ريتا ابراهيم فريد

مسرحية جديدة لفرقة "فحم"

بين مدينة أورفليس وأزمات لبنان: ماضي... حاضر و"برنص"

1 أيلول 2022

02 : 00

أعضاء فرقة "فحم"
بعد انطلاق المشهد الأوّل، تشعر أنّك أمام عرضٍ مميّزٍ لممثّلين محترفين. بين النصّ المتماسك، والرسائل التراجيدية التي تسلك طريقها بسلاسة بين الكوميديا والحسّ الفكاهي، وبين الأداء المسرحي الذي أتقن كلّ ممثّل تجسيده لأكثر من شخصية مختلفة، سرعان ما تجد نفسك كمُشاهد مندمجاً كليّاً في أجواء المسرحية، حتى تكاد تنسى أنّ معظم الذين يقفون أمامك على هذه الخشبة، هم أطفال ومراهقون. مسرحية "ماضي، حاضر وبرنص" لفرقة "فحم"، التي عُرضت مساء الأحد الماضي على مسرح الكلية الشرقية في زحلة، هي مستوحاة من أجواء كتاب "النبي" لجبران خليل جبران، ومن نصّ "البرنص" للكاتب والمخرج المسرحي طوني الصلماني.

قبل دقائق من بدء المسرحية، قلق وتوتّر في الكواليس. الممثّلون اليافعون يواجهون خوفهم البريء بالانشغال في التحضير. ينهمكون في استعداداتهم ويتنقّلون بسرعة بين الفوضى الجميلة في ثيابهم وأغراضهم وعدّتهم. يشعرون أنهم أمام مسؤولية كبيرة. فتمريناتهم الأسبوعية التي امتدّت الى ستة أشهر، سيقطفون ثمارها بعد قليل في هذه المسرحية. يشتدّ خوف البعض. فيقترب منهم زملاؤهم ويعملون على تشجيعهم وإضحاكهم ومدّهم بالقوة. يغمرونهم بمحبة كبيرة وطاقة إيجابية هائلة، قد تكون أجمل ما جمع بين هؤلاء الممثلين الشباب.

في الخارج، صالة ممتلئة بحضور من مختلف الأعمار. من الرائع كسر مفهوم المركزية في المسرح وإحيائه في البقاع بعروض دائمة من شأنها إعادة تعزيز الأنشطة الثقافية. وهذا بالضبط ما تقوم به فرقة "فحم" رغم كل الصعوبات المادية والحياتية التي نواجهها اليوم في لبنان.



لقطات من التمرينات



جسر عبور بين أورفليس ولبنان اليوم


تبدأ المسرحية بمشهد إيحائي تفاعلي، مع موسيقى تمّ اختيارها بعناية لتتناسب مع المشهد. تفاعل قوي من الجمهور يترافق مع تصفيق حادّ عند دخول كل مشترك. ثم ينطلق العرض الذي تدور أحداثه بين حقبتين زمنيتين مختلفتين. البداية مع الحقبة المعاصرة، التي تسلّط الضوء على المشاكل اليومية لأسرة مؤلّفة من أب وأمّ، مطعّمة بحوارات تقليدية فكاهية، وعبارات مضحكة مبكية من التي اعتدنا سماعها في حياتنا اليومية. وبعد قليل، نكتشف بأسلوب مضحك أنّ هذه الأسرة أنجبت 21 طفلاً، لكل منهم مشاكله الخاصة، والجامع بينهم هو "البرنص" الذي يتوسّط المسرح.

تنتقل الأحداث الى الحقبة القديمة حين يطلب الوالد من أحد أبنائه المولع بالقراءة أن يناوله كتاب "النبي" لجبران خليل جبران. وهُنا نعود بالزمن سنوات عدة الى الوراء، نحو مدينة "أورفليس".

واللافت في القصة، هو جسر العبور بين الماضي والحاضر الذي أتقن الكتّاب والمخرجون الثلاثة للفرقة تصويره كي يشكّل إسقاطاً على أزمات لبنان الحالية التي نعيشها. شخصية المصطفى كانت حاضرة أيضاً، ومقاطع من النصوص الأساسية لجبران، مع مقطوعات موسيقية ولوحات راقصة.

وبحسب المسرحية، هناك أسرة شديدة البخل تعيش في أورفليس، اكتشفت لاحقاً أنّ كلّ الأموال التي صمّدتها فقدت قيمتها. وأسرة أخرى تظنّ أنّها سعيدة دوماً، حتى أيقن أفرادها من خلال الأزمة أهمية أن يعبّر الإنسان بصراحة عن حزنه وقلقه، تمهيداً للمصالحة مع ذاته. وصولاً الى أسرة أخرى تعاني من هوسٍ في النظافة حدّ "السرسبة"، إلا أنّها تصرّ على البقاء في المدينة رغم كل الظروف الصعبة، ما يعكس بلا شكّ مبدأ التشبّث في أرض لبنان. وكانت لافتة عبارة "إذا فلّينا، مين بينضّف؟".

يجمعهم شغف الفنّ والمسرح ومن الجدير ذكره أنّ المسرحية تتضمّن عدداً كبيراً من المواقف الكوميدية التي جسّدها الممثلون بأسلوب عفوي بحت خالٍ من أي جهد، من دون الحاجة الى الإبتذال أو التفوّه بالعبارات السوقية.



لقطات من التمرينات



هم شبان وشابات وأطفال من مختلف الطوائف والمذاهب والإنتماءات، يجمع بينهم شغف كبير للفنّ والمسرح، وللتعبير عن أنفسهم بأرقى الطرق. هؤلاء الذين يستقبلون الحياة بكلّ هذا الأمل، يعتنقون فكر الحرية والتفلّت من القيود البالية والحواجز بينهم وبين الآخرين، ترجموا ذلك في كيمياء واضحة بين بعضهم بعيداً عن أي حواجز أو أحكام مسبقة، وفي تطلّعاتهم الى وطنهم، وفي إيمانهم العميق بأنّ الثقافة هي عنصر أساسي للتغيير.

إلا أنّ هؤلاء الشبان والشابات لم يدركوا ربّما، أنّهم التحموا بالفعل في أجواء المحبة الطاهرة النقية التي تحدّث عنها جبران خليل جبران على لسان "النبي"، وجسّدوها بأصدق وأجمل أسلوب، من خلال الروح الجميلة والطاقة الإيجابية التي تجمع بينهم.


MISS 3