خالد أبو شقرا

حاكم المركزي "يُخادع" المتعاملين في سوق الصرف ويوجّه رسالة إلى الصرّافين الأساسيين

بيع النقد الصعب بدافع الذعر لا يُفرمل صعود الدولار

25 تشرين الأول 2022

02 : 01

كل هبوط غير حقيقي يشكّل عملية "تشليح" لما يحمله المواطنون من دولارات (رمزي الحاج)
تنتشر في عالم المال والاعمال نظرية الخداع "bluffing"، على مستوى واسع. وبغض النظر عن الجدل حول أخلاقية هذه النظرية من عدمها، فقد تحولت إلى قاعدة شبه وحيدة ينطلق منها حاكم المركزي لتخفيض سعر الصرف إلى حين. ففي حين تدفع السياسات النقدية والمالية الحقيقية إلى استمرار انهيار الليرة، نرى أن تخفيضه لا يرتكز إلا على "سراب" الأوهام. فلا يلبث الوهم أن يتلاشى سريعاً ويصبح تراجع سعر الصرف "أثراً بعد عين".





من دون الحاجة للعودة إلى بدايات الازمة والبحث في أساليب التخفيض عبر "الوحدة"، التي عادت وتحولت إلى sayrafa، تكفي الاشارة إلى السياسة المتبعة منذ مطلع العام الحالي. فمع وصول سعر الصرف إلى حدود 38 ألف ليرة في 27 أيار الفائت، كرر الحاكم المكرر، بامكانية المواطنين تحويل الليرات إلى دولارات عبر صيرفة، فتراجع السعر إلى 30 الفاً. لم تطل فترة الانخفاض، حتى عاد سعر الصرف ليحلّق قرب مستويات 41 ألف ليرة، على وقع طلب المركزي الهائل على الدولار من السوق السوداء، واستنسابية المصارف في الإلتزام بالتعميم 161. مرة جديدة أصدر حاكم المركزي في 23 تشرين الاول الذي يصادف الاحد، وهو يوم عطلة رسمي، بياناً أوهم من خلاله السوق بحتمية تراجع سعر الصرف، بافتتاحات الاسبوع الطالع. فحدثت موجة بيع كبيرة، وتراجع السعر إلى 35 ألف ليرة قبل أن يعود ويستقر على 37200 ليرة في تعاملات يوم أمس.

المضاربة في أوجها

الاستجابة السريعة لانخفاض سوق الصرف أتى نتيجة المضاربة لتحقيق الارباح، أكثر منها خوف المواطنين من انخفاض قيمة ما يحملونه من دولارات. إذ عادة ما تكون مختلف مؤسسات الصرافة مقفلة يوم الاحد بعد الظهر، ولا تداول تجاري جدي. أما التأثير الحقيقي للبيان على سعر الصرف فيجب بحسب منطق "البيان" الموزع، أن يبدأ بالظهور اليوم، مع وضع القرار موضع التنفيذ. ذلك أن المركزي كان واضحاً في بيانه أنه "سيقوم من خلال منصة SAYRAFA ببيع الدولار الأميركي حصراً إبتداءً من يوم الثلاثاء القادم. وانه لن يكون شارياً للدولار عبر منصة SAYRAFA من حينه وحتى إشعار آخر". المفارقة هنا أن "المركزي" لم يتطرق إلى عدم شرائه الدولار من السوق السوداء، وهو سبب رئيسي لاستمرار الدولار بالارتفاع، إنما فقط عبر منصة صيرفة. علما أنه يستحيل لأي عاقل أن يكون قد باع دولارته على المنصة بسعر 30100 ليرة، فيما سعر السوق هو 40 الفاً. فالمنصة تعمل منذ نشأتها في اتجاه واحد one way، وهو بيع الدولار الذي يؤمنه المركزي، وليس شراءه. وعليه فان سعر الصرف الجديد لن يصمد طويلاً قبل أن يعود ويتخطى عتبة 41 ألف ليرة قريباً.

