نجم الهاشم

بين الياس سركيس وأمين الجميل وحكومة ميشال عون

"القوات" والرئاسة من بشير إلى سمير (1 من 3)

22 تشرين الأول 2022

02 : 00

سمير جعجع في مرحلة 1986

منذ العام 1980 صارت «القوات اللبنانية» لاعباً أساسياً في انتخابات رئاسة الجمهورية في لبنان. دخلت على خط هذه الإنتخابات بقوة منذ صار بشير الجميل قائدها وموحدها ورمزها، ممسكاً بالقوة العسكرية في المناطق الشرقية وفارضاً حضوره في القرار السياسي في ظل الجبهة اللبنانية برئاسة كميل شمعون وتحت سقف والده الشيخ بيار الجميل. وإذا كانت نجحت أحياناً في تحقيق أهدافها في أكثر من استحقاق فإنها كانت دائماً في صلب المعارك الإنتخابية، حتى عندما كان يتم أقصاؤها بالقوة كما حصل بعد اعتقال رئيسها سمير جعجع في العام 1994 وحلّها في ظل عهد الوصاية السورية.

بحضورها وغيابها كانت «القوات» من الأطراف الرئيسية المقررة والمؤثرة في انتخاب بشير الجميل ثم أمين الجميل وفي عهد حكومة العماد ميشال عون، ثم في انتخاب الرئيس رينيه معوض وبعده الياس الهراوي وأميل لحود وميشال سليمان وميشال عون مرة ثانية، وصولاً إلى استحقاق العهد الجديد الذي يفترض أن ينتشل لبنان من أزماته التي يتخبط بها.

دائماً كان خيار «القوات» في الإستحقاقات الرئاسية يهدف إلى استعادة الجمهورية وتحصين الصيغة اللبنانية وصيانة الكيان وتجديد الدولة والمؤسسات. هذا الخط لم تحد عنه «القوات اللبنانية» من بشير الجميل إلى سمير جعجع ومن العام 1980 حتى اليوم في العام 2022، وهي ستبقى كذلك قياساً على تجربتها وعلى خطابها السياسي وتجربتها الثابتة في كل المراحل في عزّ قوتها وفي انكفائها ومواجهتها الحروب عليها، هذه الحروب التي لم تكن إلا محاولات لمنع تأثيرها في هذه الإنتخابات.



عون رئيساً للحكومة العسكرية



بين المقاومة والشرعية

قبل العام 1982 يمكن القول إن «القوات» لعبت دوراً أيضاً في انتخاب الرئيس الياس سركيس في 8 أيار 1976 قبل خمسة اشهر من انتهاء ولاية الرئيس سليمان فرنجية. حصل ذلك من خلال تأمين النصاب للإنتخاب، خصوصاً أن سركيس كان صار مرشح الجبهة اللبنانية في لحظة تلاقي مصالح ظرفية مع النظام السوري برئاسة حافظ الأسد، الذي كان اختلف مع رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات ورئيس الحركة الوطنية كمال جنبلاط لسبب رئيسي وهو من يسيطر منهم على القرار اللبناني والفلسطيني. مع العلم أن «القوات اللبنانية» لم تكن قد توحدت بعد تحت هذا الإسم الذي كان يعبر عن كل القوى العسكرية التي تقاتل دفاعاً عن لبنان. في تموز 1976 عبر حافظ الأسد عن هذا التحول في خطابه في جامعة دمشق عندما روى قصة دخول جيشه إلى لبنان وتدخله في مجريات الحرب، وفي الوقت نفسه كان بشير الجميل قد أصبح رئيساً لمجلس الأمن الكتائبي بعد استشهاد وليم حاوي في معركة تل الزعتر.

على رغم النجاح في إيصال الياس سركيس إلى قصر بعبدا إلا أن علاقة بشير الجميل معه لم تكن إيجابية. مرت هذه العلاقة بمرحلتين: مرحلة الصدام قبل العام 1980 ومرحلة التعاون بعده. لماذا هذا التحول؟ لأن بشير الجميل كان صار الرجل الأقوى عسكرياً وسياسياً في المنطقة الشرقية، ولأن الرئيس سركيس كان وصل إلى قناعة بأن حلم الحل الذي وصل معه إلى رئاسة الجمهورية قد تبدد، وأن المطلوب رئيس جديد للجمهورية يمكنه أن ينقذ الجمهورية ويحقق ما عجز هو عن تحقيقه، ومن هنا ولدت معادلة الدعم المتبادل بين الشرعية الدستورية التي يمثلها رئيس الجمهورية والمقاومة التي يمثلها بشير الجميل. وقد لعب مدير المخابرات في عهد الرئيس سركيس العقيد جوني عبدو دوراً أساسياً في هذا التحول.



بشير الجميل الرئيس



جمهورية بشير

منذ العام 1980 بدأ بشير الجميل يُعدّ لمعركة رئاسة الجمهورية من خلال لقاء تحضيري لفريق عمل أساسي كان من ضمنه ميشال عون وسمير جعجع في دير سيدة البير، وكانت لا تزال حظوظه صفراً ولكنه طلب البدء برفع هذه النسبة مع الوقت.

