إليزابيت برو

الشركات تهرب من الصين بحثاً عن دول صديقة

8 آب 2022

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

عامل في مصنع Maxport في هانوي | فيتنام، 21 أيلول 2021
حين بدأت ظاهرة العولمة تكسب زخماً متزايداً خلال التسعينات، تعرّف الرأي العام الغربي على مفهوم جديد: "نقل الإنتاج إلى الخارج" (Offshoring). لم تحصد هذه العملية شعبية واسعة وسط الرأي العام في تلك الفترة، مع أن مدراء الشركات دعموا مفهوم العمل الأقل كلفة بكل سرور. كانت الصين تشكّل حينها معقلاً مثالياً للتصنيع وسوق العمل، لكن تغيّر الوضع بطريقة جذرية خلال عقدَين من الزمن، إذ تحاول الشركات اليوم أن تتجنب خطوط الصدع الجيوسياسية. هكذا بدأ عصر "نقل الإنتاج إلى الدول الصديقة" (Friendshoring). تسعى الشركات في جميع الظروف إلى إدارة عملياتها في المواقع التي تحمل لها أفضل المنافع المالية لأنها تلتزم بمصالح المساهمين فيها أكثر مما تهتم بالعمّال السابقين أو الرأي العام. قد يشعر عدد محدود من الرؤساء التنفيذيين بواجب أخلاقي تجاه البلد الأصلي الذي نشأت فيه الشركة، لكن لا تؤثر هذه المشاعر على نتائج الشركة الفصلية. في الوقت نفسه، أصبحت عمليات نقل البضائع العالمية فاعلة لدرجة أن يحصل التصنيع في مكان بعيد عن المستهلكين. لن تتلاشى ظاهرة "نقل الإنتاج إلى الخارج"، لكن لا يعني ذلك أن التصنيع في الصين مستمر. في استطلاع أجرته غرفة التجارة في الاتحاد الأوروبي في شهر حزيران الماضي داخل الصين، تبيّن أن 23% من الشركات الغربية تفكر بنقل عملياتها إلى خارج البلد. وذكر المسؤولون في 50% من تلك الشركات أن العمل في الصين أصبح مسيّساً في العام 2021 أكثر مما كان عليه في السنوات الأخيرة.

في استطلاع من العام 2019، ذكرت غرفة التجارة في الاتحاد الأوروبي أن الشركات الأوروبية "تحمل التزاماً أكثر صلابة تجاه السوق الصيني الناضج والحيوي". لكن صرّح توني دانكر، مدير عام اتحاد الصناعة البريطاني، لصحيفة "فاينانشل تايمز" في الأسبوع الماضي: "تتجه كل شركة أتواصل معها اليوم لإعادة النظر بسلاسل الإمدادات المتركّزة في الصين لأنها تتوقع أن يسارع السياسيون الغربيون إلى فصل العالم عن الصين".

يتعلق جزء من السبب بالضغوط التي فرضتها أزمة كورونا. أدت سياسة "صفر إصابات" التي تطبّقها الصين إلى اضطراب سلاسل الإمدادات واحتجاز عمّال المصانع في مهاجعهم، ولا شيء ينذر بانتهاء هذه السياسة قريباً. كذلك، تعني التركيبة السكانية المتبدلة في الصين تراجع أعداد العمال المحتملين. في الوقت نفسه، ارتفعت كلفة اليد العاملة بعد بلوغ البلد مراتب متوسطة من الدخل العالمي. لكن زادت مخاوف مدراء الشركات من احتمال التورط مع الطرف الخاطئ من الصراع العالمي بسبب توسّع عدائية بكين تجاه الغرب وإصرارها على التمسك بعلاقاتها مع موسكو. ويزداد الوضع سوءاً نتيجة إصرار الحزب الشيوعي الصيني على مفهوم النقاء الإيديولوجي، ما يعني أن وجود خلايا تابعة للحزب الحاكم أصبح إلزامياً الآن في الشركات الأجنبية.

