نوال نصر

كورنيش عين المريسة وعبق التاريخ والجغرافيا

هل آن أوان تغيير "رئة" بيروت؟

4 تموز 2019

18 : 16

له كل المساحة

كم غنّى البيارتة مع "طروب" وهم يتنزّهون على ناصية بحر عين المريسة: "حبيبي بيحبّ التش ع الروشة بيقللي مش..."، وكم ضحكوا وهم يهرولون وراء بائع الكعك واليانصيب وغزل البنات والفول السوداني... وكم يقلقون في كلِّ مرّة يسمعون فيها عن مخطّطٍ قد يُغيّر شكل "الروشة" وروّاد "الروشة" ومحبّي "الروشة"... فهل آن أوان تغيير "رئة" بيروت؟

حكاياتٌ كثيرة حيكت هناك، وعن هناك، تروي بكثير من الحنين تفاصيل بقعةٍ لا تُشبه سواها ولا يُشبه "قسماتها" أيّ كورنيش. هناك، تجدون الإختلاف والتناقض والتمايز والطبقات والأحباب و"قيس وليلى" والأطفال والرياضيين والمسنين ومن يشعرون بالأسى والملل وبالعنفوان والرضى ومن يعشقون البحر وسحره وأسراره.
فقشُ الموج له هناك صدى، يخفت أو يشتدّ كلما زاد ارتطامه بالصخور أو نقص. هذه الصخور الجميلة التي تُزنّر شاطئ كورنيش عين المريسة مرشحة للزوال بـ "أصابع ديناميت" بحجة "تطوير كورنيش بيروت البحري". التطوير سنّة التقدم، لكن الإلتصاق بنوستالجيا الأمكنة لازمة تُبنى عليها ثقافات الشعوب. هنا، في كورنيش عين المريسة، نستكشف بالعين المجردة، وببساطة شديدة، الكثير من العادات البيروتية والتنزه قبالة رائحة البحر وتلاطم الموج على الصخور وصراخ باعة الكعك وقهقهات الأطفال وسياحة "تانت أنجليك" بثيابها الراقية على الرصيف وأناقة "أبناء بيروت"، كبار السنّ، وهم يمشون بتؤدة على كورنيش بيروت البحري يراقبون شباب بيت عيتاني يتبارون في "شلح" أجسادهم في البحر، بين الصخور، متحدّين الخطر والبحر والأنظار. مشاهد بيروتية بامتياز.

لا للنرجيلة...
"حظ أعطيني وبالبحر ارميني". مقولة تتسلل الى الأذهان ونحن نمشي على الكورنيش، بين ضفتين، بين مباني عين المريسة العريقة ، لكن الغارقة بالسكون، وزوار البحر المتواضعين لكن المفعمين بحيوية جميلة. نساءٌ بالعباءات ونساءٌ "بثيابٍ إلّا"! تناقض هائل! وآرمات مذيّلة بتوقيع بلدية بيروت فيها سلسلة كمّ التعليمات واللاءات: حافظوا على النظافة. لا للنرجيلة. لا للكراسي. لا للملاعق والشوك البلاستيكية. لا للدراجات النارية. نرجو تنظيف مخلفات الحيوان الأليف. ننتبه في اللحظة المناسبة أن أقدامنا "ستغطس" في مخلفات حيوان أليف فنتدارك "دعساتنا" ونتابع.
ثمة مجرور قريب يصبّ في البحر، وثمة يافطة ما زالت آثارها بارزة في الجوار: "هل نحتاج الى تبليط البحر؟ هل رفع التلوث عن آخر شاطئ صخري في بيروت لا يكون إلا بتلزيم مشروع "تطوير كورنيش بيروت البحري" بكلفة 25 مليون دولار؟ سؤالان وجيهان.

سرغوس ومواسطة
بلدية بيروت دخلت، على ما يبدو، في عطلة الصيف وجوابها يستلزم وقتاً وانتظاراً طويلين. باعة القهوة باتوا أقل من قبل. باعة غزل البنات يأتون بعد الظهر. ملتقطو الصور الفورية باتوا نادرين بعدما بات "السيلفي" البديل العصري. صيادو السمك يحملون صناراتهم ويتكئون في مواقع محددة ووجوههم متجهّمة. الصيدُ قليل لأن السمك في هذه الفترة "يُبذر" ويتوالد ويكون قليل النشاط وهذا يؤثر على غلّتهم التي تكون ضئيلة. بحرُ عين المريسة غني عادة بأسماك "السرغوس" في الليل و"المواسطة" نهاراً. وأبو علي مضى عليه طوال الليل جامداً في مكانه وحصيلته سمكتان فقط لا غير. شبابٌ لوّنتهم الشمس بسمرةٍ شديدة يفرمون بسكاكين حادة العشب، كمن يفرم البقدونس في شكلٍ ناعم. هم سكان البحر من آل عيتاني الذين ولدوا في جوار صخرة الروشة وكبروا حولها. عثمان عيتاني (36 عاما) يُلقب بـ"النسرِ الطائر" مرة وبـ"حنين" و"بحر" مرات. يأتي صبيحة كل يوم بأعشابٍ من بحر الأوزاعي، يفرمها، ويرميها لجذب الأسماك التي تقترب من بحر عين المريسة. هو أسلوب له أصول، وأكثر من يفهم أصول البحر والصيد هم أولاد البحر. والد عثمان هو علي عيتاني، الرجل الذي ولد من بطن أمه في البحر، في محاذاة صخرة الروشة، ويسكن في كوخ عند أقدام الصخرتين. وهو سكن في طفولته في مغارة محفورة في الصخر حفرها والده بالإزميل والشاكوش. قفز العيتاني الأب عن صخرة الروشة ثماني مرات، ثلاث منها شكّ فيها على رأسه وخمس مرات على قدميه.

