مسيحيّو الشـرق... هل مَن يكترث لمصيرهم؟

09 : 29

مسيحيون في إحدى كنائس غزة
إنتشرت صور مسيحيي الشرق فيما كانوا يهربون من همجية تنظيم "داعش" في العام 2014 في جميع أنحاء العالم. لم يتحسّن وضعهم اليوم بدرجة كبيرة، ومع ذلك لا يتأثر الكثيرون في الغرب بما يصيبهم. في كتاب مُوثّق جداً، يطرح الصحافي تيغران ييغافيان وصفاً دقيقاً لوضعهم.

في العام 2017، حقق معرض "مسيحيو الشرق: ألفا عام من التاريخ" في معهد العالم العربي نجاحاً كبيراً وسمح بتسليط الضوء على مسيحيي الشرق... هل تعتبرهم جماعة غير معروفة بما يكفي حتى الآن؟تيغران ييغافيان: تزامناً مع نزع الصبغة المسيحية عن المجتمع الفرنسي، لاحظنا شيئاً من اللامبالاة تجاه هذه الجماعات: لم يعد مصير مسيحيي الشرق يهمّ أحداً باستثناء أوساط محصورة تتألف بشكلٍ أساسي من رجال الدين أو الباحثين أو العلماء. مع ذلك، أثار كتاب Vie et Mort des Chrétiens d’Orient (حياة وموت مسيحيي الشرق) لجان بيار فالون في العام 1994 اهتماماً واسعاً، مع أن معظم المؤلفات المرتبطة بهذا الموضوع بقيت حتى تلك الفترة سرية.

في الوقت الراهن، يشعر مسيحيو الشرق بأنهم تعرضوا للخيانة من فرنسا التي كانت تدّعي حمايتهم منذ عهد فرانسوا الأول والتنازلات التي قدّمها. وعند اندلاع الانتفاضات العربية، تجاهلت الحكومة الفرنسية، على غرار جميع وسائل الإعلام العامة، الرسائل المقلقة التي وجّهها بطاركة الشرق. قابل البطريرك الماروني بشارة الراعي الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي لتحذيره من مخاطر الفوضى التي تحملها تلك الحركات، ولكنه لم يجد من يفهم مواقفه.



الأقباط في تظاهرة في ساحة التحرير بمصر


ثم تغيّر الوضع ووقعت لحظة محورية في صيف العام 2014، حين حاصر مجرمو "داعش" جبل سنجار وسهل نينوى في شمال العراق. فانتشرت حول العالم صور المسيحيين واليزيديين وهم يهربون من تلك المناطق التي شهدت تقدماً كبيراً لتنظيم "داعش"، وتركت أثراً قوياً على الرأي العام الغربي عموماً. لكن في ظل تدفق مشاعر التعاطف والشفقة تجاه هذه الأقليات، من الطبيعي أن نخشى حصرها في إطار جامد طوعاً أو تحوّلها، ولو عن غير قصد، إلى مسألة يكثر النقاش حولها من دون اتخاذ أي خطوات ملموسة لحل المشكلة القائمة. حافظت هذه الكنائس التي تعود عملياً إلى عصر المسيح على طقوسها القديمة، ما يعني أنها تمارس شعائرها بأسلوب ساحر يبدو أقرب إلى الفولكلور أو يعكس شكلاً خيالياً من العودة إلى أصول المسيحية. يتعلق خطر محتمل آخر باستعمال تلك الجماعات لأغراض سياسية عبر التذكير بالحروب الصليبية أو بشخصيات مثيرة للجدل.تتكلم في كتابك عن إغريق بونتوس، والآشوريين الكلدان، والسريان الأرثوذكس، والموارنة، والسريان الكاثوليك، والأقباط... من هم مسيحيو الشرق فعلياً؟

لا تبدو لي عبارة "مسيحيي الشرق" مناسبة في هذا السياق، لأن الأشخاص المعنيين بالموضوع لا يعرّفون عن أنفسهم بهذه الطريقة. حتى أن هذه العبارة تبدو مستوردة وتخفي وراءها الانتماء الأصلي لتلك الجماعات. يشكّل مسيحيو الشرق فسيفساء متنوعة ومجزأة، ويعود انقسامهم في الأساس إلى خلافات عقائدية وتقلبات جيوسياسية متلاحقة. على سبيل المثال، يتمحور خلاف معيّن حول تعريف طبيعة المسيح، وهو الموضوع الذي قسّم المسيحيين في نهاية العصور القديمة. لكن تشتق المشكلة في الوقت نفسه من الاضطرابات الناجمة عن محاولات روما توحيد الصفوف وإرجاع الكنائس التي تُعتبر منشقّة إلى الإيمان الكاثوليكي.



