الجواب عليه من الأكثر صعوبة، لأن الاصطفاف خيار الكسالى، كسالى الفكر، في كل زمان ومكان. مثل هذه الأسئلة البسيطة هي أسئلة ملغومة وتضليلية بل هي مغلوطة، ولا يمكن، على ما تعلمناه من مهدي عامل، أن نقدم إجابة صحيحة على سؤال مغلوط.
الفارق بين الصح والغلط في السؤال أو في الجواب أساسه فارق بين السياسة والعلم. السياسي يحاول أن يظهر بمظهر القادر على تقديم أجابة سريعة على أي سؤال، أما العالم فتشغله صياغة الأسئلة المركبة، «الإشكاليات»، التي لا يمكن الإجابة عليها بنعم أو بلا، أو بالاصطفاف القتالي إلى جانب هذا أو ذاك.
أن تكون مع روسيا ضد أوكرانيا أو مع أوكرانيا ضد روسيا يعني أنك وقعت في فخ السؤال المغلوط. فقد قيل كلام كثير عن بوتين الحالم ببعث القيصرية والقومية الروسية، وعن زيلينسكي اليهودي وعلاقته بإسرائيل وحلف الأطلسي، واستخدامه لغة الإثارة عن الاحتلال والسيادة والحرية والديمقراطية وحق الشعوب في تقرير مصيرها، وقيل إن الاتحاد السوفياتي كان قد أهدى جزيرة القرم إلى أوكرانيا ثم استردتها روسيا منها. قد تكون هذه المعطيات صحيحة، لكن الخطأ يكمن في استخدامها بتركيب معادلات بسيطة لشرح قضية مركبة، أي في اختزال الحقيقة بالانتصار لأحد الطرفين المتقاتلين. حروب ما قبل الرأسمالية اتخذت شكل الغزو، وآخر فصولها معارك السلطنة العثمانية في القارة الأوروبية وفي عرض البحر الأبيض المتوسط، ومنتهى غايتها غنائم وأتاوات. أما حروب الرأسمالية فهي متنوعة بتنوع أجيالها ومراحلها والمبتكرات العلمية المرافقة لها والحاملة أسماءها، من السلاح الناري إلى النووي، ومن التنافس الاستعماري بين القوميات في الحربين العالميتين إلى الحرب الباردة بين اقتصاد السوق والاقتصاد الموجه والاقتصاد الريعي، ومن حروب التحرر الوطني إلى حروب التحرر من الاستبداد. ما يحصل في أوكرانيا هو أحدث النسخ في حروب الرأسمالية، وهو صراع بين قوى الاستبداد.
نظام بوتين هو، بالتعريف، نظام استبدادي بالمعنى المباشر للكلمة، وأبرز الأدلة تشريعه العودة إلى القيصرية ونظام التوريث «الدستوري»، إضافة إلى سعيه الحثيث إلى «بعث» المشاعر القومية التي سبق لها أن أضرمت نار الحروب الرأسمالية الاستعمارية. أما «العالم الحر» فقد تخلص من الاستبداد السياسي واعتمد تداول السلطة في أنظمته، لكنه جعل الاقتصاد سلاحاً يستبد بواسطته بكل القيم السياسية والثقافية والأخلاقية والإنسانية، فأباح سفك الدم باسم الدفاع عن حرية «الاقتصاد الحر»، وعن مصالحه النفطية والنقدية والتجارية والمالية، ولم يتردد في إعلان الحرب على خصومه ولو على حساب شعوب بكاملها وحتى آخر جندي في جيوشها.
حرب أوكرانيا تدور رحاها بين قوى متشابهة معادية للحرية، على الجبهة الأولى قوى متحدرة من الاستبداد القومي وعلى الأخرى قوى تسفح الحرية على مذبح الاقتصاد، ولا تسأل عن الأثمان البشرية للحروب، لأن الخسارة في حساباتها لا تتخطى حدود الأرقام في البورصات والأسهم المالية.
الدفاع عن الحرية، كما الدفاع عن السيادة الوطنية، الأوكرانية كما اللبنانية، لا يكون بالانسياق وراء الاصطفاف الغرائزي، بل بانبثاق قوى ترفع راية الحرية في وجه كل أنواع الاستبداد.