آل عيتاني هنا
أولاد علي يقفزون مثله عن صخرة الروشة أما بناته فيخترن الصخور المحاذية الأقل ارتفاعاً ويقفزن من علوّ 17 متراً. بيت عيتاني أبطال القفز دائماً عن صخرة الروشة. رئيس بلدية بيروت من آل عيتاني أيضا وقد طالب بتغيير مخطط تأهيل الكورنيش البحري بعد اعتراض أبناء بيروت عليه، معترفاً بالضرر الذي يُلحقه بصخور كورنيش عين المريسة. ما رأي "أولاد البحر" من بيت عيتاني؟ ينظر أكثر من واحدٍ منهم في عيون الآخر كمن يسمع بأمرٍ ما، للمرة الأولى، فالبحر لهؤلاء حرية ولن يؤطّر حدوده أيّ مشروع.
رحلاتُ البحر، تحت صخرة الروشة، يقودُها بيت عيتاني الذين "قبّعوا ضراسن" في البحر. والفنانون الذين يقومون بأدوارٍ في الفيديو كليب وهم "يشكّون" عن صخرة الروشة يقوم بدورهم مؤدّ بديل هو عثمان عيتاني الذي يُخبر بفخرٍ: "ظهرتُ في فيديو كليب أدهم النابلسي وأيمن زبيب وملحم زين وهو يغني "عندك بحرية يا ريّس" ويستطرد: "كل القصص والحركات على الروشة أنا أفعلها".
أشجارُ البلح تُظلل بعض المطارح وتحمي من شمس تموز. رجلٌ في المقلب الثاني من العمر صنع "حديقته الخاصة" على الرصيف مركزاً مظلة على سيارته ووضع في الصندوق "غاز" وكراسي وغالون مياه وطعاماً ودراجة هوائية وكل ما لذّ وطاب. هو مصوّر صحافي قديم يُدعى شفيق شهاب. عمل في دار الصياد وفي مجلتي الحوادث والشبكة ويتذكر تلك الأيام كثيرا، لا سيما في كل مرة يسرح فيها على الكورنيش المصورون الصحافيون الذين عمل معهم وخصوصا عبد الرزاق السيّد وعبد الرحيم اللاذ. كبر الرجل وأصبح الكورنيش مصدر ذكريات كثيرة تحوم في رأسه.

رشدي أباظة مرّ من هنا
نتابعُ جولتنا على الكورنيش البحري. عائلة ٌ فلشت المناقيش والبندورة والخيار وجلست حولها في "حضرة البحر". رجالٌ يتحلقون على الصخور المحاذية يلعبون "دق ورق". صبايا يركبن الدراجات الهوائية. نساءٌ نزلن للمشي لكن الأحاديث أخذتهنّ من هذه الهواية الرياضية اليومية. سميرة عيتاني، إمرأة كحّلتها الشمس بسمرة غير عادية تبيع السمك الذي تصطاده على الشاطئ وهي قفزت يوم كانت في الثالثة عشرة عن صخرة الروشة وشعرت "أن جلدها سُلخ عن جسمها وأن نيرانا تتدفق فيها". ثمة أصول للقفز عن الصخرة نتعلمها هناك: "يجب ألّا يكون ظهر من ينوي القفز مشدوداً، ويجب أن يقطع النفس ويستقبل المياه بيديه ليحمي وجهه وصدره".
كثيرة ٌ هي أخبار زوار و"سكان" كورنيش عين المريسة عن هذه البقعة المميزة التي يشعر فيها من يقصدها بسكونٍ هائل حتى في قلب الزحمة.
أفلامٌ سينمائية كثيرة صُوّرت على الكورنيش تتذكرها سميرة جداّ وتقول: "شاهدتُ رشدي أباظة وصباح ونور الشريف وبوسي. وشاهدتُ حالات انتحار كثيرة وحالات عشق "لكن ضمن الآداب العامة". فيلم "عودة البطل" مع محمد المولى وفيلم "نساء في خطر" مع فؤاد شرف الدين الذي أدى لقطات كثيرة منها، فيها خطر في البحر، سكان البحر بيت عيتاني. ورئيس البلدية، كما سبق وقلنا، من آل عيتاني. هي صدفة؟ كثير من زوار بحر بيروت يرددون "الكورنيش حلو... اتركوه". قولكم سمعهم رئيس البلدية؟ يسأل رياضي لا يملّ من "السرحان" في المكان والزمان.
رئيس البلدية ليس على الخط. محافظ بيروت ليس هو أيضاً على الخط.
رحلاتٌ بحرية كثيرة تجرى، ليل نهار، في بحر عين المريسة. وهناك وطاويط كثيرة في قلب الصخرة. ثمة من يقصد الروشة أيضاً لشراء وطواط يذبحه ويستخدم دمه مرهماً للبنات يمنع ظهور الشعر في أجسامهنّ. أهالي البحر يبيعون (لمن يشاء) الوطاويط.