مسيحيون يتظاهرون في لبنان للمطالبة بإنقاذ مسيحيي الشرق


ينتمي مسيحيو الشرق إلى عائلتين كبيرتين، وهما الأرثوذكسية والكاثوليكية، وبدرجة أقل البروتستانتية. لكن يبرز أيضاً فرع مستقل مهم وصادر عن مجمع أفسس 431 (الكنيسة الشرقية الآشورية) ومجمع خلقيدونية 451، أي الكنائس الأرثوذكسية الشرقية (الكنيسة الرسولية الأرمنية، الكنيسة السريانية الأرثوذكسية، الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في مصر وإثيوبيا). بعد الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في مصر، تسجّل الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية أكبر عدد من المؤمنين في منطقة الشرق الأدنى، لكنها تجاهر مع الكنائس المارونية والسريانية الشقيقة بانتمائها المشترك إلى بطريركية أنطاكية، مهد المسيحية، علماً أن فرنسا تنازلت عنها لصالح تركيا في العام 1939 بطريقة مخجلة وتخلّت بذلك عن مبادئها والتزاماتها السابقة.


يتميز مسيحيو الشرق بتنوعهم الشديد، لكن يجمعهم قاسم مشترك بارز: باستثناء المسيحيين اللبنانيين، هم يشكلون جميعاً "أقليات" في بلدانهم منذ الفتح الإسلامي في القرن السابع، كما أنهم لم يكتسبوا يوماً أي سلطة سياسية (يبقى لبنان استثناءً على القاعدة). لذا نتذكر في هذا الإطار كلمات جان كوربون الجميلة في كتابه L’Église des Arabes (كنيسة العرب) الصادر في العام 1977، حين قال إن هذه الكنائس تشكّل انعكاساً حقيقياً لتجسّد الله على الأرض وتنشر منذ آلاف السنين رسالة مسيح غير متفاخر، بل فقير ومتواضع لأقصى الدرجات.



أصبحت هذه الجماعات في صلب الاضطرابات السياسية والدينية التي تهز الشرق الأوسط. نتذكر على وجه التحديد صور المسيحيين في سهل نينوى وهم يهربون من جنود "داعش". كم بقي من المسيحيين في هذه المنطقة؟في ظل غياب أي إحصاءات موثوق بها، لا نجد أمامنا حلاً إلا الاكتفاء بالتقديرات المتاحة. بشكل عام، يميل الزعماء الدينيون إلى المبالغة في تقدير أعداد المسيحيين، وتتّضح هذه النزعة تحديداً في مصر. يمكننا أن نتكل أيضاً على السجلات التي تحتفظ بها كل رعية، لا سيما عدد الطلاب المسيحيين المسجلين في مدارس الجاليات وفي الجماعات الدينية. ثمة أمر مؤكد واحد: قد يبدو الاستنزاف الديمغرافي للوجود المسيحي في الشرق قوياً جداً، لكنه لا يزال محط جدل. لا شك في أن أعدادهم انخفضت بشكلٍ ملحوظ لأن المعمّدين كانوا يشكلون حوالى 15% من سكان هذه المنطقة في بداية القرن العشرين، بينما تقتصر هذه النسبة على 5% اليوم. حتى أنهم باتوا مُهدّدين بالاختفاء في العراق حيث تراجعت أعدادهم من مليونَي نسمة في العام 1977 الى أقل من 200 ألف خلال أربعين سنة. لكن رغم هذه المعطيات كلها، يمكننا أن نقارب المسألة الشائكة المرتبطة بأعداد المسيحيين على ضوء الديناميات الديمغرافية الماضية والراهنة. على مر فترات الماضي، مروراً بمذابح الأرمن على يد العثمانيين بين العامَين 1894 و1896، وصولاً إلى الإبادة الجماعية في العام 1915، يثبت التطور الديمغرافي الطبيعي للمسيحيين وجود ديناميكية تتفوق بحيويتها على توزع المسلمين في السلطنة. بعيداً من المجازر وحركات الهجرة، كان معدل الخصوبة عالياً ومعدل الوفيات منخفضاً لدى المسيحيين مقارنةً بالمسلمين. ربما لا تكف نسبة المسيحيين في مجتمعات الشرق الأدنى عن التراجع منذ الحرب العالمية الأولى، لكنّ عددهم بالأرقام المطلقة شهد ارتفاعاً ملحوظاً في القرن الأخير. بلغ عدد المسيحيين في الشرق الأدنى العربي حوالى مليونَي نسمة حتى العام 1900، مقابل 13 مليوناً اليوم. وكان عدد الأقباط مثلاً يقتصر على 730 ألف نسمة في العام 1897، مقابل 8 ملايين في العام 2019. ولا ننسى عشرات ملايين الأشخاص من مسيحيي الشرق المنتشرين في الشتات حول العالم.




ما دور الشتات الدولي، لا سيما داخل فرنسا، في الصورة التي تنقلها وسائل الإعلام عن هذه الجماعات؟أصبح دور الشتات أساسياً اليوم. تتوزع هذه الجماعات في جميع أنحاء الغرب، وقد نظّمت نفسها على شكل شبكات عابرة للحدود على مر الأجيال وحركات الهجرة المتلاحقة. بدأنا نشهد نشوء أشكال جديدة من التضامن بفضل الثورة الرقمية وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات في العصر الحديث. يتخذ جانب آخر من التضامن منحىً سياسياً، فقد نجحت جماعات الضغط الداعمة لمسيحيي الشرق (الأرمن، الموارنة، الآشوريون الكلدان، السريان) في كسب النفوذ في بداية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين في فرنسا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. في فرنسا تحديداً، أسّس باتريك كرم، نائب رئيس منطقة "إيل دو فرانس" راهناً، جمعية "مسيحيو الشرق في خطر" (كريدو) في العام 2013. اليوم، يحذو فرانسوا فيلون حذوه عبر إنشاء مؤسسة خاصة به لدعم مسيحيي الشرق.




