خالد أبو شقرا

مستقلّة في النصوص ومرتهنة في النفوس

لجنة الرقابة على المصارف "طائر مقيّد الجناحين" أعجز من التحليق بالقطاع المصرفي

12 أيلول 2022

02 : 00

تُمثل هيكلة المصارف «حجر الزاوية» الاول في إعادة بناء الاقتصاد. عبثاً تُعد القوانين الاصلاحية، سواء أقرّت أو علّقت، من دون تحديد الخسائر الحقيقية في البنوك، ومعرفة القابل منها للاستمرار من عدمه. إلا أن هذه العملية المفصلية بالغة التعقيد. وعدا عن ارتباطها المباشر بسياسيين موجودين في موقع القرار، وتهديدها باقصائهم عن الساحتين المالية والنقدية، فهي توكل إلى هيئات مستقلة في الشكل، ومرتهنة بالمضمون للجهات السياسية نفسها. هذا إن لم نقل تغطية هذه الهيئات، زلّة او عمداً، لكل المخالفات التي ارتكبت في القطاع المصرفي، وعدم قيامها بدورها الرقابي المفصلي.

بحسب قانون النقد والتسليف تضطلع 3 جهات أساسية بعملية إعادة هيكلة القطاع المصرفي وهي: الهيئة المصرفية العليا، لجنة الرقابة على المصارف والمؤسسة الوطنية لضمان الودائع. الاسماء الرنانة لهذه الهيئات تخفي وراءها علاقة مصلحية معقدة مع الطبقة السياسية، مصرف لبنان، والمصارف التجارية. أي، الجهات نفسها التي تسببت بالانهيار الاقتصادي. وعليه يجوز السؤال: كيف توكل مهمة إعادة هيكلة المصارف إلى هيئات غير مستقلة، ومكبلة اليدين بالمصالح السياسية الضيقة، ومشارِكة بتفاقم الازمة نتيجة عدم القيام بالدور المنوط بها طيلة الفترة الماضية.ِ

هيكلية اللجنة

بحسب قانون النقد والتسليف تعود مهمة الرقابة على المصارف إلى المادة 148 تاريخ 1/8/1963، والتي أقرّت: «يعهد بالرقابة على المصارف الى دائرة في المصرف المركزي منفصلة ومستقلة تماماً عن بقية دوائره ومرتبطة مباشرة بالحاكم». هذه المادة عدلت في العام 1985 بحيث أصبحت كالتالي: «تنشأ لدى مصرف لبنان لجنة مستقلة للرقابة على المصارف غير خاضعة في ممارسة اعمالها لسلطة المصرف، وترتبط بها دائرة الرقابة المنصوص عليها في المادة 148 من قانون النقد والتسليف». تؤلف اللجنة من خمسة اعضاء يعينون بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير المالية ولمدة 5 سنوات. لكن تبعاً للواقع تنسحب المحسوبيات السياسية على هذه اللجنة حيث ترتبط عادة تسمية رئيس اللجنة السني، بالفريق الاقوى أو برئيس الحكومة. كما تتمثل المصارف بعضو تسمّيه جمعيتها، وآخر تقترحه مؤسسة ضمان الودائع المشكّلة من المصارف والتي يرأسها الحاكم بحد ذاته. وعلى هذا الاساس تشكلت اللجنة الاخيرة للرقابة على المصارف في 10 حزيران 2020 كما يلي: مايا دباغ رئيسة اللجنة، وعضوية كل من: كامل وزني، وجوزف فؤاد حداد، مروان مخايل، وعادل دريق.



مارغريتا شامي



الدور المحوري للجنة يفترض أقصى درجات الشفافية

بالاضافة إلى مهمة «اللجنة» في «التحقق من حسن تطبيق النظام المصرفي والتدقيق الدوري على جميع المصارف»، يحق لها أن «تضع لأي مصرف برنامجاً لتحسين أوضاعه، وضبط نفقاته، وأن توصيه بالتقيد به». وعليه ستلعب دوراً بالغ الاهمية في عملية اعادة الهيكلة المنتظرة، «التي ترتكز مسودتها على تقييم أو تحديد صافي قيمة الاصول «Net assets value» لكل مصرف على حدة»، بحسب الباحثة والمستشارة المالية مارغريتا شامي. وقبل الانطلاق باعادة الهيكلة على كل مصرف أن يقدم خطة عمل تظهر كيف يمكن له أن يحسن أوضاعه، ويكون مطابقاً لشروط الاستمرار انطلاقاً من تقييمين أساسيين:

الاول، إن كان باستطاعة المصرف تسديد الودائع عند استحقاقها.

الثاني، قدرة المصرف على تطبيق المعايير المحاسبية الدولية مثل IFRS9... وغيرها من متطلبات «بازل».

