليين: الهند، واليابان، والصين.

قد تكون الصين، وهي واحدة من أكبر الدول الدائنة في العالم، ورقة رابحة للجنوب العالمي.

يقول بيتر روزندورف، أستاذ في علم السياسة في جامعة نيويورك: "بناءً على المعطيات التي نعرفها، تبدي الصين استعدادها لإعادة هيكلة الديون وتنظيمها بشروط أكثر تساهلاً من صندوق النقد الدولي ومقرضين آخرين. لكن تتراجع مظاهر الشفافية في هذه العمليات لأن البلدان تقترض من مصادر متنوعة من الدائنين".

يزداد الوضع سوءاً لأن قرار الاحتياطي الفدرالي برفع أسعار الفائدة بنسبة الضعف في الفترة الأخيرة أدى إلى تفاقم أزمة الديون في الجنوب العالمي. ستؤدي زيادة أسعار الفائدة في الولايات المتحدة إلى سحب الرساميل من الدول النامية والناشئة ورفع قيمة الدولار الأميركي النسبية بدرجة إضافية، ما يُصعّب على الدول تسديد ديونها السيادية التي تكون في معظمها بالعملات الصعبة، وعلى رأسها الدولار.

وفق معطيات صندوق النقد الدولي، أصبح 60% من البلدان ذات المداخيل المنخفضة أكثر عرضة لأعباء الديون، أو سبق وواجه جزء منها هذا النوع من الأعباء. لا يمكن استهداف هذه المشكلة عبر حلول سريعة، لا سيما إذا كانت تترافق مع تداعيات مؤلمة.

في النهاية، يقول فيلبس: "على مر عقود عدة، بقيت معظم قروض صندوق النقد الدولي ضئيلة ومتأخرة وتراجعت فيها عمليات إعادة هيكلة الديون. لا تكفّ البلدان عن الغرق في أزمات الديون نفسها بعد مرور سنتين. لهذا السبب، نحتاج إلى إعادة هيكلة الديون بدرجة كافية اليوم بدل أن ننتظر وصول بلدان أخرى إلى الوضع المزري الذي تواجهه سريلانكا".