توفيق شمبور

أسعار الصرف المتعددة شمّاعات تُعلّق عليها أقبح الموبقات

17 تشرين الأول 2022

02 : 00

فوضى السوق الموازية نتيجة لفوضى قرارات أسعار الصرف المتعددة

تنيط المادة 65 من الدستور، بوضوح، بمجلس الوزراء صلاحية وضع السياسات العامة للدولة في جميع المجالات بدون استثناء... نص دستوري في منتهى الصراحة بان السياسة النقدية ليست محصورة بمصرف لبنان وبالتحديد بمجلسه المركزي كما تنص عليه المادة 33 من قانون النقد والتسليف. هذا لا يعني ان مجلس الوزراء قد حل محل مصرف لبنان في تحديد السياسة المذكورة بكل تفاصيلها، بل ان هناك تشاركاً بين الاثنين في تحديد سعر الصرف الواجب استهدافه، وسقوف تحركاته على ضوء الامكانيات المتوافرة وتكلفتها. وهذا ما تفعله اعرق الدول في المسألة النقدية كسويسرا (المادة 99 من الدستور) والمانيا ايام المارك. على ان ينفرد بعد ذلك مصرف لبنان باتخاذ المناسب للوصول الى الغاية التي تم تحديدها. ما خلا التدخل في سوق القطع حيث تقضي المادة 75 نقد وتسليف على تدخله، لا منفرداً بل بالاتفاق مع وزير المالية، مشترياً او بائعاً الذهب والعملات الاجنبية في السوق لتأمين ثبات القطع.

إنحرافات فاضحة في ممارسات ما بعد الطائف

لم يتم التقيد تماماً بالاحكام الدولية والتوجهات الدستورية والقانونية في تحديد سعر الصرف في مرحلة ما بعد الطائف. فقد عرفت الاخيرة وما زالت تعرف بانحرافات فاضحة، ارتكزت على تفلت مشين في تفسير مضامين النصوص القانونية بهدف تجاوز احكامها، لا بل تحويرها لغايات لا تمت الى المقصود منها حسب شروحات واضعي هذه النصوص. والقول يتجه هنا وبصورة خاصة الى نصوص مواد قانون النقد والتسليف ومضامينها.

حاكم مصرف لبنان الاستاذ رياض سلامه ذكر في اطلالة تلفزيونية في 9 -1- 2020 ان «بيانات طلب الثقة» لجميع حكومات ما بعد الطائف من المجلس النيابي تضمنت الالتزام بسياسة «الاستقرار النقدي». في كلام يستشف منه اعتباره الامر موافقة غير مباشرة من قبل مجلس الوزراء للسياسة النقدية التي اعتمدها مصرف لبنان منذ بداية ولايته، وقام فيها بتثبيت سعر الصرف لسنوات طوال.

معروف ان «بيانات طلب الثقة» لا تحل دستورياً ولا قانوناً محل المناقشة والمداولة المطلوبة في مجلس الوزراء، عملاً بالمادة 65 من الدستور لاتخاذ قرار صريح بموضوع السياسة النقدية الفضلى الواجب انتهاجها، خصوصاً موضوع تحديد سعر الصرف الواجب استهدافه وموارده وتكلفته ومدى امكانية الاستمرار به. كما لا يمكن ايضاً الاعتداد دستورياً وقانونياً بأي توافق حصري حول الموضوع الاخير يحصل بين الترويكا اي رؤساء الجمهورية والمجلس النيابي والحكومة.