إن استطاع المصرف إثبات قدرته على تطبيق الشرطين يعفى من إعادة الهيكلة. إلا أنه بحسب الشامي «من المستحيل على أي مصرف عامل في لبنان تلبية هذين الشرطين، إلا من خلال هندسات غير دقيقة تظهر فائضاً كبيراً في الاصول مقابل الالتزامات». ومن يحدد قيمة هذه الاصول هي لجنة الرقابة على المصارف. وباستطاعة اللجنة بسهولة نفخ هذه الاصول بطريقة دفترية غير حقيقية. وبالتالي إظهار قيمة مضخمة جداً للاصول. وذلك على غرار ما حصل بعد تعميم مصرف لبنان أواسط العام 2020، (راجع مقال «المركزي» يُهدي البنوك ما «يُسمّن» ولكن لا يُغني عن جوع تاريخ 27 حزيران 2020)، وسماحه وقتذاك للبنوك باعادة تقييم أصولها من أبنية وعقارات، وأكثر من 1000 فرع، 75 في المئة منها ملكها، بحسب القيمة السوقية الحالية. ما يعني إعادة تضخيم الاصول وزيادة قيمتها الدفترية لمبلغ قد يصل إلى 40 أو 50 مليار دولار. في حين أن التقييم الجدي يفترض بحسب الشامي «احتساب الاصول بقيمها الحقيقية؛ كأن يحتسب سعر سند «اليوربوندز» بـ 7 سنتات للدولار، وتحديد قيمة شهادات الايداع CDS بقيمتها الحقيقية أيضاً».



د. محمد فحيلي



تخطي «اللجنة»


المفارقة أن «عملية إعادة هيكلة القطاع المصرفي انطلقت فعلياً مع التعميم الاساسي الصادر عن مصرف لبنان تحت الرقم 154»، يقول خبير المخاطر المصرفية د. محمد فحيلي. «حيث يظهر أن التعميم بمجمل مواده هو مشروع إعادة هيكلة». هذا التخطي لحدود وصلاحيات لجنة الرقابة على المصارف، المفترض أن تكون مستقلة، أدى إلى تباين الآراء بينها وبين المركزي. فما كان من الحاكم إلا أن شكل لجنة برئاسة نائبه بشير يقظان وعضوية لجنة الرقابة... وغيرها من الهيئات لمتابعة الملف. «لكن هذه اللجنة لم تستطع لغاية اللحظة التوصل إلى أي نتيجة، لان التعميم 154 ولد ميتا أولاً، ولوجود تباين وعدم تناغم بين لجنة الرقابة ومصرف لبنان. وهو ما بدا جلياً باستقالة عضو اللجنة مروان مخايل».

المصلحة بـ»اللاصلاح»


هذا الواقع يقود إلى سؤال أساسي، هل عرقلة إعادة الهيكلة مرتبطة برفض الحاكم لتصفية أي بنك! ولا سيما أنه سبق وأكد في أحد تصريحاته أن إفلاس البنوك لا يخدم أحداً، خصوصاً المودعين الذين سيعجزون عن الوصول إلى أموالهم. هذا العذر الذي ساقه الحاكم «غير مبرر»، من وجهة نظر فحيلي، نظراً لكون المركزي هو من يؤمن سيولة المصارف، ويستطيع الاستمرار بالعملية نفسها بعد التخلص من البنوك المتعثرة أو الرديئة. الأمر الذي يزيدنا قناعة بان هناك ضغوطات سياسية كبيرة لعدم اخذ أي خطوة باتجاه هيكلة القطاع المصرفي». في المقابل حتى لو افترضنا إمكانية تذليل العقبات السياسية، فان «لجنة الرقابة على المصارف غير قادرة على الاضطلاع بالدور المطلوب استناداً إلى تركيبتها أولاً، وتاريخها ثانياً»، بحسب فحيلي. و»قد فُقدت الثقة باللجنة بعد العام 2014 عندما لم تلعب دورها بحماية القطاع المصرفي، وتخلت عن حماية رئيس الجمعية فرنسوا باسيل لمعارضته الاستمرار باقراض الدولة ومطالبته رئيس مجلس النواب ايقاف تشريع الاستدانة لانها أصبحت كبيرة، وأدت إلى تركيز التوظيف بالسندات السيادية. فصمتت اللجنة، ووقفت على الحياد في حين أن مسؤوليتها كانت تقتضي التدخل والدفاع عن القطاع المصرفي. ففقدت استقلاليتها وانصاعت لتلبية طلبات الطبقة السياسية».



