ناتالي توتشي

روسيا... هل تستطيع أن تقسم أوروبا؟

11 آب 2022

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل ورئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراجي | بروكسل، 30 أيار 2022
في 26 تموز، أعلن الاتحاد الأوروبي عن صفقة غاز تهدف إلى إثبات إصرار الدول الأعضاء على موقفها الصارم من روسيا: بموجب هذا الاتفاق، ستُخفّض دول الاتحاد الأوروبي استهلاك الغاز بنسبة 15% بين شهرَي آب وآذار، ما يسهم في تجنّب الأزمات خلال الشتاء عبر تعزيز التضامن بين مختلف الأطراف والحدّ من قدرة روسيا على استعمال إمدادات الطاقة كسلاح بحد ذاته ضد أوروبا. ظاهرياً، تثبت هذه الخطوة قوة الجبهة الموحدة التي تتمسك بها القارة الأوروبية منذ بداية الحرب. لكن عملياً، تبقى هذه التخفيضات طوعية وتحمل دول فردية متعددة مواقف تُشكّك بقيمة ذلك الاتفاق لأن نقص الغاز يؤثر في بلدان معيّنة أكثر من غيرها.

بعد مرور ستة أشهر على بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، تتعدد المؤشرات التي تثبت أن أوروبا تجد صعوبة في متابعة مسارها خلال هذه الحرب التي تترافق مع تكاليف متزايدة مع مرور الوقت. تزامناً مع ارتفاع التضخم، وتفاقم أزمة الطاقة، وزيادة مخاطر الركود، أصبح القادة الأوروبيون أكثر ميلاً إلى رفع الصوت حول التداعيات الاجتماعية والاقتصادية للصراع وآثاره السياسية والجيوسياسية. في الوقت نفسه، تكمن اضطرابات متزايدة وراء الإجماع الظاهري حول طريقة التعامل مع الحرب. ترددت ألمانيا مثلاً في شحن الأسلحة التي وعدت بها إلى أوكرانيا. وفي إيطاليا، حيث سقط الائتلاف الحاكم برئاسة ماريو دراغي، تتوسّع المعارضة السياسية للدعم العسكري لكييف وسط الأحزاب الشعبوية المحلية. ورغم المصادقة على خمس حُزَم من العقوبات بسرعة البرق، أمضى الأوروبيون أسابيع عدة وهم يتجادلون حول حزمة سادسة تستهدف النفط الروسي وأعاقها الحاكم الاستبدادي الوحيد في الاتحاد الأوروبي، رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان.

وسط هذه التحديات المتزايدة، يبرز سؤال أساسي حول استمرار الوحدة الأوروبية بشأن الحرب والعوامل القادرة على نسفها. قد لا يتعلق أكبر تهديد على التحالف الأوروبي بغياب التقدم لإنهاء أعمال العنف المحتدمة في أوكرانيا، كما كان الوضع حتى هذه المرحلة، بل إنه يرتبط على الأرجح بخمود الصراع نسبياً، ما قد يسمح لموسكو باستمالة عدد من دول الاتحاد الأوروبي وإقناعها بالضغط على كييف لتقديم التنازلات إذا استمر تفاقم أزمة الطاقة. لكن من خلال تصديق أوهام السلام، قد يطيل الأوروبيون والغرب عموماً مدة الحرب التي تنعكس سلباً على جميع الأفرقاء.

تدرك موسكو أن العقوبات تُسبّب أضراراً هائلة في روسيا، وقد اعترف بوتين بهذا الواقع علناً. يعرف الكرملين أيضاً أن هذه الأضرار ستتوسّع مع مرور الوقت. حتى الآن، تستفيد موسكو من تحليق أسعار النفط والغاز، مع أن انفصال أوروبا عن روسيا في قطاع الطاقة أدى إلى أخطر أزمة منذ حظر النفط في العام 1973. لكن فيما تبتعد أوروبا عن الوقود الأحفوري الروسي، عبر تنويع مصادر الطاقة وتدعيم انتقالها إلى الطاقة النظيفة، من المتوقع أن تزيد قوتها بعد خروجها من هذه الأزمة . في المقابل، ستمرّ سنوات طويلة قبل أن تصبح الصين بديلة عن أوروبا كسوق للهيدروكربونات الروسية، رغم علاقات موسكو المستجدة مع بكين. ولأسباب متنوعة أخرى، من المستبعد أن تدرّ الصين الأرباح لموسكو بقدر أوروبا. على صعيد آخر، يصعب أن تستثمر الصين في المرحلة الانتقالية التي تشهدها روسيا في قطاع الطاقة. باختصار، يبدو مستقبل روسيا قاتماً على المدى الطويل.