مواقف رسمية لا تنمّ عن أي دراية قانونية

تقاعس عهود ما بعد الطائف عن القيام بواجباتهم الدستورية والقانونية المحكي عنها، قد يفسر في احسن الحالات على انه من قبيل قلة او حتى عدم الدراية القانونية. أمر تظهره بوضوح مواقف عديدة لمسؤولين كبار. منها مؤخراً تصريح لرئيس الجمهورية ميشال عون في 27 ايلول 2019، ذكر فيه صراحة «ان المسؤول عن النقد هو حاكم مصرف لبنان». وآخر لرئيس الحكومة الاسبق حسان دياب في 24 نيسان 2020 ذكر فيه ان «السياسة النقدية هي من مسؤولية مصرف لبنان»، من دون اي ربط مع ما ينص عليه الدستور اللبناني في المادة 65 منه بواجبات مجلس الوزراء بالموضوع. وثالث ورد في كتاب موجّه قبل شهرين من رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الى وزير المالية يطالبه فيه باجراء ما يلزم «لتحديد سعر للدولار الاميركي بقيمة 20000 ل.ل من اجل احتساب قيمة البضائع الواجب التصريح عنها للجمارك، وذلك عملاً بالاحكام القانونية المرعية الاجراء على الاخص المادة 229 نقد وتسليف». هذا الكلام (1) يناقض بشكل صارخ الاحكام المشار اليها والمطلوب العمل بمقتضاها في استهداف وتحديد سعر الصرف وايضاً القرار رقم 883 تاريخ 28 آذار 1973 القاضي باحتساب الدولة الضرائب والرسوم باعتماد السعر المتوسطي لسعر الدولار في الشهر السابق. و(2) يحمّل المادة 229 نقد وتسليف اكثر مما تحتمل. فهذه الاخيرة هي مادة تاريخياً مؤقتة ولمرحلة انتقالية ووضعت احكامها لحين تثبيت قيمة الليرة بالذهب، عملاً بالمادة 2 من قانون النقد والتسليف بعد الاتفاق مع صندوق النقد الدولي. وقد تم تجاوزها، اي المادة 229، في السبعينات السابقة بعد فك الارتباط ما بين الذهب والدولار وبالتالي لا يصلح التأسيس عليها اطلاقاً.



هل سلامة مستمر فعلاً في الإنكار؟



تثبيت سعر الصرف: ماذا قال سلامة في 2001؟

مفهوم سعر الصرف الثابت يرتبط باعتماد سعر صرف محدد وثابت للعملة الوطنية ازاء عملة عالمية قوية كالدولار الاميركي، او ازاء سلة من العملات القوية كالدولار الاميركي و/او الجنيه الاسترليني و/او اليورو و/او الفرنك السويسري... ويمكن ايضاً ربط تحديد سعر صرف العملة الوطنية بالذهب و/او بواحدة او بعدة عملات اجنبية قوية ومن صوره مجلس نقد Board Currency.

في لبنان، ثبات سعر الصرف حصل بقرار اداري اتخذ من قبل مصرف لبنان. فحاكمه رياض سلامه ذكر في ورقة قدمها الى الاجتماع الثامن لحكام المصارف المركزية في البلاد الفرنكوفونية في دكار 2001، وحملت العنوان التالي:

سعر الصرف وفعالية السياسة النقدية

Régimes de Change et Efficacité

de la Politique Monétaire

«إن مصرف لبنان اعتمد منذ عام 1993 «سياسة تثبيت» سعر صرف الليرة بالنسبة للدولار، لانها الاكثر توافقاً مع الطابع الحر للاقتصاد اللبناني. ولأن حسنات هذه السياسة (1) انها تحفظ البلاد من السقوط في الدائرة الجهنمية التضخم / تصحيح الاجور، (2) انها تحسن القدرة الشرائية للمستهلكين و(3) انها تجذب رؤوس الاموال الخارجية، وهي تفوق بمساوئها والتي هي (1) الارتباط باقتصاد الدولة التي تم ربط العملة بها على الاخص بمجال معدلات الفوائد، و(2) الضغط على استقلالية السياسة النقدية بربطها بالسياسة النقدية للدولة التي تم ربط الليرة اللبنانية بعملتها».

وأشارت الورقة الى ان مصرف لبنان حصر بالبداية تقلبات سعر صرف الليرة ازاء الدولار ضمن هامش ± 0,06% ثم عدله الى ±0,1% توصلاً الى سعر صرف يتراوح ما بين 1501 و 1514 ل.ل للدولار الواحد «بمعدل وسطي» 1507,50.