ذكرت بيتينا شوين بهانزين، نائبة رئيس غرفة التجارة الأوروبية، في بيان مرافق لاستطلاع العام 2022: "العامل المتوقع الوحيد بشأن الصين اليوم هو استحالة توقّع تحركاتها. إنه وضع سام في أي بيئة عمل. بدأت أعداد متزايدة من الشركات الأوروبية تُعلّق استثماراتها في الصين وتعيد تقييم مكانتها في السوق بانتظار أن تتّضح مدة هذه الشكوك والاضطرابات، وبدأ الكثيرون يبحثون عن وجهات أخرى لمشاريعهم المستقبلية".

لا تعود معظم الشركات إلى موقعها الأصلي اليوم، بل إنها بدأت تنقل أعمالها (التصنيع، الخدمات، البحث والتطوير...) إلى دول صديقة. كان مفهوم "الدول الصديقة" غريباً بالنسبة إلى معظم رجال الأعمال حتى الفترة الأخيرة. من وجهة نظر جيل ما بعد الحرب الباردة الذي يقود الشركات الغربية راهناً، لا وجود لدول صديقة وأخرى معادية من الناحية الجيوسياسية، بل إنها مجرّد أسواق مختلفة لكن يصبح العمل في عدد منها أكثر تعقيداً بسبب استفحال الفساد أو العنف أو كوارث أخرى. لكن لا يعتبر قادة الأعمال التجارية شركاتهم مُمثّلة للبلد الذي يشمل مقرها الأصلي.

بدأت شركة "آبل" مثلاً تنقل صناعاتها من الصين إلى فيتنام، ومن المتوقع أن تنتج أجهزة AirPods Pro 2 هناك من الآن فصاعداً. ومنذ سنتين، نقلت شركة "سامسونغ" عمليات التصنيع من الصين إلى فيتنام. كذلك، نقلت شركة "هاسبرو" الإنتاج من الصين إلى الهند وفيتنام. وفي شهر تموز، أعلنت شركة "فولفو" أنها ستفتح أول مصنع أوروبي لها منذ ستين سنة في سلوفاكيا، علماً أن مجموعة "جيلي" الصينية تملك شركة السيارات السويدية. في غضون ذلك، حوّلت "أباريل" وشركات أخرى لتصنيع الأحذية، مثل "أديداس"، إنتاجها إلى فيتنام، مع أن السبب الأساسي يتعلق بالكلفة في هذه الحالة. يقول سام ويلكين، مدير قسم تحليلات المخاطر السياسية في شركة "ويليس تاورز واتسون": "لقد ذكّرت الأحداث الأخيرة الجميع بأن التركيز المفرط على بلد واحد، بغض النظر عن هويته، يُعرّض الشركة لخسائر كبرى أو حتى الإفلاس".

أثبتت بكين في مناسبات متكررة أنها تعتبر الشركات الأجنبية هدفاً يمكن استغلاله في معاركها الدولية. أصبحت شركة "إريكسون" السويدية مستهدفة بهذه الطريقة، وتكررت التجربة نفسها مع مصنّعي النبيذ الأستراليين، ومزارعي الأناناس التايوانيين، وقطاع التصنيع الليتواني كله. أدركت الماركات اليابانية والكورية الجنوبية هذه المخاطر بعد تعرّضها لحوادث من هذا النوع في الماضي، منها استهداف متاجر "لوتي" الكبرى حين امتعضت بكين من إقدام كوريا الجنوبية على تركيب نظام "ثاد" المضاد للصواريخ، لكن احتاجت أوروبا وأميركا الشمالية في المقابل إلى فترة من الزمن لإدراك ما يحصل. في الوقت نفسه، لا تخوض الصين هذه اللعبة بإنصاف، فهي تمتنع في معظم الأوقات عن إعلان تدابيرها رسمياً أو منحها طابعاً قانونياً، وتكتفي بإبطاء العمل في الموانئ أو تضغط على المستهلكين أو الموردين لقطع العلاقات معهم. نشر المركز الوطني السويدي الصيني في الشهر الماضي دراسة مفادها أن مقاطعة المستهلكين الصينيين ترتبط بقرارات الحكومة في ثلث الحالات على الأقل.في نهاية شهر تموز، اتّهم شريك "ستيلانتيس" الصيني شركة السيارات الهولندية العملاقة (تملك "بيجو"، و"سيتروين"، و"كريسلر"، و"أوبل"، و"مازيراتي"، وماركات أخرى) "بقلة الاحترام تجاه العملاء في سوق السيارات الصيني". يعكس هذا الاتهام مبررات حملة مقاطعة المستهلكين الصينيين، وهو يلي قرار "ستيلانتيس" بإغلاق مصنع في الصين بعد تدخّل مسؤولين حكوميين في شؤونه. اتّضحت هذه المخاوف في أوساط الشركات الغربية في استطلاع للمخاطر السياسية أجرته شركة "ويليس تاورز واتسون" هذه السنة، فتبيّن أن 95% من الشركات متعددة الجنسيات تشعر بالقلق راهناً من مخاطر استكمال أعمالها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، ما يشير إلى الصين تحديداً. ارتفعت هذه النسبة من 62% منذ سنتين، علماً أن الاضطرابات كانت محتدمة في تلك الفترة أصلاً. يذكر التقرير نفسه: "اعتبرت أغلبية فائقة من المشاركين في الاستطلاع أن النزعة إلى خوض منافسة جيوستراتيجية وفصل الغرب عن الصين اقتصادياً تتجه إلى التصاعد مستقبلاً. كذلك، عبّــــــر معظم المشاركين عن قلقهم من استهداف الشركات الخاصة في خضم الخلافات الدبلوماسية الدولية".