يجب أن يعترف بوتين بهذا الواقع، لكن يبدو أنه يراهن على استسلام أوروبا قبله نظراً إلى وحدتها الهشة. ستسمح له الضغوط الداخلية في القارة الأوروبية بتحقيق أهدافه من الحرب في أوكرانيا، وقد يستأنف صفقاته الاعتيادية مع أوروبا عاجلاً أو آجلاً، أو مع عدد من البلدان الأوروبية على الأقل. من وجهة نظر الكرملين، ستمنع الانقسامات ونقاط الضعف الأوروبية تحقيق سيناريو طويل الأمد حيث تتحمّل روسيا تكاليف الغزو الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية.

مع كل شهر جديد من الحرب، تزداد مخاطر الشقاق الأوروبي، وقد بدأ أول المؤشرات المقلقة يظهر منذ الآن. لكن سيتوقف الوضع على مسار الصراع بحد ذاته. إذا تابعت روسيا حملة الأعمال الوحشية والدمار التي طبعت الأشهر الستة السابقة، يستطيع القادة الأوروبيون أن يتكلوا على بوتين للحفاظ على وحدتهم. رغم أزمة الطاقة والمشاكل الاقتصادية المترتبة عنها، فضلاً عن الاضطرابات السياسية والجيوسياسية المرافقة لهذه الظروف، من المستبعد أن يتخلى الأوروبيون عن أوكرانيا النازفة. ونظراً إلى مستوى العنف راهناً وإعلان روسيا عن سعيها إلى الاستيلاء على المزيد من الأراضي الأوكرانية علناً، لن يحرم الأوروبيون كييف من الأسلحة والدعم الاقتصادي ولن يرفعوا العقوبات مقابل أي هدنة محتملة. طالما تتابع روسيا هجومها الوحشي، قد يتخبط الأوروبيون ويعانون، لكنهم سيتمسكون بمسارهم حتى النهاية.

لكن سيزداد الوضع صعوبة على أوروبا إذا غيّر بوتين تكتيكاته في أوكرانيا من باب الضرورة. بحلول الخريف المقبل، قد تفتقر روسيا بكل بساطة إلى القدرات العسكرية اللازمة لمتابعة هجومها العكسري المستمر منذ ستة أشهر. تفترض الوكالات الاستخبارية الغربية منذ الآن أن روسيا تتكبّد كلفة عسكرية باهظة خلال حربها، على مستوى المعدات والخسائر البشرية في آن. وتشير تقديرات وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية وجهاز الاستخبارات السري البريطاني إلى مقتل أكثر من 15 ألف جندي روسي منذ 24 شباط، ومن المتوقع أن تتصاعد هذه الخسائر بعد تلقي القوات الأوكرانية أسلحة غربية متطورة. لكن لا يعني ذلك أن أهداف الكرملين تغيرت: لا يمكن ردع المشاريع الإيديولوجية بسهولة، ومن المستبعد أن يكتفي الزعيم الذي يقارن نفسه بالقيصر بطرس الأكبر بالاستيلاء على بعض الأراضي في إقليم "دونباس". في ظل توسّع تحركات الجيش الروسي، سيضطر الكرملين على الأرجح لتعديل استراتيجيته، فيسمح بتخفيف الأعمال العدائية مؤقتاً (عبر الحدّ من الاعتداءات الصاروخية الروسية ضد المدن الأوكرانية مثلاً أو تقليص استعمال نيران المدفعيات) للسماح للقوات الروسية بإعادة تنظيم نفسها. يعني هذا التعديل تغيّر مسار الحرب في الأشهر المقبلة، بحسب درجة استنزاف القوة العسكرية الروسية وقدرتها على إعادة تجميع نفسها.