سعر الصرف الرسمي بحكم الأمر الواقع وليس الرسمي

«المعدل الوسطي» الآنف الذكر اصبح لاحقاً «سعر الصرف الرسمي». وقد المحت ورقة الحاكم الى ان سياسة مصرف لبنان بتثبيت سعر الصرف تماهت مع السياسات المتبعة في غالبية الدول العربية. وبالتحديد مع سياسات الدول التي تقوم بالتثبيت بحكم الواقع de facto كمصر والسعودية والامارات وقطر والبحرين، وليس بشكل رسمي official اي بقرار حكومي او بمقتضى قانون كالاردن وسلطنة عمان، او بالربط بسلة من العملات القوية كالكويت وتونس والمغرب.

سياسة الاستقرار النقدي ضمن هوامش معينة ثم سياسة تثبيت سعر الصرف لاحقاً على معدل وسطي 1507,50 ل.ل للدولار الواحد، تم ابلاغهما الى الـ IMF من قبل مصرف لبنان عملاً بمقتضيات المادة IV من قانون الاخير، والتي تنص على ان تعامل الدول معه يتم من خلال وزارة المالية او المصرف المركزي او صندوق تثبيت اسعار الصرف او اية هيئة اخرى، وعلى ضرورة قيام كل دولة باعلام الـ IMF باي تعديلات تجريها على نظام سعر الصرف لديها. وعليها ان تعمل بدءاً من 1 كانون الثاني 1976 على الحفاظ على قيمة عملتها الوطنية بربطها، بخلاف الذهب، بقيم مستقرة مثل حقوق السحب الخاصة droit de tirage special او عملات قوية. ويقوم الـ IMF من جهته برقابة صارمة لسياسة سعر الصرف لكل بلد كما يُجري المشاورات مع الاخير حول هذه السياسة مع الاخذ بعين الاعتبار اية اوضاع خاصة يمر بها.

ماذا قال صندوق النقد الدولي؟

إدارة الـ IMF حذرت تكراراً بشأن سلبيات سياسة تثبيت سعر الصرف المعتمدة من قبل مصرف لبنان، آخرها ما ورد في الفقرة 24 من بيان بعثة مشاورات المادة IV لعام 2019 والصادر في 11 تموز 2019 (قبل انتفاضة تشرين الاول بشهرين). وقد ورد فيه التالي:

«كان مصرف لبنان ركيزة الاستقرار المالي والكيان الحارس لنظام سعر الصرف، ولكن ذلك جاء على حساب تكثيف الروابط بين البنوك والمالية العامة وإثقال كاهل ميزانيته العمومية... ونتيجة لذلك، أصبحت الأوراق المالية الحكومية والودائع لدى مصرف لبنان تشكل 14% و55%،، من أصول المصارف، حيث بلغ حجم الانكشاف الكلي على الديون السيادية 68,5% من الأصول (اي أكثر من 8 أضعاف رأس المال الأساسي)». انتهى المقطع المقتبس من تقرير بعثة الـ IMF.

وعلى هذا، فان بالامكان تفهم اعتبار البعض، بمنطق معين، ان سعر صرف الدولار ازاء الليرة اللبنانية والبالغ 1507 ل.ل للدولار الواحد هو «السعر الرسمي» للسببين التاليين:

(1) لانه السعر المعلن من قبل مصرف لبنان، وهذا الاخير له ولاية على السياسة النقدية.

(2) ولانه السعر المبلغ اصولاً الى ادارة الـ IMF عملاً بالمادة IV من اتفاقية تأسيسه.

لكن الامر في الحقيقة ليس كذلك للسببين التاليين:

(الاول) ان سعر 1507 ل.ل للدولار الواحد هو باعتراف الحاكم في المؤتمر الفرانكفوني في دكار عام 2001 سعر تحدد «بحكم الواقع de facto»، تحاشياً لذكر ان تحديده تم بارادة منفردة من قبل مصرف لبنان، وليس «بشكل رسمي official» اي بدون اي قرار حكومي خاص او بمقتضى قانون معين. وقد عاد الحاكم وأقر وبعد عشرين سنة في مقابلة مع «قناة الحرة» تاريخ 21 كانون الاول 2021، ان «سعر الصرف المعتبر رسمياً «بحكم الواقع» لليرة مقابل الدولار لم يعد «واقعياً»؟ وذلك بعدما خدم الاقتصاد وجعل الوضع الاقتصادي والاجتماعي جيداً في لبنان خلال 27 عاماً».

