جورج بوعبدو

"إعترافات بيتهوفن" لألكسندر نجار على خشبة "مونو"... عذابات الموسيقار "الإنسان"

11 آب 2022

02 : 01

من المسرحية
لليلتين متتاليتين في التاسع والعاشر من الشهر الحالي إستضاف "مسرح مونو" بوحاً من نوعٍ آخر على شاكلة إعترافاتٍ لأشهر العازفين على الإطلاق لودڤيك ڤان بيتهوفن ممسرحة بعنوان "إعترافات بيتهوفن" ألفها الكاتب والمحامي ألكسندر نجار بالفرنسية وصاغها بالعربية الشاعر هنري زغيب. المسرح خالٍ من الأثاث باستثناء كرسي للممثل المؤدي دور بيتهوفن بديع أبو شقرا وبيانو جلس إليه الفرنسي نيكولا شُڤرو الذي عزف أبرز مقطوعات بيتهوفن بأداءٍ متقن. بعد جلوس الحضور صدحت موسيقى السوناتا رقم 14- الحركة الأولى، تليها مباشرة إعترافات بيتهوفن عن حياته المليئة بالأوجاع والتعقيدات لتتوالى الإعترافات والمقطوعات الموسيقية بتواتر أبعد شبح الرتابة.

ولدت فكرة المسرحية قبل 3 سنوات بالفرنسية إذ تمّ تقديمها في "مهرجان البستان" في بيت مري من الممثل الفرنسي، جان فرنسوا بالمير ضمن "أمسيات باريس". وقد حرص الشاعر هنري زغيب على نقل المسرحية الى لغة الضاد بأمانةٍ ترفع لها القبعة، هو المشهور بقلمه الناتئ وبلغته البليغة التي أكسبته شهرةً طيبة في أوساط أهل الفكر والقلم.




وهكذا وعلى امتداد أكثر من ساعة اطلع الجمهور على حياة بيتهوفن المتشعبة وعلاقته مع محيطه وتحديداً مع والده، وعلاقاته الفاشلة مع النساء، وهفواته السياسية حين أعجب بنابوليون الذي خذله، وعلاقته بابن أخيه وكراهيته الناس الذين ما كانوا يفهمون المشقة التي كان يواجهها خصوصاً بعدما أصابه الصمم وهو بعد في ريعان شبابه وفي قمّة عطائه.

تناوب على المسرحية النص والموسيقى فتارة صدحت النوتات وأخرى علت نبرة الإعترافات.





واعتبر بديع أبو شقرا الذي أدّى دور العازف أنّ أداء هذا النوع من الأعمال أصعب من التمثيل خصوصاً أنّ الممثل يفتقر الى إمكان الخروج عن الإطار المحدّد بل لزامٌ عليه التماهي مع شخصية "بيتهوفن" كما رسمت ومع مكنونات الراوي وترك المجال لتفاعل الجمهور مع الموسيقى. الأمر إذاً وفق رأيه أشبه بالسير على خط رفيع، ويبدو أنّ أبو شقرا استمتع بنكهة العمل الخاصة بلغة الضاد وإسقاطاته على واقعنا اللبناني الحالي، وهو يذهب الى أبعد من ذلك بتأكيده أنّ النص "المونولوغ" إنما جاء بهذا الغنى لتولّي زغيب بالذات مهمّة تعريبه فلو جاء بترجمة أي شخص آخر لأتى جافاً وخالياً من اللون.




وفي اعترافاته يتحدّث بيتهوفن عن علاقته بأبيه "الذي ظلّ عشرين سنة عبئاً عليه حتى مات فجأة بنوبةٍ قلبية". سرد علاقته المعقّدة بأبيه بجملٍ بليغة أوضحت الجفاء الذي حلّ بينه وبين والده ما جعله يحسد العلاقة السليمة بين موزارت وأبيه: "أبي يوهان ليس والدي، بل أنا حقيقة ابن ملك بروسيا... أمر غريب والأغرب أنني لم أنف هذه الشائعة مع أنها محرجة لسمعة أمي. والسبب بسيط: حفر فيّ أبي جراحاً معنوية عميقة تجعلني لا أمانع أن أبادله بملك"...

ومن الاعترافات تلك المتعلقة بعلاقاته العاطفية الفاشلة، هو الذي تعدّدت علاقاته بأنواع مختلفة من النساء، المبهورات بهالته كموسيقار، وجميعها لم تتكلل بالزواج.





