هاورد فرانش

الصين المتقلّصة لن تتغلّب على الولايات المتحدة

5 آب 2022

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

مجموعة من المسنّين الصينيين في بكين | الصين، في 7 نيسان 2007
في العام 2009، بعد الأزمة المالية العالمية التي سبّبتها الولايات المتحدة مباشرةً، صدر كتاب بقلم الصحفي البريطاني مارتن جاك، فطغى لفترة من الزمن على المفاهيم المرتبطة بما اعتبره الكثيرون حينها (وحتى اليوم) أهم أسئلة في الشؤون العالمية: إلى أين تتجه الصين؟ وما سيكون تأثير صعودها الشائك على توزيع القوة العالمية؟

يمتدّ الكتاب على 550 صفحة، لكن يختصر عنوانه كل ما نريد معرفته عن محتواه: When China Rules the World: The Rise of the Middle Kingdom and the End of the Western World (عندما تحكم الصين العالم: صعود المملكة الوسطى ونهاية العالم الغربي). طرح جاك مجموعة متنوعة من الادعاءات تحت هذا العنوان، لكن صمد اثنان منها حتى الآن. هو توقّع أن تتفوّق الصين على الولايات المتحدة من حيث الناتج المحلي الإجمالي بحلول منتصف ثلاثينات القرن الواحد والعشرين، ثم تتّجه كي تصبح قوة اقتصادية طاغية في العالم في مرحلة لاحقة من هذا القرن.

كتب جاك أن الوضع المستجد قد يجعل لغة الماندرين منافِسة أو بديلة عن الإنكليزية كلغة عالمية، وقد تصبح بكين العاصمة السياسية للعالم وتضطر الهند، الدولة العملاقة الأخرى من حيث العدد السكاني، لتقبّل الصين كقوة رائدة في جوارها وقبالة المساحة التي تعتبرها الهند نطاق نفوذها الطبيعي.

قد تبدو توقعات جاك بالية وساذجة لأقصى حد اليوم، لكن أحدَثَ كتابُه في تلك الفترة ضجة كبرى، فأجّج تشاؤم الغرب بشأن احتمال أن يتمسّك المعسكر الطاغي على العالم منذ فترة طويلة بمكانته العالمية، ونشر موجة من الذهول إزاء الأداء الاقتصادي الصيني المتواصل في تلك الحقبة وتداعياته الإجمالية على الأطراف الأخرى.

في أنجح فترة من الصعود الصيني، استفاد البلد كثيراً ممّا سمّاه الخبراء "العامل الديمغرافي"، أي بنية السكان التي تتألف في معظمها من شباب في سن العمل بدل كبار السن. لكن بدأ توازن التركيبة السكانية في الصين يختلّ بوتيرة متسارعة ويتخذ اتجاهاً معاكساً اليوم، وتترافق تداعيات هذه النزعة مع تراجع واضح في العدد السكاني الإجمالي. تكشف مراجعة جديدة للتوقعات الديمغرافية الصادرة عن شعبة السكان في الأمم المتحدة أن الصين لن تبقى البلد الأكثر اكتظاظاً في العالم في نهاية هذا القرن. لكنّ أكثر ما يثير الدهشة على الأرجح هو تراجع العدد السكاني في الصين، وفق أحدث توقعات الأمم المتحدة، وبلوغه نصف سكان الهند حيث سيصل العدد السكاني إلى 1.53 مليار نسمة بحلول العام 2100.

على صعيد آخر، يمكن دحض واحد من أبرز مزاعم جاك بسهولة. لن تملك الصين اقتصاداً يتفوق على الاقتصاد الأميركي الذي يحتل المرتبة الأولى في الوقت الراهن. السبب بسيط: يساوي الناتج المحلي الإجمالي متوسط إنتاجية القوى العاملة في الاقتصاد ضرب إجمالي عدد العمال. قد يتغير هذا المعيار طبعاً مع مرور الوقت، لكن بدأ نمو الإنتاجية لكل عامل في الصين يتراجع في السنوات الأخيرة، بعد تحقيق مكاسب كبرى خلال حقبة الإصلاح الاقتصادي المحلي سابقاً. كما أن وصول العدد السكاني إلى نصف العدد الموجود في الصين اليوم يعطي آثاراً سلبية جداً على حجم الاقتصاد الإجمالي في أي بلد.