قرار أحادي مخالف لقانون النقد والتسليف

ما يعني بوضوح: ان المعتبر «سعر صرف رسمياً» بات ليس فقط «غير واقعي» باقرار الحاكم بل لم يكن بالاساس سعراً محدداً بالاستناد الى عمليات السوق بل نتيجة قرار اداري محض متخذ أحادياً من قبل مصرف لبنان، خلافاً لقانون النقد والتسليف الذي لا يمنحه اية صلاحية ادارية باعلان تثبيت سعر صرف الليرة على سعر صرف معين لوحده.

مخالفة الآلية المحددة في الدستور وتحديداً المادة 65

إن المعتبر «سعر صرف رسمياً» تم اعتماده خلافاً للآلية المحددة في الدستور، بالتحديد المادة 65 منه معطوفة على المادة 33 نقد وتسليف، على النحو الذي سبق تفصيله بشأن هذه الآلية في المقدمة، وهي تضمن اطلاع مجلس الوزراء على موارد التثبيت وكلفته فيقبل الاخير او يرفض الامر حسب تقديره للكلفة والمخاطر. وهذا ما لم يحصل، وكان الثمن الانهيار المالي والنقدي المريع.

3- إن الهيئة القانونية المختصة باجراء العمليات على العملات والاعلان الرسمي لاسعار العملات عند الاقفال هي بورصة بيروت، حسب المرسوم الإشتراعى رقم 120. وهي، اي البورصة، متوقفة عن اتيان العمليات على العملات منذ احداث السبعينات من القرن الماضي.

أسعار صرف التعميمين 151 و158: هرطقات وبهلوانيات

خلال العامين السابقين اصدر مصرف لبنان التعميمين 151 و158 ذكر فيهما انهما لتنظيم سحوبات المودعين من حساباتهم بالعملات الاجنبية لدى المصارف. فحدد سقوفاً واسعار صرف لهذه السحوبات مع تحويلات الزامية لليرة اللبنانية على اسعار صرف ادنى بكثير من الاسعار المعتمدة في المعاملات الواقعية، وحتى من اسعار «صيرفة» المنشأة من قبله.

التعميمان المذكوران هما من قبيل الهرطقة والبهلوانيات القانونية الخالصة ويخالفان القانون والدستور معاً. فلا السعر الادنى اي الـ 1507 هو سعر رسمي محدد وفقاً للاصول التي يقتضي اعتمادها ليكون كذلك، ولا كذلك السعر الاعلى والذي هو 8000 ل.ل للتعميم 151 و12000 ل.ل للتعميم 158.

مخالفة صارخة للمادة 307 من قانون التجارة

فالتعميمان يناقضان بشكل صارخ المادة 307 من قانون التجارة التي تنص على حق المودع باسترداد وديعته من المصرف كما هي او بما يعادلها في القيمة والشروط المتفق عليها. والامر المؤسف ان التجاوز لاحكام المادة المذكورة،على صراحة نصها، حصل بدفع من مصرف لبنان عندما دعا المصارف في التعميمين الآنفي الذكر الى عدم التقيد بالمادة 307 واعتماد عمليات Haircut قاسية على السحوبات بلغت حدود الـ 70% منها، علماً انه مندوب عملاً بالمادة 208 من قانون النقد والتسليف الى احالة المصرف الذي يخالف القانون، ومن ضمن ذلك المادة 307 تجارة، على الهيئة المصرفية العليا لاتخاذ العقوبة الادارية الزاجرة بحقه، والتي يمكن ان تصل الى تعيين مدير مؤقت للمصرف المخالف!!!!

