نجم الهاشم

بين معوض وفرنجية... ساحة حرب زغرتا

11 تشرين الأول 2022

02 : 00

معوض في مجلس النواب في جلسة 29 أيلول
حتى إشعار آخر يمكن أن تبقى معركة رئاسة الجمهورية دائرة بين مرشحين اثنين: سليمان فرنجية وميشال رينيه معوض. هو ليس تنافسا بين شخصين فقط بل بين توجهين ومحورين. وهو ليس جديداً على ابني زغرتا النازلين من زعامتين عميقتين في تاريخ المدينة وتاريخ الحياة السياسية في لبنان.




صحيح أن فرنجية ومعوض يتنافسان بطريقة ديمقراطية لتبوّؤ المنصب الأعلى في الجمهورية اللبنانية ولكنهما يتحدران من سلسلة من العلاقات المرة والحلوة والتلاقي والإفتراق وينحدران من بيتين كان لرئاسة الجمهورية فيهما طعم حلو وطعم مر. سليمان فرنجية يغرف من تاريخ جده الرئيس سليمان فرنجية الذي أتته الرئاسة من حيث لم يكن ينتظر، بينما ميشال معوض ينهل من تاريخ والده الرئيس الذي كان معروفا أنه سيصير الرئيس منذ ذهب النواب إلى الطائف ولكنه عاد رئيساً وانتهى شهيداً من حيث لم يكن ينتظر أيضاً.



الرئيس الراحل سليمان فرنجية



خطوط تماس والتقاء

في العام 1958 ارتسمت خطوط التماس في زغرتا. في ساحة تلك المدينة الصغيرة المارونية في شمال لبنان فصلت البراميل بين حي المؤيدين للرئيس كميل شمعون ومعظمهم من آل الدويهي وحي المعارضين له ومعظمهم من بيت فرنجية. كان الصراع داخل لبنان يعكس الصراع الدائر في المنطقة بين محور مؤيد لجمال عبد الناصر الذي ضم سوريا إلى دولة الوحدة مع مصر في شباط من ذلك العام وكان يريد أن يضم لبنان إليها، وبين محور معارض له يمتد من الأردن إلى العراق وصولاً إلى ما سمي وقتها بأنه حلف بغداد واتهم الرئيس كميل شمعون بالرغبة بالإنضمام إليه. حتى قبل أن تندلع ثورة 1958 تحولت ساحة زغرتا إلى جبهة قتال على خطي البراميل وكل من يتخطى هذا الخط كان يصبح دمه مباحا. كان هذا الحد الفاصل قد ارتسم منذ 16 حزيران 1957 تاريخ حادث مزيارة الذي سقط فيه 26 قتيلا قبل الإنتخابات النيابية التي فاز فيها عن زغرتا وقتها رينيه معوض وحميد فرنجية.

ولد رينيه معوض في العام 1925 وسليمان فرنجية في العام 1910. بين الرجلين فارق 15 عاماً في العمر ولكنه لم يكن فارقاً كبيراً في السياسة. أصبح معوض نائباً في العام 1957 وفرنجية في العام 1960. حادث مزيارة شكل علامة فارقة في العلاقة بين الرجلين وبين العائلتين. نتيجة الإدعاء على معوض وفرنجية وإصدار مذكرات توقيف بحقهما خرجا من لبنان إلى سوريا حيث بقيا أشهراً بحماية النظام السوري الذي كان أصبح ضمن دولة الوحدة مع مصر وبرعاية خاصة أقاما لفترة في فندق أمية في دمشق قبل أن يتنقلا بين حمص وطرطوس خلال أيام الثورة. لم يصب حميد فرنجية في مزيارة ولكن الحادث ترك جرحاً كبيراً في نفسه جعله يعتزل السياسة فآلت زعامة آل فرنجية إلى شقيقه سليمان الذي استطاع العودة إلى لبنان مع رينيه معوض بعد انتخاب اللواء فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية وتسوية ملفهما القضائي وإسقاط التعقبات بحقهما واسترداد مذكرتي التوقيف. أراد فؤاد شهاب أن يحل معضلة زغرتا النيابية والزعامتية فأجرى تعديلا على قانون الإنتخابات جعل بموجبه لزغرتا ثلاثة مقاعد نيابية: واحد يؤول إلى بيت فرنجية والثاني إلى بيت معوض والثالث إلى بيت الدويهي. بعدما كان الصراع يدور بين العائلات الثلاث الكبرى حول مقعدين صار رينيه معوض وسليمان فرنجية والأب سمعان الدويهي نواب زغرتا الثلاثة في دورة العام 1960 في المعادلة التي بقيت مطبقة حتى العام 1972. واستمرت بالتمديد حتى العام 1992.