لا يعني ذلك بالضرورة أن ينعكس الوضع سلباً على البلد ككل. قد تبلي الصين حسناً إذا انخفض العدد السكاني فيها، فيتراجع الضغط على بيئتها وتخفّ الزحمة في مدنها. لكن لن يكتسب البلد اقتصاداً قادراً على تجاوز جميع البلدان الأخرى بناءً على معيار الناتج المحلي الإجمالي الذي يعطيه جاك الأولوية في كتابه وتُركّز عليه معظم التحليلات التقليدية لتوزيع القوة العالمية. وما لم تقع كارثة بيئية أو سوء إدارة كارثية، فلن تتمكن الصين من التفوق على الهند أيضاً.

لكن ما ستكون التداعيات الجيوسياسية على الغرب؟ بدأت الفئة السكانية في سن العمل تنكمش بوتيرة معتدلة منذ الآن في الصين، وتتراجع معدلات الخصوبة المنخفضة أصلاً مقابل زيادة متوسط عمر السكان، لذا من المتوقع أن تبدأ مرحلة من التراجع الحاد خلال العقد المقبل. عند مراجعة توقعات الأمم المتحدة وصولاً إلى نهاية هذا القرن، يتّضح أن حجم السكان الأميركيين سيساوي أكثر من نصف سكان الصين بقليل، وهي زيادة لافتة نسبياً مقارنةً بالأرقام المسجّلة منذ أقل من ربع قرن. وبما أن نصيب الفرد من الدخل في الولايات المتحدة اليوم يبقى أكبر مما هو عليه في الصين بستة أضعاف تقريباً (وأعلى بمعدل 3.6 مرات من حيث تعادل القدرة الشرائية)، ستسترجع الولايات المتحدة تفوّقها على الأرجح نظراً إلى الديناميات الديمغرافية المتناقضة في البلدين، حتى لو خسر الأميركيون تفوّقهم على مستوى حجم الاقتصاد الإجمالي خلال السنوات القليلة المقبلة.

لكن يجب أن يتعامل المعنيون مع هذه المعطيات بحذر. في المقام الأول، يُفترض ألا يتمسك أحد بمواقف متغطرسة أو يشعر بالرضى عن نفسه بسبب هذه التوقعات. تستطيع الولايات المتحدة، أكثر من أي بلد آخر، أن تسيطر على واحد من أهم العوامل التي تُحدد مسار ازدهارها المستقبلي: استمرار النمو السكاني أو توقفه، ووتيرة هذه النزعة. مقارنةً بكبار المنافسين (الصين، أو الاتحاد الأوروبي، أو روسيا، أو حتى الهند)، اعتادت الولايات المتحدة تاريخياً على موجات الهجرة، ما يعني أن أبوابها تبقى مفتوحة نسبياً أمام المهاجرين ويرغب الناس من جميع أنحاء العالم في الهجرة إليها.

تعاملت الولايات المتحدة مع هذه الميزة بخليطٍ من السياسات الضيقة والشلل والازدراء الشعبي خلال هذا القرن، فقد نشر عدد كبير من السياسيين، لا سيما في الحزب الجمهوري، أفكاراً خاطئة مفادها أن البلد يطغى عليه مهاجرون مسؤولون عن زيادة الاكتظاظ واستفحال الجرائم وانهيار المالية العامة.