ايضاً يناقض التعميمان 151 و158 الدستور لا سيما مقدمته، فهما يصوبان على حرية المودع الذي استشعر خطر سوء تصرف المسؤولين على استقرار الليرة فهرب منها الى الدولار لحفظ مدخراته، لاعتقاده ان الودائع بالعملات الاجنبية هي في حرز امين لدى المراسلين الخارجيين لمصرفه، فأتى مصرف لبنان وألزمه بالتعميمين 151 و158 الى العودة قسراً الى الليرة وبسعر صرف متدن اي بـ haircut في منتهى القساوة بلغت حدود الـ 70% كما اسلف.

أول من أفتى بجواز هذا التوجه، اي رد وديعة الدولار بالليرة اللبنانية، كان حاكم مصرف لبنان في برنامج «صار الوقت» مع الاعلامي مارسال غانم بتاريخ 10 كانون الثاني 2020 مستنداً الى المادة 7 من قانون النقد والتسليف، التي تنص على ان الدفع بالنقود اللبنانية له قوة ابرائية غير محدودة على اراضي الجمهورية اللبنانية. موقف أبهج بالطبع المصارف فترة من الزمن لحين مفاجأة الحاكم لها مؤخراً بان الامر يصدق ايضاً على رد مصرف لبنان بالليرة لودائع المصارف لديه بالدولار وبالعملات الاجنبية الاخرى.

إعلان الحاكم يجافي النص والمنطق

للاسف اعلان الحاكم هو المعمول به حالياً مع ان الخطأ واضح ويجافي النص والمنطق. فالمادة 7 التي استند اليها الحاكم تتعلق بسداد الالتزامات بالاوراق النقدية اللبنانية وليس بسداد الالتزامات بدولار الحسابات المصرفية. لانه لو كان الامر كذلك لتعين النص في المادة 7 على اي سعر صرف يتم به الابراء كما فعل المشرع الفرنسي. وهذا ما هو غير حاصل في نص المادة 7 حيث تم تفسيرها خطأ بانها تعني ايضاً سداد الالتزامات المصرفية القائمة بالدولار بالليرة اللبنانية (يراجع بهذا الخصوص الصفحة 33 وما يليها من كتاب البروفسورة Laure Nurit pontier المعنون Le Statut Juridique de La Monnaie Etrangère واحكام القضاء الفرنسي الصادرة في الموضوع المحكي عنه).

للإثراء غير المشروع واطفاء الخسائر على حساب المودعين

إن التوصيف القانوني الواقعي للتعميمين 151 و158 هو انهما اداتان استنبطهما مصرف لبنان لتحقيق «اثراء غير مشروع» و»بلا سبب»، لمصلحته ولمصلحة المصارف من المودعين اصحاب الحسابات بالعملات الاجنبية، بهدف اطفاء خسائرهما. ما يعرض القيمين على اصدار التعميمين للمساءلة الادارية على اساس تجاوز حد السلطة. وايضاً للمساءلة القانونية وبالتحديد المسؤولية التقصيرية للتعويض على المتضررين من هذين التعميمين.

جدير بالذكر ان دولاً كثيرة قيدت كلبنان خلال ازماتها سحوبات المودعين من المصارف ضمن حدود سقوف معينة، منها فرنسا في الاربعينات الماضية ايام حكومة الرئيس Paul Raynaud حيث تم تحديد سقوف السحب وسعر الصرف بقانون لا بقرار اداري. ولم يفرض على سحوبات المودعين اية Haircut كما فعل مصرف لبنان بالتعميمين 151 و 158.

سعر صرف بورصة بيروت: كان زمان

«سعر الصرف الرسمي» الواجب الاعتداد به قانوناً هو السعر الذي تغلق عليه عمليات سوق القطع في ردهة بورصة بيروت لتبادل العملات. حيث حصرت المادة 9 من المرسوم الاشتراعي 120 الصادر بتاريخ 16/09/1983 حق القيام بالعمليات داخل الردهة بـ (1) المصارف العاملة في لبنان و(2) بـالعملاء المعطى لهم حق التوسط في عمليات بيع وشراء الصكوك المالية في البورصة و(3) بالمؤسسات المالية والصيارفة الذين تقبلهم لجنة البورصة.

