يوسف منصور

ناجي الفليطي ثائر عرسالي... عاش الموت ورحل بكرامة

3 كانون الأول 2019

02 : 00

اضاءة شموع في ساحة المطران لروح ناجي

هي عرسال وجهة الإعلام وقبلته عند كل استحقاق أو حدث، عروس الثورة البقاعية التي جسدت الوطنية قولاً وفعلاً، وواجهت تهم الإرهاب والتكفير وتضييق الخناق بصبر وحزم، وانتظرت من الدولة القليل في زمن الكثير من دون جدوى، وأوصلت نائباً منها علّ صوتها يسمع، وقدمت الشهداء على مذبح الوطن قرابين محبة ووفاء.

مع بدء الأزمة السورية بدأت عرسال تعاني الحصار الأمني والتضييق من ذوي القربى، مُنع الأهالي من الوصول إلى بساتينهم في الجرود، حيث مصدر رزقهم بفعل إنتشار المجموعات التكفيرية، وعامَل المحيط أهالي البلدة كمعاملة اللاجئين، وأقفلت معظم الكسارات ومقالع الصخر التي تعتبر مصدر العيش الرئيسي للعراسلة ومصدر الحجر الذي يكسو معظم المنازل اللبنانية، وبدأ وضع المواطنين فيها بالتراجع بفعل انتشار اللاجئين السوريين ومزاحمتهم للعراسلة في أعمالهم ومحالهم. تنفس أهالي عرسال الصعداء بعد خروج المسلحين من الجرود وتأمين الجيش الطريق إلى البساتين التي تحتاج أعواماً كي تعود كما كانت، وبدأت المقالع والكسارات بالعمل تدريجياً والتي يعيش منها مئات العائلات، لتعود الأمور إلى نقطة الصفر في ظل الأوضاع الإقتصادية الصعبة التي يمر بها لبنان ككل، فكانت ثورة أهالي البلدة على الواقع مثالاً لحجم الضائقة الإقتصادية التي يعيشها هؤلاء، وكانت أعداد المشاركين يومياً خير مثال على حجم المعاناة والأمل في التغيير.وهزت حادثة إنتحار أحد أبناء البلدة ضمائر اللبنانيين جميعاً من دون أن يهتز عرش الطبقة السياسية ويرمش له جفنٌ، بعد أن ضاقت مصاعب الحياة واستحكمت حلقاتها على ناجي دياب الفليطي إبن الأربعين عاماً، ودفعته المشقات المتزايدة والديون المتراكمة إلى إنهاء حياته، تاركاً خلفه معاناة والدين مكلومين على فراق إبنهما، وزوجة تصارع المرض بصبر، وولدين فقدا السند والأب الذي أفنى عمره في خدمتهما.

لفّ ناجي الحبل على رقبته أول أمس لينهي حياته بعد عجزه عن تأمين متطلبات إبنته التي لم تتجاوز الألف ليرة لبنانية، مثله كمثل آلاف اللبنانيين الذين تلف حول رقابهم حبال الفقر والعوز، واصبحوا تحت خط الفقر ولا قدرة لهم على تأمين لقمة العيش لأبنائهم، تقسو عليهم الحياة كقساوة الطبقة السياسية التي لا ترحم ولا تصغي لمطالب شعبها.


ناجي الفليطي


عائلة الفليطي كغيرها من العائلات "المستورة" في عرسال وتعيش كل يومٍ بيومه، على مبدأ المثل القائل: "إذا ما اشتغل ما بياكل". هي مقولة جسدتها قصة ناجي الفليطي الذي كان ينتمي إلى المؤسسة العسكرية وتركها منذ سنوات، وفق أحد أقربائه، كي يقوم بخدمة إبنته ورعايتها بعد مشاكل صحية وعقلية أصابت والدتها، إذ إن بقاءها معها قد يشكل خطراً عليها، ما اضطره إلى ترك الجيش اللبناني والعمل داخل البلدة ليكون قرب إبنته.ويضيف علي الفليطي قريب ناجي أن "ما زاد الطين بلة هو المرض العضال الذي أصاب زوجته الثانية وكبّده أعباء مالية كان عاجزاً عن تأمينها، حيث كان عمله في مقلع الحجر متوقفاً بحكم ظروف البلدة ككل، ولكن صبر ناجي لم يتوقف وبقي يصارع الحياة ومصاعبها، يعمل في ما يتوفر له، ليؤمن قوت عياله الذي عجز عن تأمينه أحياناً كثيرة".

بأسى وحزن تتحدث نجوى شقيقة ناجي، حيث أشارت إلى أن "عزة نفس شقيقها وكرامته دفعته إلى الإنتحار، فكثيرةٌ هي المرات التي لم يستطع تأمين الحليب لابنه محمد إبن السنة الواحدة، ولا المازوت للتدفئة، ونحن في عز الشتاء والبلدة معروفة بجوّها البارد، وحجم الديون التي تكبدها ناجي إن كان للمحال التجارية التي يشتري منها حاجاته، أو للأقرباء بسبب مرض زوجته كانت دافعاً له، لكن المؤلم والذي لم يتحمله هو طلب إبنته رنيم صباح الأحد مبلغ ألف ليرة قبل ذهابها إلى المدرسة إسوةً بغيرها من الأطفال، ليخرج إلى خلف المنزل ويعلّق حبلاً حول رقبته وينهي حياته".

وشُيّع ناجي إلى مثواه الأخير في جبانة البلدة أمس، فيما وُجّهت دعوات للتظاهر اليوم وإقفال المدارس والمؤسسات التجارية، والتجمّع في ساحة البلدة.

صرخة ناجي التي أطلقها عبر موته، والحال التي وصل إليها الشباب اليوم هي صرخة معظم اللبنانيين، وهي تحتاج إلى جهد وعمل لا لآذانٍ صماء عن وجع الناس التي لم يعد بمقدورها التحمل.


MISS 3