خلال العقد المقبل أو بعد عقدَين، ستضطر دول كثيرة للتنافس على جذب المهاجرين نظراً إلى تسارع إيقاع الشيخوخة في الشمال العالمي. لهذا السبب، سيتوقف نجاح الاقتصاد العالمي على قدرة الطبقات السياسية في تلك البلدان على مقاومة الإغراءات الديماغوجية التي تعزز مظاهر كره الأجانب والعنصرية، وتصميم سياسات تبقي موجات تدفق المهاجرين إيجابية وتحت السيطرة وتضمن اندماجهم في المجتمع المضيف.

على عكس الولايات المتحدة، لا تتمتع الصين بأي خبرة في هذه المسائل. ولا يدرك الكثيرون في الدول الغنية أن أفريقيا ستصبح، خلال العقود المقبلة، أهم معقل عالمي للأشخاص الطموحين في سن العمل. سيكون هذا الوضع كفيلاً باختبار وجهات الناس في الشمال العالمي، بما في ذلك الصين، إذ من المعروف أن مفاهيم النخبة التقليدية عن الهوية هناك ترتبط بالانتماء العرقي أكثر من أي شيء آخر.

حان الوقت إذاً كي توقف الدول الغنية والقوية تهميشها أفريقيا وتبدأ بالتواصل مع هذه القارة بما يضمن تعزيز الازدهار العام هناك في أسرع وقت وبالشكل الذي تستحقه تلك المنطقة. من الأفضل أيضاً أن تدرك تلك الدول أن أفريقيا ستصبح محط اهتمامها قريباً، لأن ازدهار تلك القارة كفيل بتعديل موجات الهجرة ورفع مستوى التعليم والتدريب للشباب الذي يغادر أفريقيا وسيصبح العالم الغني بأمسّ الحاجة إليه مستقبلاً.

لكن لا يمكن اعتبار التفوق العالمي ميزة مطلقة بحد ذاتها. بل إن نوعية القوة التي تطمح إليها الدول تبقى أكثر أهمية من الهوس الشائع باحتفاظ البلد بموقعه المتقدّم، أو قدرته على انتزاع مكانة أطراف أخرى، أو الحفاظ على الصدارة. تحتاج الولايات المتحدة إلى تجديد نفسها في هذا المجال أيضاً. يشتق جزء كبير مما يسمّيه علماء السياسة القوة الأميركية الشاملة من قوتها الناعمة. لا يقتصر هذا المفهوم على تأثير قطاع الترفيه أو الثقافة الشعبية. لطالما انجذبت البلدان الأخرى إلى الولايات المتحدة، رغم شوائبها المتعددة، بسبب تمسّكها الواضح بالديمقراطية، بما في ذلك الاقتراع الشعبي طبعاً، فضلاً عن عوامل أساسية أخرى مثل حرية التعبير، والضوابط والتوازنات المؤسسية، وحُكم القانون، والحراك الاجتماعي والاقتصادي، وتقاسم الازدهار والديمقراطية مع الآخرين.

لكن تمرّ هذه المزايا بأزمات متكررة خلال هذا القرن، ولو بدرجات متفاوتة، أبرزها على مستوى تحديد أقوى بلد في العالم. إذا عجزت الولايات المتحدة عن تجديد نفسها انطلاقاً من هذه الفضائل، لا مفر من أن تتلاشى جاذبيتها بنظر الآخرين مع مرور الوقت، حتى أنها قد تضطر في مرحلة معينة لطرح السؤال التالي: ما نفع المرتبة الأولى؟

في غضون ذلك، لم يتّضح بعد إلى أي حد يستطيع النهج الحضاري المختلف في نظام الحُكم الصيني أن يتحمّل اختبار الزمن: هل يسمح نوع الاستبداد الذي تتبناه بكين للبلد بتجاوز التحديات الضخمة التي تنتظره في نهاية حقبة النمو الفائق وفي ظل تسارع انكماش العدد السكاني الصيني وتوسّع فئة كبار السن؟ في مطلق الأحوال، يبدو تعميق الأسس الديمقراطية من الجانب الأميركي رهاناً حكيماً حتى الآن.


MISS 3