كان بالفعل ممتعاً الاطلاع على عذابات بيتهوفن في برهة من الزمن، والوقوف على الناحية منه التي جعلته "إنساناً" اولاً قبل أن يكون ذاك المبدع في الموسيقى وهل أجمل من أن نعطي قرّاءنا بعضاً من مذاق النص المعرّب السلس في هذا المقتطف أدناه الذي يعكس جوهر العازف وتناقضاته وعذاباته في قالب إبداعي؟

"مع بُلُوغي غروبَ حياتي، أَراني في حاجةٍ إِلى المُصارحة. قالوني متكبِّراً.

ولأَنَّ اسمي لودﭬـيك ﭬـان بيتهوﭬـن، ظَنُّوني إِنساناً متفَوِّقاً، كائناً مغفورة له، بِاسْم الشهرة، جميعُ مُغالَيَاتِه. سوى أَنني لا أَطلُب المغفِرة.

حتى لو أَعمالي مكتفيةٌ شُهرةً، وحتى لو أَخفى الـمجدُ انْـحرافاتي ولـم يُظهِر مني سوى مؤَلَّفاتي، عليَّ الـمصارحةُ لأُنَقِّي ضميري، فأُخفِّفَ هذا العبْءَ الذي أَرهَقَني طويلاً ويُعيقُ رؤْيتي صافياً غروبَ حياتي.



قد يأْتي مَن يَجدُ لي أَعذاراً تبريرية وظُروفاً تخفيفية، أَو مَن يرى متاحاً كلَّ تصرُّفٍ للفنّان شرط أَن يُبدِعَ الجمال. لكنني أَرفضُ هذا التسامُحَ الذي يغفِر مغالياتِ المُبْدعين.

ها إني أَقولُها عالياً بثقة: حياتـيَ الشخصيةُ كانت هباءً كثيراً. سبّبتُ الضرر لأَكثرَ من ضحيّةٍ وكبشِ مـحْرقة، أَسأْتُ لـمُقرَّبين مني ولو من دون علْمي، ارتكبتُ أَخطاء قاتلةً إِنْ أَتُبْ عنها اليوم فلا عن جُبنٍ لأَنَّ نهايتي تقترب بل لأَن قلبي ليس من صَوَّانٍ ولو أنَّه قَسَا أَحياناً.





أَيكونُ أَني ضحيّةُ طفولتي التَعِيسة؟ أَكُنتُ في حاجةٍ أَن أَتَعَذَّبَ كي أُؤلِّفَ موسيقاي؟

أَفلا يُـمكنُ الإِبداعُ من دون هذا الضَنى؟ هل يـجب غمْسُ اليدِ في الطين فتوحِلُ كي تُطْلِعَ عمَلاً فنّيّاً؟ لستُ أَدري، طالـما الإِلهامُ، كما الإِيمان، ليس له تعريف.

كلُّ ما أَعرف أَنني أَعيشُ الآن في سجنٍ هائِلٍ دَوِيُّهُ الصمْت، الصمتُ الذي تُـمَجَّدُ فضائلُهُ لأَنه واحةُ التأَمُّل والاستبطان.

لكنَّ الصمتَ، حين يُبعِدُ صاحبَه عن مـحيطِه، ينقلبُ كابوساً يَـحرُمه من سَـماعِ أَنغامٍ هي أَصلاً مادَّةُ فنّه، فيصبحُ غريباً نائياً عن أَصواتٍ يضجُّ بها كلُّ ما حَوله.

يُـحزِنُني عميقاً عجْزي عن سَـماعِ ضحكات الأَطفال وتراتيل الكنائس وأَغاني العاملات.

لكنَّ هذا الـحُزن يَهون حيالَ عجزي عن سَـماع نوتـاتٍ أَصدَرَتْـها أَناملي على ملامس الـﭙيَانو، وتعزفُها أُوركسترا لا أُنصِتُ إِليها، ولا أَسمعُ تصفيقَ الـجمهورِ إِعجاباً بي في نهاية الكونشرتو.

أَن أَعجَزَ عن السَماع يعني أَنني مُبعَدٌ خارجَ العالَـم، منفيٌّ داخلَ ذاتي.

محبَطٌ أَنا، خائب، كما رسامٌ أَعمى، أَو كاتبٌ مبتورُ الأَصابع.

لكنَّ مُـخيِّلتي سليمةٌ، وهنا الجوهَر".


MISS 3