الرئيس الشهيد رينيه معوض



الإفتراق والتباعد

بعد العام 1960 لم تكن طريق رينيه معوض وسليمان فرنجية الجد واحدة ولكنها أيضا لم تكن متباعدة أو متناقضة. دائما كانت هناك مواءمة للموقف السياسي تحت قبة مصلحة زغرتا لمحو آثار الثأر العائلي والسياسي وإقفال الباب على تاريخ من الأحقاد. ذهب رينيه معوض في خياره السياسي في أن يكون أحد أقطاب العهد الشهابي منذ انتخاب فؤاد شهاب رئيسا للجمهورية واستمر على هذا النهج مع النهج في عهد الرئيس شارل حلو ثم على عهد الرئيس الياس سركيس عندما أصبح من أقرب المقربين إليه. وقد ترجمت هذه العلاقة بتوزيره في العام 1960. في المرحلة نفسها أيضا أصبح سليمان فرنجية وزيراً. لم يكن شهابياً ولكنه لم يكن ضد الشهابية ولا في المحور المنافس لها بعكس ما حصل بعد انتخابه رئيساً للجمهورية. والإثنان كانا وزيرين أيضا في النصف الثاني من ولاية الرئيس شارل حلو. وفي انتخابات العام 1968 فازا مع الأب سمعان الدويهي بمقاعد زغرتا الثلاثة. كان الأب سمعان مع الحلف الثلاثي الذي تم نتيجة التفاهم بين كميل شمعون وبيار الجميل وريمون إده ضد النهج الشهابي والعلاقة التي بناها مع جمال عبد الناصر وضد العمل الفلسطيني المسلح انطلاقاً من لبنان، وكان رينيه معوض مع النهج الشهابي واحداً من رموزه في مجلس النواب. بينما كان سليمان فرنجية في خط الوسط غير حليف لأي من المحورين ولكن أيضا غير معادٍ.

صحيح أن الحلف الثلاثي حقق نتائج جيدة في الإنتخابات التي جرت في العام 1968 ولكنه لم يحصل على الأكثرية. كما في انتخابات العام 2022 بقيت هذه الأكثرية ملتبسة. خاض المكتب الثاني تلك الإنتخابات في ظل افتراق المصالح مع الرئيس شارل حلو وعلى أمل بأن يتمكن من أن يستعيد الرئاسة كاملة برئيس جديد محسوب عليه في العام 1970. مع رفض الرئيس فؤاد شهاب الترشح مجدداً ذهب خياره إلى الياس سركيس مدير عام الرئاسة سابقاً وحاكم البنك المركزي. كان الحلف الثلاثي يعرف نتيجة الحسابات النيابية أن لا إمكانية لإيصال أحد أقطابه الثلاثة فكان خيار سليمان فرنجية هو الأنسب. كان فرنجية مع صائب سلام وكامل الأسعد في خط الوسط وكانت اللعبة الإنتخابية قائمة على صوت واحد أو أكثر لم يكن بالإمكان توقع النتيجة سلفاً. في هذا المفترق الكبير لم يصوت رينيه معوض لسليمان فرنجية. ومع ذلك نجح سليمان فرنجية. أن يكون فرنجية نائباً ووزيرا مثله مثل معوض فهذه مسألة طبيعية وعادية ولكن أن يصبح رئيساً للجمهورية ففي هذه المسألة إمكانية للتأثير على التوازن القائم بين عائلات زغرتا. لم يستقو سليمان فرنجية بالرئاسة ولكن تلك لم تكن نهاية الطريق.



الوزير السابق سليمان فرنجية



بين رئاستين زغرتاويتين

طوال عهد فرنجية لم يعين رينيه معوض وزيراً. كان عليه أن ينتظر حتى العام 1980 ليعود إلى الوزارة على عهد صديقه الياس سركيس. ولكن مع اندلاع الحرب على أرض لبنان في العام 1975 كانت هناك تحولات أخرى في الساحة الزغرتاوية. صحيح أن سليمان فرنجية كان معارضاً لكميل شمعون في العام 1958 ولجأ مع رينيه معوض إلى سوريا ولكنه في العام 1975 والعام 1976 كان في قلب الجبهة اللبنانية مع كميل شمعون وبيار الجميل للدفاع عن الجمهورية ومن موقعه هذا قاوم محاولات عزله وتضامن معه كميل شمعون عندما تم توقيع عريضة نيابية تطالبه بالإستقالة وبعدما كان في صلب المواجهة مع الياس سركيس في العام 1970 لم يمانع في تعديل الدستور لانتخاب سركيس قبل ستة أشهر من انتهاء ولايته. في تلك الحرب كانت زغرتا على عكس أحداث 1958 جبهة واحدة. خط التماس الذي ارتسم ذات مرحلة في ساحتها صار خط تماس عند تخومها دفاعا عن وجودها ولتنظيم تلك المواجهة كان على عائلات زغرتا أن تتولى التنسيق ضمن غرفة عمليات واحدة وأن تتوزع كل عائلة أو أكثر الدفاع عن جبهة من الجبهات التي كانت تهاجم زغرتا من محاورها. هناك عاد ليلتقي سليمان فرنجية مع رينيه معوض والأب سمعان الدويهي وعموم عائلات زغرتا. هذا التضامن بقي ثابتاً بعد أحداث إهدن التي حصلت بين حزب الكتائب وبيت فرنجية في حزيران 1978 حيث تضامنت عائلات زغرتا مع الرئيس فرنجية. ولكن في العام 1982 كان هناك مفترق يجب اجتيازه وتمثل بخيار رينيه معوض الإقتراع لقائد القوات اللبنانية بشير الجميل رئيساً للجمهورية على رغم الإعتراض الذي كان لا يزال يحمله الرئيس سليمان فرنجية. ولكن هذا الإقتراع لم يفسد العلاقات بين الطرفين وقد بقيت تحت سقف التوازن الزغرتاوي المطلوب والإعتراف المتبادل بالأدوار والأحجام. منذ رئاسة فرنجية الجد وحتى قبل ذلك كان يتم التعاطي في المسألة الزغرتاوية وكأن فرنجية له الزعامة الأولى وبعد الرئاسة صارت رمزيته أكبر بحيث لم يكن من الممكن تجاوزه في أي حال وفي اي وضع.