في المقابل، تشعر 57% من الشركات فقط بالقلق من مخاطر استكمال أعمالها في أوروبا (بما في ذلك روسيا وأوكرانيا، مع أن الاستطلاع انتهى قبل الغزو الروسي). أدى إصرار بكين على استراتيجية "صفر إصابات" خلال أزمة كورونا إلى زيادة مخاوف الشركات من التعامل مع الصين، علماً أن هذه السياسة تتابع زعزعة قطاع التصنيع والخدمات اللوجستية.

لكن ما هي الدول الصديقة التي يمكن نقل الإنتاج إليها؟ تُخطط الشركات التي تنشط راهناً في الصين للانتقال إلى بلدان مثل تركيا، وصربيا، والهند، وفيتنام، بينما تنوي شركات أخرى صرف أموال إضافية للانتقال إلى مواقع مختلفة في دول حليفة تقليدياً. قد لا تكون تركيا والهند مقربتَين من الغرب بمعنى الكلمة لكنهما لا تريدان، أو تعجزان، عن استغلال العولمة لتحقيق مكاسب جيوسياسية. في هذا السياق، يقول فينكات سومانتران، أكاديمي هندي مخضرم ومتخصص بقطاع السيارات العالمي: "تتكرر هذه الظاهرة في مجالات كثيرة، لا سيما الإلكترونيات. تشهد فيتنام والهند نسبة كبيرة من الاستثمارات الجديدة".

من المتوقع أن يتحول الحوار الأمني الرباعي إلى معقل لعمليات نقل الإنتاج إلى الدول الصديقة. استضاف وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، ووزيرة التجارة الأميركية، جينا ريموندو، قمة مخصصة لمناقشة سلاسل الإمدادات في شهر تموز، ولم يقتصر المدعوون على الأوروبيين بل شارك أيضاً كبار المسؤولين من أستراليا، والهند، وأندونيسيا، واليابان، وسنغافورة، وكوريا الجنوبية. يجب أن تشمل عمليات نقل الإنتاج إلى الدول الصديقة مجموعة متنوعة من البلدان نظراً إلى استحالة أن يستبدل بلد واحد "مصنع العالم". لكنّ استبدال موقع بارز واحد بمواقع متعددة وأصغر حجماً يتطلب تصميم خطط لوجستية معقدة وتكثيف عمليات النقل.

منذ بضع سنوات، تلاشت جميع المخاوف المرتبطة بعدم وصول إمدادات السكر، والشاي، ومشروب الرم، والحواسيب المحمولة، وأي سلع أخرى، إلى وجهتها. لكنّ تجدّد هذه المخاوف فجأةً يجعل نقل الإنتاج إلى الدول الصديقة اقتراحاً عاجلاً اليوم.


MISS 3