معركة زحلة في نيسان 1981 جعلت من بشير الجميل رجل المرحلة وفتحت أمامه مجالات دولية وإقليمية، خصوصاً بعد تدحرج الحرب إلى مواجهة مفتوحة بين النظام السوري وبين إسرائيل بعدما اسقطت الطائرات الإسرائيلية طوافات سورية كانت تشارك في العمليات العسكرية في زحلة. وصول السفير فيليب حبيب إلى لبنان موفداً شخصياً للرئيس رونالد ريغن لمنع تطور حرب زحلة إلى حرب إقليمية وضع «القوات اللبنانية» وبشير الجميل على لائحة القوى المؤثرة في الأحداث والخيارات والحل. اعتباراً من هذا التاريخ سيبدأ الحديث عن اجتياح إسرائيلي يتم تحضيره بعد وصول اليمين الإسرائيلي بقيادة مناحيم بيغن رئيس الوزراء وأرييل شارون وزيراً للدفاع إلى الحكم، بينما كانت العمليات العسكرية الفلسطينية مستمرة عبر الحدود خصوصاً لجهة الإستمرار في القصف بالصواريخ على شمال إسرائيل، في وضع يشبه ما ذهب إليه «حزب الله» وإن كان طوّر من فعالية صواريخه ومداها.

عندما بدأ الإجتياح الإسرائيلي في 6 حزيران 1982 وبلغ مشارف بيروت بدا واضحاً أن بشير الجميل سيكون المرشح الوحيد لرئاسة الجمهورية. بينما كانت آخر القوافل الفلسطينية مع ياسر عرفات تخرج من بيروت كان يتم انتخابه في 23 آب 1982 رئيساً. في كل خطاباته الرئاسية ولقاءاته وتحضيراته خلال الـ21 يوماً التي أمضاها رئيساً منتخباً، أعطى بشير الجميل صورة الدولة التي يجب أن تكون. منذ لحظة انتخابه بدا وكأن الأمور يمكن أن تنتظم وأن يكون هناك جمهورية كاملة الأوصاف. لم يضع بشير الجميل الدولة تحت سلطة «القوات» ولم يرد أن تكون «القوات» هي الحزب الحاكم بل فصل مباشرة بين ما هو للدولة وما هو لـ»القوات». من خلال لقاءاته مع المسؤولين العسكريين والإداريين في الدولة، وكانوا من كل الطوائف، أعطاهم الأفكار التي يجب أن يعملوا عليها والتي تقوم على مبدأ واحد هو سيادة الدولة والقانون والمؤسسات، والقضاء على دولة المزرعة والمحسوبيات. تلك الصورة التي يتم استحضارها اليوم للحديث عن الدولة التي يجب أن تكون هي الصورة التي لا تزال تحملها «القوات اللبنانية» برئاسة سمير جعجع وتتعرض للعزل والمحاربة والإقصاء بسببها.

إغتيال بشير الجميل في 14 ايلول 1982 لم يقض على حلم قواتي فقط بل على حلم الجمهورية التي كان يريد استعادتها وكانت خسارة استشهاده بحجم استعادة وطن. خسارة لم يكن كثيرون يقدرون حجمها في تلك المرحلة التي كانت لا تزال واقعة تحت تأثير الصراع الداخلي والإجتياح الإسرائيلي، ولكنها بعد أربعين عاماً عادت لتأخذ مكانها الصحيح عندما صارت تجربة قائد «القوات اللبنانية» بشير الجميل الرئاسية مثلاً يعطى للحكم الصحيح ولرئيس الجمهورية، الذي يجب أن يكون قياساً على تجربة من أتوا بعده وعلى التداعيات التي رافقت عهد ميشال عون الذي شكل نقيض تلك التجربة في كل شيء.

عهد الرئيس أمين الجميل

بعد بشير الجميل مرت «القوات» بمرحلة من الضياع تحت تأثير المواجهات العسكرية الكبرى في ظل اختلال سلطة القرار. مع انتخاب الرئيس أمين الجميل رئيساً للجمهورية خلفاً لأخيه بشير في 21 ايلول دخلت علاقته مع «القوات» في متاهات كثيرة. في الأساس لم يكن الشيخ أمين على توافق مع بشير. بمشاعر اختلط فيها الحزن على اغتيال شقيقه والفرح بانتخابه دخل إلى قصر بعبدا ليستلم الرئاسة من الرئيس الصابر الياس سركيس، الذي كان وضع كل آماله على التعاون مع بشير وانكسر حلمه باغتياله وما كان عليه إلا أن يودّع الحكم بدمعة وبحزن أخذه إلى ما يشبه العزلة، ليسيطر عليه المرض ويقضي عليه في العام 1985.