ما تقاوم التيار!
حبيبان يلتقطان صورة سيلفي مع البحر. نتابع سيرنا في اتجاه الرملة البيضاء. نسبة التلوث بحسب الدراسات عالية جداً في المكان لكن السبّاحين على مدّ النظر. اللبنانيون ما عاد يخيفهم التلوث حتى ولو كان تصنيفه "ملوث جداً". غريبٌ هو أمر أهل البلد. النرجيلة ضرورية. عائلة وصلت للتوّ حاملة "تشيبس" وربطة خبز وجبنة ونرجيلة. تعليمات المديرية العامة للنقل البري والبحري واضحة "لا تقاوم التيار". يبتسم شاب يقرأ العبارة مردّدا: التيار العوني أو تيار المستقبل؟
نتنفس الصعداء مرات، نتنشق روائح هواء مفعم بمجارير تفوح على الكورنيش البحري من زمانٍ وزمان. البحرُ جميل. البقعة إستثنائية. أغنى أغنياء لبنان يعيشون على طول الساحل البحري، بين الرملة البيضاء وعين المريسة، وأكثر الطبقات فقراً تحاول أن تحجز لها مكاناً بين الفينة والأخرى على الكورنيش البحري. تناقضٌ لم تحطّمه حتى روائح المجارير فهل يتغيّر مع مخطط تطوير كورنيش بيروت البحري؟
بدأ العدّ العكسي مع مشروع "إيدن باي" على شاطئ الرملة البيضاء. والمشروع سيُستكمل بمخطط متكامل، تبدلت بعض تفاصيله إستجابة لصراخ الناس، لكن التغيير، في بلدٍ مثل لبنان، يأتي غالباً على حسابِ الناس! متشائمون؟ التجارب الكثيرة السابقة عززت هذا الميل الى التشاؤم!


25 مليون دولار في البحر...
قبل نحو عقد أو أكثر بقليل، قامت بلدية بيروت بصيانة كورنيش عين المريسة، فرصفت الطريق ونفذت عدداً من المقاعد الجميلة المرصّعة بلعبة "الداما" التي يهواها الشباب، وبات "الكورنيش" يليق برواده. وبلغت الكلفة 12 مليون دولار أميركي. أما اليوم، فتستعدّ بيروت لتستقبل مخططاً جديداً "لواجهتها البحرية" بقيمة 25 مليون دولار أميركي. ليست قيمة المبلغ هي التي أثارت حفيظة سكان العاصمة ورواد الكورنيش بل جملة ملاحظات هي:
- يقضي المخطط على جمال الشاطئ الطبيعي.
- يتضمن إضافة رصيف جديد عبارة عن نتوء من الرصيف الحالي وهو يغطي معظم الصخور الجميلة.
- يستند الرصيف الجديد على أعمدة باطون تخرق الصخور وتشوّهها وتؤدي الى هلاك الثروة السمكية.
- المساحة المستحدثة تحت الرصيف هي ملجأ للإستخدام كبيت خلاء لعدم وجود أي مراحيض عامة مخطط لها.
- يمكن ان تصبح المساحة الجديدة، غير المرئية من المخطط، ملجأ آمناً لمتعاطي المخدرات والدعارة والأعمال المخلة بالأمن والأخلاق.
- شاطئ عين المريسة هو آخر شاطئ صخري في مدينة بيروت.

"تبليط البحر"
- يهدف المشروع الى توسيع ساحة عبد الناصر في عين المريسة، في اتجاه البحر، بمساحة 60 متراً مربعاً، وهو على شكل مدرّجات فوق الصخور وبعمق نحو سبعة أمتار، على أن ترفع هذه البقعة المُضافة على أعمدة فوق الصخور.


MISS 3