وأشارت المادة 19 من المرسوم الى تحديد النظام الداخلي للبورصة بكل ما له علاقة باداراتها واصول العمل فيها بما فيه بالطبع نشر اسعار وشروط تسعير المتداول في ردهتها من العملات.

مع تأزم الوضع الامني في السبعينات والثمانينات الماضية توقفت البورصة عن العمل مدة من الوقت. لكن بعد عودتها الى ممارسة عملياتها بعد انتهاء الاعمال الحربية لم تعد ردهتها الى استقبال العمليات على العملات.

سعر الصرف المعلن من مديرية القطع في مصرف لبنان

عدم عودة العمل بسوق التعامل بالعملات الى بورصة بيروت بعد اعادة فتحها، دفع مصرف لبنان الى اخذ المبادرة بنشر اسعار العملات الاجنبية التي يتعامل بها مع الغير، على الاخص المصارف، وعلى رأس هذه العملات الدولار الاميركي بحيث بات العموم ينظر الى سعر الدولار الصادر عن مصرف لبنان على انه «السعر الرسمي» الواجب اعتماده ازاء الليرة في التعاملات اليومية.

خطأ شاع ولا يزال قائماً لتاريخه لدى الغالبية بمن فيهم واضعو السياسات والمسؤولون وقضاة المحاكم ورجال القانون وغيرهم.

فقانون النقد والتسليف الذي ينظم عمل مصرف لبنان لا يتضمن اي نص يوليه صلاحية الحلول باي ظرف من الظروف مكان ردهة بورصة بيروت، المكان المحدد قانوناً للعمليات على العملات ونشر اسعارها عند الاقفال.

وبالتالي فان لائحة اسعار العملات الاجنبية التي تنشرها مديرية القطع والعمليات الخارجية في مصرف لبنان، وهي المديرية المعنية بعمليات القطع والـ clearing، على انها نتيجة تعامل المصرف مع الغير بهذه العملات، هي لائحة لاخذ العلم ولا يمكن التأسيس عليها قانوناً على انها «السعر الرسمي» لليرة اللبنانية ازاء الدولار.

سعر صرف «صيرفة»: لا سند لها في قانون النقد والتسليف

أنشأ مصرف لبنان لديه في ايار 2021، بمقتضى التعميم 157، منصة «صيرفة» الكترونية بهدف جعل سوق الدولار اكثر شفافية وضبط المضاربات على هذه العملة من خلال السماح للمصارف والصيارفة المرخصين وغيرهم من الأفراد والمؤسسات والمستوردين والتجار، بتداول العملات في هذا السوق بحسب السعر الذي يستهدفه مصرف لبنان وبهوامش بين سعر البيع وسعر الشراء بنسبة 1%.

في الشكل، انشاء «المنصة» لا يجد سنده في اي مادة من مواد قانون النقد والتسليف والمواد التي تم الاستناد اليها في قرار الانشاء وهي 70 و 75 و83 – ب و174 لا تسمح بالامر. فالمطلوب نص واضح بتكليف مصرف لبنان بانشاء هكذا منصة على غرار المادة 80 التي تنص على تكليفه بانشاء غرف المقاصة.

في المضمون، الغالبيّة الساحقة من المستوردين لم تتمكن من الاستفادة من دولارات المنصّة، وما زالت السلع تباع بحسب سعر صرف السوق السوداء. وأدهى من ذلك تحولت منصّة «صيرفة» إلى قناة جديدة لإثراء مجموعة من المضاربين المحظيّين الذين يحصلون على الدولارات وفق سعر المنصة، ويبيعونها وفق سعر السوق الموازية، بدلاً من أن تؤدّي المنصّة دورها الطبيعي في توحيد سعر الصرف وتمويل الاستيراد.


