خالد أبو شقرا

مثال: قيمة المرفأ وحده ترتفع من 8 إلى 50 مليار دولار

خوري: خلق القيمة من أصول الدولة يرد الودائع لأصحابها

26 أيلول 2022

02 : 00

رائد خوري

تحت عنوان «إصلاح القطاع المالي»، تبدأ الخطة الاقتصادية للحكومة بالاشارة إلى عدم إمكانية مصرف لبنان إعادة مجمل الودائع بالعملة الاجنبية للبنوك والبالغة 72 مليار دولار. وبالتالي، لا يمكن للبنوك أن تعيد معظم أموال مودعيها في الوقت الذي يطلبونها، وبالعملة ذاتها. هذا هو «بيت القصيد» الذي يلخص غاية الخطة، مهما تبعه من «شطور» تعد بـ»منّ» الاصلاحات والتعافي و»سلوى» استرداد الودائع بعد آجال غير محددة. من الواضح أن المصارف غير مقتنعة بهذا الطرح الذي يتكرر منذ خطة «لازارد» (علما بأن تلك الخطة كانت تضمن حقوق 98% من المودعين)، ولو أن الطرح مغلف هذه المرة بـ»قشرة» صندوق استرداد الودائع. والمصارف تنطلق برفضها لمثل هذه الطروحات من عنوانين رئيسيين:

الأول مبدئي برأيها، ويتعلق بان مسؤولية إعادة الودائع تقع على عاتق الجهة المقترضة، أي الدولة بواسطة المصرف المركزي. وسبق وعبر أمين عام جميعة المصارف السابق د.مكرم صادر بوضوح خلال رسالة مطولة بان تعاميم مصرف لبنان وسياساته أجبرت البنوك بالتهديد، وليس فقط بالوعيد، على توظيف الجزء الاكبر من ودائعها بالمصرف المركزي، لكي يتسنى له الاستمرار بتمويل الدولة الفاشلة وتثبيت سعر الصرف. وفي حال تحملت الدولة المسؤولية الأساسية تستطيع المصارف بسهولة إرجاع الودائع لأصحابها من خلال حسن إدارة المرافق العامة وزيادة انتاجيتها. وبالتالي تحل المشكلة من دون أن يخسر أحد.

الثاني علمي، وينطلق من أن شطب الودائع سيفلس المصارف ويقضي على حظوظ المودعين باستعادة ودائعهم. الامر الذي من شأنه فقدان الثقة كلياً بالنظام المصرفي اللبناني من الداخل والخارج. وبالتالي ضرب مقومات استعادة الاقتصاد عافيته.

إسترداد الودائع «سمك بالبحر»


سبب آخر يضيفه وزير الاقتصاد السابق والمصرفي رائد خوري ويتمثل في «غياب الجدية عن الخطط المقترحة، وعدم إيحائها بالثقة». وهذا لا يتعلق فقط بالشق المتعلق باستراتيجية النهوض بالقطاع المالي، إنما أيضاً في كيفية تناول برامج الاصلاح الاقتصادية والمالية. أي تلك المتعلقة بتفعيل القطاعات الانتاجية وحماية المرافق الصحية والتعليمية، وصون الاستثمارات وتخفيض العجوزات، ولا سيما في ميزاني التجارة والمدفوعات. فلا تلبث أن «تصدر خطة تتوافق عليها أغلبية مكونات الحكومة، حتى يعاد نقضها وإدخال تعديلات جديدة عليها»، يضيف خوري. ومن أبرز هذه التعديلات وأخطرها إنشاء صندوق استرداد الودائع لتغطية الودائع التي تفوق 100 ألف دولار. يمول الصندوق من عدة مصادر، منها: بعض الايرادات المستقبلية من المؤسسات العامة التي يديرها القطاع الخاص. وذلك بعد تحقيق استدامة الدين وضمان الابقاء على مستوى لائق للانفاق الاجتماعي والبنى التحتية. ومن ايرادات الاموال المسروقة والمهربة وغير المشروعة. ويحول اليه أيضاً جزء من أصول البنوك، بما في ذلك إيداعاتها وشهادات الايداع في البنك المركزي. كما تخول حقوق مصرف لبنان المكفولة (warrants) الصندوق الاستفادة من إيرادات الاموال المسروقة والمهربة وغير المشروعة... أي باختصار يعد المودعين بـ «سمك بالبحر» برأي خوري. هذا عدا عن أن تقسيم الودائع إلى «مؤهلة» و»غير مؤهلة» والوعد بالتعويض على أصحابها غير منطقي. فالاموال المطلوبة لتغطية 100 ألف دولار من الوديعة، والبالغة حوالى 26 مليار دولار، غير موجودة الآن ويعول على سدادها من البنوك القابلة للاستمرار بعد رسملتها وفق قانون لاعادة هيكلة القطاع المصرفي.

