جاد حداد

A Jazzman's Blues... عودة إلى زمن العنصرية

30 أيلول 2022

02 : 01

في اللقطة الأولى من فيلم A Jazzman’s Blues (موسيقى رجل الجاز الحزينة)، وهو أحدث عمل لتايلر بيري، تشاهد امرأة سوداء خطاباً سياسياً متلفزاً يلقيه مدعي عام "هوبويل"، في جورجيا، حيث يزدري بالآراء العنصرية. سرعان ما تقصد المرأة مكتب ذلك الرجل وهي تحمل كومة من الرسائل. فيقول لها المسؤول البيروقراطي وهو في ذهول تام: "هل تريدين مني أن أحقق في جريمة قتل حصلت منذ أكثر من أربعين سنة"؟ ثم نعود بالزمن إلى مجتمع ريفي يطغى عليه أصحاب البشرة السوداء في العام 1937 وتسود فيه أجواء تعيسة بامتياز.

ينحدر الشاب الحساس والمتردد "بايو" (جوشوا بون) من عائلة موسيقيين متجولين، حيث يكرر الأب العبارة التالية: "على هذا الفتى أن يتعلم التعامل بصرامة مع الآخرين في مرحلة معينة"! يتعرض "بايو" للازدراء من والده وشقيقه "ويلي إيرل" (أوستن سكوت) لأنه يجيد الغناء لكنه لا يتقن العزف. يسهل أن نلاحظ وجود عداوة ضمنية بين الشقيقين. سرعان ما يبتسم الحظ لـ"بايو" حين تظهر "ليان" (سوليا فايفر) في حياته، وهي شابة منبوذة لأسباب أخرى. يعيش الاثنان حباً سرياً لفترة قصيرة وتُعلّمه القراءة في مرحلة معينة من علاقتهما. لكن تعود والدتها الجشعة وتبعدها عنه، فترسل الفتاة إلى الشمال وتُزوّجها لشاب قوقازي ميسور (يسهل أن يعتبرها الناس بيضاء لأن بشرتها فاتحة اللون). ثم يتجدد اللقاء بين "بايو" و"ليان" في العام 1947، فيتساءل عضو في جماعة "ليان" الجديدة عن "مشكلة الزنوج في هذا المكان" عندما لا يتردد "بايو" في الجلوس في مطبخ عائلة بيضاء. فيجيب ممثل عن وكالة محلية لإنفاذ القانون: "نحن نوقفهم عند حدّهم".

بعد سلسلة من التحولات والتقلبات في الأحداث وتجدد الحب بين "بايو" و"ليان" في أجواء غير سرية بما يكفي، تبذل والدة "ليان" قصارى جهدها لجعله يُشنَق. وعندما تشتد المخاطر المحدقة به، يضطر "بايو" للهرب إلى الشمال، مع أنه كان يبلي حسناً في حانة تديرها الأم "هاتي ماي". مع مرور الوقت، يبدأ بايو بجني الأرباح من الغناء. هو "رجل الجاز" الذي يذكره عنوان الفيلم، لكنّ نجاحه كمغنّ لا يعوّض عن ألمه بعد خسارة حب حياته. سرعان ما يتصاعد التوتر بينه وبين عازف البوق "ويلي إيرل"، لا سيما حين يبدأ هذا الأخير بتعاطي الهيروين. ثم تظهر مشكلة متعلقة بطفل غير متوقع وزيارة مشؤومة في بلدته الأم.

يحافظ الإخراج على أسلوب سلس ومحتدم في معظم الأوقات (مع أنه يحمل تشابكات غريبة أحياناً، مثل الولادة التي تتداخل مع رقصة "أدغال" في أحد النوادي الليلية)، لكن يصيب بيري الهدف في مشاهد كثيرة، لا سيما مع ظهور يهودي أبيض البشرة كان قد هرب من محرقة اليهود. كذلك، يطرح بيري عدداً كبيراً من الملاحظات الدقيقة حول الخلفية النفسية لمظاهر العنصرية. يحمل أحد المشاهد وقعاً صاخباً، حيث تقوم "ليان" التي تعيش حياة النساء البيضاوات بتوبيخ خادمة سوداء. سرعان ما يَعْلَق الحبيبان المشؤومان في دوامة العنصرية الأميركية ويتوقف وجودهما على رغبتهما في الهرب. قد يُعتبر الهرب مفهوماً رومانسياً، ويحمل هذا الفيلم جوانب رومانسية خاصة به طبعاً. لكن وراء هذه الأجواء الساحرة على وقع موسيقى تصويرية مثيرة من توقيع آرون زيغمان، وفي عمق العالم الحالم الذي يعرضه مدير التصوير بريت باولاك، يكمن غضب حقيقي بسبب اللامبالاة الفاضحة تجاه الكراهية التي يقوم عليها تاريخ البلد.

يقارن بعض النقاد تايلر بيري بالمخرج المرموق دوغلاس سيرك. لكنها مقارنة خاطئة وقد تشكّل إهانة للمخرجَين معاً. يستعمل كل واحد منهما الوعي الاجتماعي بأساليب مختلفة عن الآخر. ويثبت هذا الفيلم أن أعمال بيري تستطيع أن تُميّز نفسها بنفسها حين يستعمل تايلر أسلوبه الذي لا يشبه أحداً.