الدولار الجمركي: مغالطات قانونية فاقعة 

بعد اقرار مشروع قانون موازنة 2022 اطلق وزير المالية السيد يوسف الخليل ورئيس مجلس الوزراء السيد نجيب ميقاتي تصريحين مفعمين بالمغالطات القانونية الفاقعة، والتي تؤكد ما ذكر في المقدمة عن واقع المسؤولين في مرحلة ما بعد الطائف بالنسبة للتعامل مع المسألة النقدية واسعار الصرف.

فقد ذكرا ان العمل بسعر صرف 1507 ل.ل للدولار الواحد سيتوقف نهاية الشهر الجاري. وان «سعر صرف رسمي» جديد يبلغ 15000 ل.ل للدولار سيبدأ العمل به. ما يؤكد مرة اخرى ان «سعر الصرف الرسمي» هو سعر يعتمد ويعدل بقرار اداري من خارج عمليات السوق وخلافاً لاحكام المادتين 65 من الدستور معطوفة على المادة 33 نقد وتسليف.

وأضاف الرئيس ميقاتي (1) أن السعر الجديد 15000 ل.ل للدولار سيطبق بداية على الرسوم الجمركية والبضائع المستوردة وعلى القيمة المضافة. (2) ان التطبيق سيكون تدريجياً مع استثناءات أولية تشمل رساميل البنوك وسداد قروض الإسكان والقروض الشخصية التي ستستمر على «سعر الصرف الرسمي» القديم وان تعاميم من حاكم مصرف لبنان وقرارات ستصدر قبل نهاية الشهر ستحدد جميع الاستثناءات. (3) ان الهدف اغلاق الفجوة بين سعر السوق البالغ 38000 ل.ل وبين ما يسمى بـ»سعر الصرف الرسمي».

تلكؤ مريب لمجلس شورى الدولة

الامر المؤسف المثير لامور عدة... تلكؤ مجلس شورى الدولة باتخاذ القرار بشأن مراجعة الابطال التي رفعها الدكتور باسكال ضاهر امامه بشأن التعميم 151. والنظر فيها مجمد منذ اكثر من سنة على اهمية الموضوع، بنتيجة الاجتماع الكئيب الذي حصل في 3 حزيران 2021 في القصر الجمهوري وضم الى رئيس الجمهورية رئيس مجلس الشورى وحاكم مصرف لبنان. علماً ان مجلس الشورى استجاب وبسرعة قياسية لطلب ابداء الرأي بخصوص تعديل مرسوم تنظيم مرافقة وحماية الشخصيات فأعطى جوابه خلال اربعة ايام فقط.


التعليق على كلام نجيب ميقاتي 


(1) إنه يظهر تخبطاً في فهم الامور على حقيقتها. فسعر صرف ما يسمى بالدولار الجمركي يرتبط عادة بالمعدل المسجل لسعر صرف العملة في سوق القطع خلال مهلة زمنية سابقة تختلف من دولة لدولة. وهو في لبنان معدل الشهر السابق حسب القرار رقم 883 تاريخ 28 آذار 1973.

وبالتالي لا يمكن الكلام من حيث الشكل عن سعر صرف دولار جمركي مختلف عن سعر الصرف الرسمي.

(2) إن الاستثناءات الفئوية في حال تقرر اعتمادها يجب ان تكون بموجب قانون وليس من قبل المصرف المركزي. لأن الاخير لا يستطيع ان يحل محل السلطات التشريعية والتنفيذية في التمييز بين الجمهور: والكلام للبروفسورJoseph Stiglitz الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد لعام 2001.

(3) إن استثناء المصارف لا يأتلف مع متطلبات Basel-3 لجهة ضرورة تحقق السلطات المختصة المستمر من سلامة وفعالية المراكز المطلوبة بشكل مناسب وفعال على الاخص الاموال الخاصة والملاءة والسيولة.

(4) إن اغلاق الفجوة بين سعر السوق و»سعر الصرف الرسمي» توصلا لتوحيد جميع اسعار الصرف لا يكون بخلق سعر صرف جديد اضافي لما هو قائم!

(*) استاذ محاضر في قوانين النقد والمصارف المركزية