سيكون أكبر خطر يواجهه القادة الأوروبيون خفياً إذاً: إذا خمدت العمليات الروسية في أوكرانيا وبدأت موسكو تُلمِح إلى عقد تسوية أو هدنة، فقد يقع الأوروبيون في الفخ. يُعتبر هذا الاحتمال تهديداً خبيثاً، مع أنه يبدو ظاهرياً فرصة إيجابية يجب اقتناصها: بالنسبة إلى موسكو، تبقى هذه المقاربة طريقة لكسب الوقت والاستعداد للجولة اللاحقة من القتال بعد بضعة أشهر. وإذا دعم عدد من البلدان هذه الخطوة، فقد تزيد الانقسامات في أوروبا ويسهل على الكرملين حينها أن يطيل مدة الحرب.

يجب أن يثبت الغرب قوّته ويضاعف جهوده لدعم كييف حين تتراجع أعمال العنف إذاً، فيضمن بذلك خسارة روسيا في هذه الحرب، ويساعد أوكرانيا على الفوز بها من خلال إرساء الأمن في دولة مستدامة تتمسك بوحدة أراضيها واقتصادها عبر تقديم الضمانات الأمنية اللازمة، وإطلاق مسار إعادة الإعمار، وترسيخ البلد ككيان ديمقراطي داخل الاتحاد الأوروبي. لكن ستكون النزعة إلى إيجاد تسوية مع روسيا قوية في ظل تصاعد الضغوط الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والجيوسياسية على القارة الأوروبية ككل. وإذا تزامن تراجع العنف في أوكرانيا مع تفاقم أزمة الطاقة في أوروبا، فقد يتجادل القادة الأوروبيون ويترددون في اتخاذ الخطوات المناسبة، حتى أنهم قد ينقسمون بالكامل في نهاية المطاف.

كان بوتين المسؤول عن تقوية الاتحاد الأوروبي وتوحيد صفوفه حين قرر تنفيذ حملته الهجومية ضد أوكرانيا في شباط 2022، وقد حقق هذا الهدف بطريقة لم يكن أحد يتوقعها قبيل الحرب. لقد مرّت عقود منذ أن أثبتت أوروبا هذا المستوى من التماسك العابر للأطلسي. لكن لم يتّضح بعد إلى متى سيستمر هذا الوضع في ظل تغيّر معطيات الحرب وزيادة أحداثها غير المتوقعة. سيستمرّ الصراع على الأرجح خلال الفترة المقبلة، لكن سيكون مساره متعرّجاً. وفي لحظات الخمود، سيواجه القادة الأوروبيون تحديات جديدة لمتابعة الضغط على روسيا ولن يستطيعوا الاتكال على وحدة الصف التي تنتجها التهديدات الخارجية الخطيرة لفترة طويلة.

يظن بوتين أن القوة مرادفة للقدرة على تحمّل الألم وأن الديمقراطيات الليبرالية، لا سيما تلك الواقعة في غرب أوروبا، تتكل على قيادة ضعيفة ولا تتمتع بالصفات اللازمة لانتظار ما سيفعله قبل التحرك. في المقابل، أثبت الأوروبيون أنهم لا يعتبرون قوة التحمل مرادفة لمقاومة الألم بكل بساطة، بل إنها تعني أيضاً القدرة على التكيّف مع الظروف والرد عليها والنهوض من الأزمات. يدرك الأوروبيون أن أنظمتهم الديمقراطية والمؤسسات الأوروبية ككل تبقى بطيئة وفوضوية لكنها قوية. اتّضح هذا الواقع في طريقة تعامل أوروبا مع أزماتها المتلاحقة خلال العقود القليلة الماضية، بما في ذلك أزمة الديون السيادية، وموجات الهجرة، وخطة "بريكست"، وجائحة "كوفيد - 19". لكن قد يتعلق أصعب اختبار حتى الآن بحرب أوكرانيا وطريقة تأثيرها على دفاعات أوروبا واقتصاداتها وأنظمة الطاقة فيها، فضلاً عن النسيج الاجتماعي في نظامها الديمقراطي. لتجاوز هذا الاختبار، يجب أن يستجمع الأوروبيون قوتهم وتصميمهم بدل الاتكال على بوتين لأداء هذه المهمة بدلاً منهم.


MISS 3