المحامي عماد الخازن



التركيبة الهشة

«لو أن لجنة الرقابة على المصارف قامت بدورها الذي يقتضي السهر على سلامة القطاع المصرفي، لما وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم «، يؤكد المحامي المتخصص في الشأن المصرفي عماد الخازن. «وإذا وضعنا كل الاعتبارات الرقابية جانباً، فمن المستحيل في ظل وصول نسبة الفوائد إلى 20 في المئة ألا تكون اللجنة قد انتهبت إلى أن شيئاً خاطئاً يحصل في القطاع، وأننا سائرون حتماً باتجاه أزمة قاتلة».

المشكلة بحسب الخازن ترتبط بعدم استقلالية اللجنة وضعف صلاحياتها في آن معاً، وهذا ما يظهر واضحاً في العوامل التالية:

- القانون الذي أنشأ لجنة الرقابة على المصارف حصر مهمتها بالحسابات الدائنة وليس المدينة. إذ تستطيع الاطلاع على حسابات المقترضين ومدى تقيد البنوك بقواعد العمل المصرفي، ولكنها لا تستطيع الولوج إلى الحسابات الدائنة، أي حسابات المودعين، في حين يجب عليها الاطلاع على كل الحسابات دون استثناء.

- يقتصر دورها على إصدار التقارير والتوصيات ورفعها إلى الجهات المعنية مثل مجلس الحاكمية، الهيئة المصرفية العليا... ولا سلطة عقابية لها بشكل مباشر.

- تعرّف اللجنة بالمستقلة، لكن اعضاءها الخمسة يعيّنهم مجلس الوزراء من ضمن المحاصصات الطائفية.

- يمول مصرف لبنان كل نفقاتها ويسدد رواتب أعضائها.

- قرار محاسبة أعضاء اللجنة عن أي تقصير أو خلل يعود إلى الحاكم، وبيده رفع التقرير بحق المقصرين أو المخالفين من الاعضاء إلى مجلس الوزراء.

وعليه يبقى أعضاء اللجنة مرهونين لمشيئة الحاكم وفقاً لآلية الثواب والعقاب، ولمن عيّنهم من مسؤولي الطوائف»، يقول الخازن، فأي دور رقابي على المصارف ينتظر منهم؟!

إذا سلمنا جدلاً بعدم قدرة اللجنة على اكتشاف الخلل في القطاع المصرفي وحتمية الوصول إلى الانهيار، فهي لم تقم حتى بأبسط مهامها حالياً. وهذا ما برز برأي الخازن بشكل فاقع خلال أعوام الأزمة الاخيرة من خلال:

- عدم ملاحقة المصارف على خلفية الاستنسابية في تطبيق قانون الدولار الطالبي.

- غض النظر عن تجاوزات المصارف الفاضحة في تطبيق التعميم 161.

- السكوت عن رفض المصارف قبول الشيكات رغم وجود تعميم يحذر عليها ذلك.

- التعتيم الكامل عن كل ما يجري في القطاع المصرفي.

- عدم تفعيل موقع اللجنة الالكتروني ونشر التقارير والاخبار عليه كما تقتضي الشفافية وحرية الوصول إلى المعلومات المصانة بالقوانين.

- القيام بأوسع علمية توظيف بعد الازمة. حيث وظفت اللجنة العشرات كخبراء ومهندسين مدنيين ومستشارين للقيام بالاعمال. واقتصر عملهم على تخمين العقارات وإعطاء إفادات آداء العوض.

- ولتكتمل التجاوزات، أنشأ حاكم مصرف لبنان دائرة خاصة في اللجنة مسؤوليتها حماية المستهلك. وبدلاً من أن «تكحل» هذه الدائرة دور اللجنة بمتابعة الملفات ومشاكل المودعين، «أعمتها» بعدم القيام بأي دور بسيط كالاجابة على الشكاوى والرد على الاسئلة.

على الرغم من آراء البعض بضرورة الاستعانة بشركة أجنبية متخصصة في عمليات إعادة هيكلة البنوك بدلاً من لجنة الرقابة على المصارف، يرى فحيلي أن مشكلة لبنان في الأفراد وليس المؤسسات، وبتوسع مفهوم «الرديف» السرطاني، مكان الاصيل. فيحيل المجلس الاعلى للدفاع، مكان مجلس الوزراء، ومجلس الانماء والاعمار، مكان وزارة الاشغال، وقاضي تحقيق رديف، مكان قاضي التحقيق العدلي الاصيل... وعد على شاكلتها من تجاوزات خطيرة تؤسس لتفريغ البلد من مؤسساته الاساسية. وبدلاً من الاستعانة بالخارج فلنحصن الهيئات بأفراد مستقلين وسلطات صحيحة للقيام بدورها، وهذا ينسحب أيضاً على دور لجنة الرقابة على المصارف.


MISS 3