حلول من خارج الصندوق

قد يكون من المفهوم اللجوء إلى مثل هذه الحلول «لو كانت الدولة مفلسة، أو لا تمتلك الموارد الكافية لتغطية ديونها»، يقول خوري. «أمّا وأنها قادرة، فان عدم إرجاع الحقوق لاصحابها يعتبر خطيئة. فادارة الدولة لأصولها بكفاءة وتشغيل مرافقها العامة بفعالية وتوسيع الامتيازات وحسن إدارتها تؤمن مبالغ طائلة، لا تكفي فقط لاعادة الحقوق لاصحابها، إنما أيضاً للتعويض على كل المواطنين بأضعاف مضاعفة. وتعطيها في المقابل القدرة على التوسع بالخدمات الاجتماعية سواء كانت صحية أو تعليمية وتحقيق النمو والتنمية في الاقتصاد على حد سواء».

ففي علم الاقتصاد والادارة هناك ما يعرف بـ «خلق القيمة value creation «، برأي خوري. و»هذه الطريقة مطلوب اللجوء إليها حتى ولو لم يكن هناك أزمة وافلاسات. فمن غير الصحي ولا المنطقي أن يكون هناك موارد قيّمة غير مستغلة، أو غير مطوّرة في الدولة. بيد أن هذا الحل لا يستقيم إذا بقيت المؤسسات الاساسية والكبيرة في يد الدولة. إذ سيبقى المردود منها متدنياً جداً، وتبقى مرتعاً للفساد والهدر وقلة الكفاءة في الادارة والتوظيف السياسي والصفقات العامة والمحسوبيات التي يستفيد منها البعض على حساب كل المواطنين. من هنا يجب خلق قيمة من هذه المرافق».

و»لكي لا نبقى في الاطار النظري سنأخذ مثلاً واحداً من خارج الصندوق outside the box هو المرفأ»، بحسب خوري، و»هو مثال من عشرات، إن لم يكن مئات الامثلة التي يمكن أن تشكل حلاً لتعزيز إيرادات الدولة والتعويض على المودعين في الوقت نفسه». فقيمة المرفأ اليوم بالقياس إلى حجمه والاراضي التابعة له والمنشآت القائمة عليه تساوي 8 مليارات دولار على أكثر تقدير، إنما في حال تأهيله وتحويله إلى منطقة تجارية وسياحية متقدمة على شاطئ المتوسط، وزيادة مساحته، وإدارته من القطاع الخاص... ترتفع قيمته إلى 50 مليار دولار. وعليه إذا خصخصت الدولة 49 في المئة منه بطريقة شفافة، وإدارة سليمة مع حوكمة، ترتفع حصتها إلى 25 ملياراً في ظل نسبة 51 في المئة، بدلا من 8 مليارات دولار وهي تملك نسبة 100 في المئة. وبالتالي يوضع الفرق في صندوق التعويض على المودعين، والباقي تستفيد منه الدولة لتعزيز خدماتها. أليس هذا الحل أفضل للاقتصاد والخدمات وزيادة الايرادات؟ وعلى هذه الشاكلة أمثلة في المطار، والواجهة البحرية، والعقارات الجبلية، ومؤسسات الخلوي والكهرباء.... وغيرها الكثير.