النائب ميشال معوض



رئاسة معوض

في العام 1988 ومع استحقاق انتخاب رئيس للجمهورية خلفاً للرئيس أمين الجميل رشح النظام السوري الرئيس سليمان فرنجية ولكن من دون أن يكون لديه أي أمل بالوصول وبأن المجلس النيابي الذي انتخب في عهده في العام 1972 يمكن أن يصوت له وإن كان تم تعطيل الجلسة التي كانت مخصصة للإنتخاب. تلافيا للفراغ وكآخر خيار شكل الرئيس أمين الجميل الحكومة العسكرية برئاسة العماد ميشال عون لتتسلم السلطة وتؤمن انتخاب رئيس جديد للجمهورية. ولكن عون تمسك بالسلطة وشن حرب التحرير. ثمن الخروج من تلك الحرب ومن كوارثها كان الإتفاق على تعديل الدستور في الطائف. ذهب النواب اللبنانيون إلى المملكة العربية السعودية وكان الإتفاق شبه منجز وكانت صورة رينيه معوض نسخة طبق الأصل عن الرئيس الذي يجب أن يحكم باسم الطائف لاستعادة الجمهورية. مع أن فرنجية لم يكن نائباً ولكن انتخاب معوض كان يجب أن يمر في ساحة زغرتا برضى الرئيس السابق. ليست مسألة بسيطة أن يكون هناك رئيس ثانٍ للجمهورية من زغرتا بوجود الرئيس الأسبق الذي منعت عنه الرئاسة في العام 1988. بعد عامين فقط كان على الرئيس المنتخب في مطار القليعات في شمال لبنان في 5 تشرين الثاني أن يمر على الرئيس سليمان فرنجية ويحصل على صوته أيضا قبل أن ينتقل ليصلي في كنيسة السيدة في زغرتا وينتقل إلى مقره الموقت في إهدن.

أقفل ميشال عون أبواب قصر بعبدا أمام الرئيس المنتخب. بعد 17 يوماً وفي يوم الإستقلال تم اغتيال الرئيس معوض الذي أريد له أن يكون الرئيس المنقذ فكان الرئيس الشهيد. كان شهيد لبنان وشهيد زغرتا أيضا. قبل أن ينتقل من باريس إلى لبنان لينتخب رئيساً للجمهورية كان يدرك المخاطر التي تحمّله إياها مسؤولية الرئاسة في مرحلة محفوفة بالمستحيلات. هناك التقى ابنه ميشال وكان عمره سبعة عشر عاماً. كان لقاء عاطفياً أبلغه فيه أنه سيكون الرئيس وأن الرئاسة ستجعله في موقع خطر وكأنه كان يلقي عليه خطبة الوداع. وكان على ميشال أن يمشي بعد 20 يوماً في مسيرة تشييع والده وأن يبدأ مسيرة وراثة دوره السياسي والزعامة. ربما لم يكن يتوقع أن يكون بعد 33 عاماً على استشهاد والده وجهاً لوجه مع سليمان فرنجية الحفيد في مواجهة على موقع رئاسة الجمهورية. مواجهة تنقسم معها ساحة زغرتا بين معسكرين يمتدان من لبنان إلى إيران وربما إلى موسكو ولكن من دون ان يكون هناك خط براميل يقسم تلك الساحة. بين 1989 و2022 كانت مسيرة ثانية لكل من سليمان فرنجية وميشال معوض. مسيرة أهّلت كلا منهما ليكون مرشحا لمنصب الرئاسة الأولى وجهاً لوجه وإن كان ترشيح سليمان فرنجية غير محسوم بعد كما ظهر ترشيح معوض وإن كان غير نهائي بعد.


MISS 3