نوال نصر

45 دقيقة زمنية بين بيروت وعمّان

ليلة في جادة رفيق بهاء الدين الحريري

10 كانون الأول 2019

02 : 00

من يُغادر يعرف عنه أكثر! يعرف أن وطنه قد لا يكون دائماً وطناً!

رحلة ٌ من مطار رفيق الحريري الدولي وإليه في مثلِ هذه الأيام، ولو ليومٍ واحد أو يومين، تمنح المسافر بعض الأوكسيجين. الضجيج عالٍ. أعمال وإنشاءات وأشغال تزيد المسافرين، القلائل، الهاربين من ضجيج الوقائع اللبنانية والتكهنات بمرحلة ضاجة بالإحتمالات السوداء سوداوية. صرف العملات توقف. الصرافون يطلبون من المسافرين صرف عملاتهم، بعد تشرين، خارج حرم المطار. المنطقة الحرّة مليئة بالعمال الذين يُجهزون صالة جديدة. تفاؤل؟ هو وقت ضائع تنشغل فيه المؤسسات بأشياء كثيرة فيما المطلوب واحد: الثقة.

زينة المطار متواضعة. كرات ذهبية تُذكّر العابر في حرمِ المطار أننا دخلنا زمن الأعياد. الدولار في المطار بسعرهِ الرسمي: 1515 ليرة. نشتري؟ نحتفظ بالقرش الأبيض الى هذه الأيام السوداء؟ الدخان موجود. المدمنون على التدخين سيبتسمون في المنطقة الحرّة كثيراً. الدخان مطلب غالبيّة اللبنانيين على قاعدة: نفّخ عليها تنجلي. المنطقة الحرّة تعرض الكثير من العروضات "الأوفرات": مع كل كروزين من التنباك المعسل ثالث مجاني. ويمكن للمسافر أن يحمل خمسة كروزات من الدخان بدل إثنين أو ثلاثة. المنطقة الحرّة تعاني هي أيضاً من الشحّ في المبيعات بعدما تدنى عدد المسافرين من والى مطار بيروت الدولي في الشهرين الماضيين.

العروضات كثيرة لكن المبيعات قليلة. إنترنت أوجيرو "عال العال". لا ضغط على الإنترنت. محال أقفلت ومحال أخذت مكان محال. "مفتاح الشرق" انتقل من ممر المسافرين الى صدر المنطقة الحرّة وكل ما هو معروض فيه يتضمن الكثير من مشاعر الثورة. أكواب مزدانة برسومات العلم اللبناني وكلمات: ثورة. شعب. ثورة شعب. إنتفاضة. لبنان. الأرز. تنورين. بعلبك... هي أجمل الهدايا الآن من لبنان، لبنان الثورة، ثورة 17 تشرين.

نحن في زمن أعياد لكن من يُسأل عن العيد المجيد، عن "هيصة" العيد في المطار، سيطلب إعادة الصياغة على قاعدة: عيد عيد... علّه يجدُ جواباً! العيدُ أحاسيس وأجواء والأجواء تخلق مشاعر والمشاعر في هذه الأيام عدم.

لا يجتمع إثنان إلا وتكون الثورة ثالثهما. وحين يحاول أن يشيح أحدهم بناظريه ويصمّ أذنيه عن مشاحنات "المغادرين" يصطدم بشعارٍ قديم متجدد: "الحضارة مش للتجارة... ما تكون طرف بسرقة أو تعاطي تجارة الآثار". شعارٌ مرفوع منذ أشهر في حرم المطار عن سرقة في بلاد السرقات والسمسرات والفساد. الشعارُ ما عاد حدثاً والتحذير ما عاد مجدياً. نشتري قنينة مياه معدنية "وطنية" صغيرة بخمسة آلاف ليرة لبنانية ونمضي.

45 دقيقة هي المسافة الفاصلة على خطوط طيران الشرق الأوسط الى عمان. نهبطُ هناك كدويك النازل الى المدينة. ثمة أناس يقفون أمام أجهزة "الصيرفة الآلية" ويسحبون ما يحتاجون إليه من مال. مشهدٌ كدنا ننساه. نبتسم لهم ونتابع. زحمة سيرٍ كثيفة. الأردنيون يخرجون الى السهر في الويك أند. مشهد آخر كدنا ننساه. نحاول أن نُغمض أعيننا قليلاً غير أن سؤال إحداهنّ عن سبب وقوف الأمن الأردني، كما صفّ العسكر، في عيد الإستقلال دفعنا أن نُصغي باهتمام: هنا تظاهرة أساتذة. مشهدٌ أعادنا بالعقل والقلب والقلق الى لبنان.

نسرحُ في الأردن. نمرُ من أمام مصرف عودة. نمرُ من أمام بنك سوسييته جنرال. نتذكر كلّ الإعلانات التي تُخبرنا عن أن "المصرف دوماً حدنا". نحاول أن نسحب من حسابنا في "سوسييته- لبنان"، من الصراف الآلي الأردني، فتأتينا الإجابة سريعة: Refused. الأبواب تقفل في وجوهنا. نتابع السير. بولفار عمان الذي افتتح قبل أعوام في حضور الملك عبدالله الثاني والشيخ بهاء الحريري يخفق حياة. العام الماضي لم يكن كما هو الآن. وهناك، في الطريق الى البولفار، جادة باسم رفيق بهاء الدين الحريري. كأننا في لبنان. داون تاون واسم رفيق الحريري. الأسواق زُينت في العيد. والأمن شديد جداً. هذه حال الأردن منذ أعوام كثيرة. الإجراءات لا تهاون فيها. وحتى الداخلين الى الأسواق يُفتشون. والأردنيون يسألوننا بحفاوة، على غير عاداتهم مع سوانا: لبنانيون؟ ويستتبعون السؤال بعبارة: الله يبارك فيكم وبثورتكم. صاحب محل زعتر أردني يبتسم حين يرى ثلاثة أو أربعة لبنانيين اجتمعوا مردداً: شو عمتتظاهروا؟

نعود الى بيروت. المدينة الجميلة حزينة. والعائدون يعودون الى واقعهم، الى لبنانهم، الى ثورة يأملون أن تُثمر وطناً. والتاكسي، في الخارج، يتذمر بلا سؤال مردداً: الله يلعن هالبلد وساعتو! ثم يعود ويتنبه الى وصولنا للتوّ مستدركاً: الحمد لله على وصولكم بالسلامة!


MISS 3