الصحافي تيغران ييغافيان



لا يدخل نضال هؤلاء الأشخاص في خانة المساعي الإنسانية بل السياسية، لأن جمعية "مسيحيو الشرق في خطر" تحاول إنذار المسؤولين السياسيين الفرنسيين بشأن خطورة حملات الاضطهاد الحاصلة وتعمل في الوقت نفسه على توعية الزعماء الدينيين السُّنة والشيعة حول ضرورة نشر خطاب التسامح والوفاق وتحويل الأقوال إلى أفعال. تتعلق تحركات أخرى بالعدالة، فقد قدمت جمعية "مسيحيو الشرق في خطر" شكوى ضد شركة "لافارج" لصناعة الإسمنت بتهمة التورط في جرائم ضد الإنسانية.دعمت فرنسا هذه الجماعات لفترة طويلة. لكن من الواضح اليوم أن نزعة الدفاع عن مسيحيي الشرق اختفت بالكامل من الخطاب السياسي، باستثناء فرانسوا فيلون وعبارته الشهيرة "في الساعة الخامسة بتوقيت باريس، يُقتَل المسيحيون". كيف نسي الجميع تلك الجماعات؟يمكننا أن نذكر مسؤولين سياسيين آخرين ينتمون إلى معسكر اليمين وشخصيات ذات ميول يسارية أيضاً، على غرار رئيس بلدية "سارسيل"، فرانسوا بوبوني، وهو مدافع شرس عن القضية الآشورية الكلدانية والقضية الأرمنية. لا أظن أن هذه الجماعات أصبحت منسيّة، فقد تجدد الاهتمام بها غداة الأحداث المأسوية الأخيرة التي أصابتها. لكنها لم تعد بكل بساطة جزءاً أساسياً من مصالح فرنسا. ما قيمة هؤلاء المسيحيين التقليديين الذين يعانون في سوريا مقارنةً بقيمة البترودولار السعودي؟هل يمكن أن نتوقع اختفاء المسيحيين بالكامل من هذه المنطقة؟ وما العمل للحفاظ على وجودهم هناك؟كانت هذه الجماعات في الماضي تُعتبر بمثابة جسر عبور للإمبريالية الفرنسية في الشرق، لكنها لم تعد اليوم "تابعة" لها أو "وسيطة" بين الإسلام والغرب. لذا تبرز الحاجة إلى مساعدتها الآن لبناء مُواطَنة شاملة في بلدان لا يمكن اعتبارها دولاً مبنية على حكم القانون، حتى أنها قد تكون في بعض الحالات مجرّد أنظمة إسلامية. النماذج المتاحة متنوعة جداً! يمكننا أن نساعد الجماعات المسيحية إذاً عبر إعادة بناء بيئة حقيقية ومناسبة لدعم العيش المشترك. وحتى لو كانت جهود إعادة البناء في سهل نينوى معقدة جداً في الظروف الراهنة، يجب أن تصبح في مطلق الأحوال جزءاً من خطة مترابطة بين مختلف المكونات العرقية والطائفية. يقضي أحد الحلول مثلاً بتقوية شبكة مهمة من المدارس المدعومة من منظمة "لوفر دوريان" المنتشرة في أنحاء المنطقة: من المعروف أن أغلبية من الطلاب المسلمين تقصد تلك المدراس وتتعلم فيها اللغة الفرنسية والقيم الفرنكوفونية.


عراقيون مسيحيون يصلون في كنيسة في الموصل بالعراق




على صعيد آخر، يتحمّل الشتات أيضاً مسؤولية تاريخية لأنه يستطيع تقديم مساهمات مادية وروحية تمهيداً لظهور رجال دين جدد يحملون ثقافة مزدوجة (شرقية وغربية) ويستطيعون في الوقت نفسه طرح حلول ملموسة للمشاكل والتقلبات اليومية. في لبنان، يقدم الشباب المسيحي مثالاً جميلاً عن التحرر والأمل، إذ يشكّل أي مجتمع مدني وعلماني نموذجاً يُحتذى به في الجماعات المسيحية التي تنغلق على ذاتها وتحبس نفسها طوال الوقت في إطار طائفي دراماتيكي لأسباب مرتبطة بأسلمة المجتمعات التي تقيم فيها أو التشدد الاستبدادي للأنظمة القائمة هناك. من الواضح أن نزاع السلطة العثمانية المنهارة لم ينتهِ بعد، ونحن نعيش حتى الآن صدمات متقطعة لتفككها المؤلم.


MISS 3