لم تنتظم العلاقة بين الرئيس الجديد و»القوات اللبنانية» التي خرجت متضعضعة بعد خسارة كبيرة في حرب الجبل في معركة لم تكن مهيأة لها، وفي ظل تبدل الخيارات الإستراتيجية الإسرائيلية بعد التباعد الذي حصل مع الرئيس أمين الجميل في الذهاب إلى اتفاق 17 ايار ثم في الرجوع عنه. بعد محاولة الرئيس الجميل استعادة قرار «القوات» أو إعادتها إلى كنف حزب «الكتائب» حصلت انتفاضة 12 آذار 1985 بقيادة كل من سمير جعجع وإيلي حبيقة وكريم بقرادوني، وكانت تهدف إلى تحصين قرار «القوات» واستقلاليتها ودورها كما أراده لها بشير الجميل عندما خرج من «الكتائب» إلى التنظيم الذي يريده. ولكن هذه التجربة لم تكن من دون مخاض وآلام. إنقلب إيلي حبيقة على الإنتفاضة وذهب، بالتنسيق مع ميشال عون الذي كان أصبح قائداً للجيش، إلى الإتفاق الثلاثي برعاية حافظ الأسد، الأمر الذي عارضه معظم القوى المسيحية وأعاد الربط بين رئيس الجمهورية أمين الجميل وسمير جعجع في انتفاضة 15 كانون الثاني 1986، التي أسقطت هذا الإتفاق وحررت قرار «القوات» التي صارت بقيادة سمير جعجع الأكثر حضوراً وتنظيماً وفاعلية على الساحة اللبنانية.




الرئيس الياس سركيس



خلال عامين فقط استطاع سمير جعجع، من خلال إعادة تنظيم «القوات» والحياة السياسية في المناطق الشرقية، أن يحوِّل هذه المناطق إلى ما يشبه جمهورية بشير ولكن عبر نموذج مصغر. في المقلب الآخر حيث كانت السيطرة السورية كانت الفوضى والإغتيالات وعمليات خطف الأجانب التي ترافقت مع صعود دور «حزب الله» العسكري والأمني، وكانت الحروب بين حركة «أمل» و»الحزب التقدمي الإشتراكي» ثم حروب المخيمات ومعارك «أمل» و»حزب الله». هذه الفوضى التي هزت سلطة الإحتلال السوري جعلت المناطق الشرقية تنعم بالإستقرار الأمني الذي جعل «القوات اللبنانية» مرجعية في القرار وفي التواصل مع الدبلوماسية الغربية والعربية، وجعل معظم السفارات تنتقل إليها. ولكن في ظل هذا الجو كان حلم قائد الجيش الرئاسي العماد ميشال عون قد بدأ يطغى على طريقته في إدارة المؤسسة العسكرية ومقاربته للعلاقة بينه وبين «القوات اللبنانية» ورئيس الجمهورية. كل ذلك تجمّع حتى انفجر في لحظة الإستحقاق الرئاسي في أيلول 1988. بالتنسيق بين العماد عون و»القوات» وعدد من النواب الذين رفضوا حضور جلسة الإنتخاب التي كانت مقررة في 18 آب، تم منع انتخاب سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية وبدا أن الحؤول دون الفراغ يحتاج إلى تشكيل حكومة تتولى إدارة المرحلة تمهيداً لانتخاب رئيس.

ليلة الفراغ

أجواء ما قبل 22 أيلول 1988 كانت تشبه أجواء ما قبل 31 تشرين الأول 2022 الحالي. ضياع وتخبط سياسي وعدم قدرة على الحسم، وعدم وجود أي خطة للمستقبل مع فارق كبير هو حالة الإنهيار الحاصلة اليوم. طرفان أساسيان كانا يتواجهان في العام 1988 «القوات اللبنانية» والنظام السوري، وقوتان أساسيتان تتواجهان اليوم هما «القوات اللبنانية» و»حزب الله».

إلتقت القيادات المسيحية على رفض اتفاق الموفد الأميركي ريتشارد مورفي والرئيس السوري حافظ الأسد على ترشيح النائب مخايل الضاهر. إتصل الرئيس أمين الجميل بالدكتور سمير جعجع مبلغاً إياه بأنه يريد أن يلتقي الأسد. نصحه قائد «القوات اللبنانية» بعدم جدوى الزيارة وبالإهتمام بتشكيل حكومة تستلم السلطة وتؤمن انتخاب رئيس في مرحلة لاحقة. عاد الرئيس الجميل من لقاء الأسد بخيبة أمل بعد لقاء بين سمير جعجع وميشال عون.

ليلة 22 أيلول 1988 كان قصر بعبدا مسرحاً لجهد سياسي ضائع وملهاة في ليل جمهورية ذاهبة إلى المجهول. بعدما أنهى رئيس الجمهورية تسجيل خطاب الوداع شكل الحكومة العسكرية برئاسة قائد الجيش العماد ميشال عون لتبدأ معها جلجلة جديدة من تاريخ لبنان، وكان على «القوات اللبنانية» أن تواجه تلك المرحلة بكل مخاطرها في ظل تمسك عون بالسلطة وبمشروع وصوله إلى رئاسة الجمهورية مهما كلف الثمن. وكان الثمن غالياً.

يتبع: «القوات» والطائف ورئاستا معوض والهراوي والإعتقال