التفاوض مع الصندوق بطريقة مختلفة

اللجوء إلى مثل هذه الحلول لا يعيق الاتفاق مع صندوق النقد الدولي كما يروج البعض. فجل ما يهم الاخير هو استعادة أمواله لانه في نهاية المطاف يعتبر مصرفاً. و»أمواله تكون مضمونة أكثر في هذه الطريقة، من اللجوء إلى شطب الودائع وإرجاعها على أساس قيم غير حقيقية»، بحسب خوري. و»بالتالي تأخير نمو الاقتصاد واستعادته عافيته، وعدم ضمان زيادة إيرادات الدولة من الضرائب والرسوم نتيجة الانكماش الذي سيستحكم في الاقتصاد». هذه المقاربة التي تؤمن ما يعرف بـمعادلة رابح – رابح، للدولة والمواطن والمودع والمؤسسات العامة والخاصة، لا تخدم المنظومة التي يهمها إبقاء المؤسسات في يد الدولة لضمان توظيفاتها السياسية وحماية صفقاتها. فـ»لا يوجد بلد متطور واحد في العالم تدير فيه الدولة المؤسسات الخدماتية والانتاجية»، من وجهة نظر خوري. «حتى أن الشرطة في الولايات المتحدة الاميركية أصبح جزء منها خاصاً. وقد قدمت تجارب البلدان بالبراهين الاكيدة أن الدولة عاجزة عن الادارة. مع ضرورة التفريق هنا بين الدولة والبلد. فما يهمنا نحن في النهاية هو مستقبل البلد وليس الدولة التي تشكل جزءاً من البلد».

أزمة لبنان «غير»!

الاكيد أن «هناك مشكلة لبنانية في التفاوض مع صندوق النقد الدولي. وهناك عجز واضح في إيصال الفكرة والمنطق من كيفية استعمال اصول الدولة للخروج من الازمة لتحقيق النمو والتعويض على المودعين». برأي خوري. فـ»خشية صندوق النقد هي من أن يعيق تخصيص أصول الدولة قدرتها على خدمة دينها بسبب نقص مواردها المحتمل. إلا أن الجواب في خلق القيمة والادارة السليمة. وعليه يجب على المفاوضين التفكير «أبعد من أنوفهم». لان صندوق النقد في نهاية المطاف هو مؤسسة بيروقراطية كبيرة لديها وصفة واحدة يستخدمها في مختلف البلدان. إنما الفرق أن لبنان أزمته مختلفة عن كل البلدان باعتراف الصندوق نفسه. وعليه فان احترام هاجس الصندوق لا يجب أن يمنع من التفاوض معه بمنطق وعقلانية ومن منطلق القوة لا الضعف».

خسارة الرساميل باتت أمراً واقعاً

التسويق بان استعمال أصول الدولة بطريقة عقلانية هو لانقاذ المصارف فقط يجافي الحقيقة كما يؤكد رائد خوري. فالمصارف سبق لها وتحملت الخسارة من رساميلها وقدمتها بملياراتها العشرين على مذبح الازمة، ولم يبق لها إلا زبائنها. ومع هذه الخطة التي تفلس المودعين لن يبقى لها شيء. وبالتالي لا يعود لها وجود. وبرأي خوري أن مصلحة المصارف هي في الدفاع عن المودع لانه مبرر وجودها. كما أنه من غير المنطقي عدم التنسيق والوقوف على رأي المصارف في خطط التعافي خصوصاً أنها محور هذه الخطط.

قوة قهرية وأزمة نظامية

في النهاية، الأزمة التي يتخبط فيها لبنان بشكل تصاعدي هي، برأي رائد خوري، ثمار سياسة الدولة المتلهية بالقشور بدلاً من معالجة لب المشكلة. وعدا عن فشلها في تنفيذ الاصلاحات، فهي «تحفر قبرها بيدها» من خلال الخضوع لخطط واملاءات ستزيد الانكماش وتعمق الفقر و»تهشل» ما تبقى من استثمارات. ومن الضروري التذكير بحسب خوري بان «هذه الازمة نتيجة قوة قهرية force majeure، وخطر نظامي systematic risk. وأبرز دليل على ذلك برأيه تعثر كل البنوك، وعدم اقتصار الامر على واحد أو أثنين أوحتى ثلاثة. وعليه فان المعالجات يجب أن تبدأ بالدولة وتتدرج نزولا إلى المصارف ومن ثم المودعين. وعلى كل طرف أن يتحمل جزءاً من هذه الخسارات بحسب مسؤوليته. وبما أن الدولة هي المسؤولة الاكبر يجب عليها أن تتحمل الحصة الاكبر.