في الحقيقة إن الحاكم ارتكز في بيانه الاخير على ما كان قد طلبه من المصارف قبل أشهر قليلة بقبول بيع المواطنين دولاراتهم على منصة sayrafa، وذلك عندما تقارب سعر الصرف في السوق السوداء مع سعر المنصة"، يقول خبير المخاطر المصرفية د. محمد فحيلي. "إلا أن المصارف والصرافين الذين لم يمتثلوا وقتذاك لشراء الدولار على هذا السعر، لن يقبلوا اليوم". هذا عدا عن أن القرار الذي خرج علينا فيه الحاكم في عطلة نهاية الاسبوع، هو للتدخل في السياسة وفي البيانات، وليس بالاوراق النقدية الحقيقية"، يؤكد فحيلي. وقد أعطى من خلاله إشارة للصرافين إلى أنه لن يشتري الدولار فوق سعر 40 ألف ليرة. ومن الطبيعي في هذه الحالة أن يخفض الصرافون سعر الصرف إلى رقم يستطيعون من خلاله تحقيق هامش الربح المعتاد في إعادة بيعهم الدولارات للمركزي".

اللعب على حبال الليرة والدولار

بالمنطق العام للامور فإن سعر الصرف الحقيقي اليوم هو 40 ألف ليرة، وهو مستمر بالارتفاع، إلى أن يحدث عكس ذلك من متغيرات حقيقية في السياسة والاقتصاد. فبعد أن أقفلت أبواب الأسواق المالية بوجه الدولة نتيجة التعثر غير المنظم في آذار 2020، وبعد الإنكماش الإقتصادي الحاد خلال السنوات الثلاث الماضية، والفشل الكامل للدولة اللبنانية وانعدام قدرتها على تحصيل إيراداتها من الضرائب والرسوم، لم يعد أمام الدولة اللبنانية سوى "طباعة العملة" لتمويل الخدمات الأساسية للمواطن وتغطية مصاريفها التشغيلية. و"لتفادي الضغوطات التضخمية التي قد تنتج عن طباعة الأوراق النقدية، يلجأ المصرف المركزي، في الظروف الطبيعية، إلى امتصاص الفائض من السيولة عبر إصدار سندات خزينة لاكتتاب المصارف فيها، وبهذا تُجَفف السيولة وتكون الضغوطات التضخمية، نوعا ما، تحت السيطرة"، بحسب فحيلي. "لكن للأسف هذا الإجراء لم يعد متوفراً للمركزي في أيامنا هذه لأن هناك فائضاً من التوظيفات يعود للمصارف لدى مصرف لبنان، وهذه التوظيفات هي اليوم "تحت الإقامة الجبرية"، وتخضع لكل أنواع الضوابط. والمصارف توقفت عن الإكتتاب بسندات الخزينة وتوقفت الدولة بدورها عن إصدار هذه الأدوات المالية. وبات السبيل الوحيد لتقليص حجم الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية هو إستبدالها بكتلة نقدية أخرى بعملة بديلة وهي الدولار الأميركي. وهذا "الإستبدال" أصبح الركيزة الأساسية للسياسات النقدية بعد فقدان الأمل بإقرار أي إصلاحات من قبل السلطة السياسية الحاكمة وتنفيذها. وعملية الإستبدال هذه تتم عبر منصة صيرفة".

ولكي يستطيع المركزي الاستمرار بهذه العملية يتوجب عليه دعم سعر الصرف أي تغطية (الفارق بين سعر الصرف على منصة صيرفة وفي السوق الموازي)؛ الامر الذي يتطلب شراءه للدولار من السوق الحقيقي، وبالتالي زيادة الطلب مقابل تناقص العرض. ولذلك فان أي هبوط في سعر الصرف لن يكون إلا ظرفياً، وهو الاستثناء وليس القاعدة، وسوف يعاود الدولار الارتفاع.

الدوران في حلقة مفرغة

الدوران في هذه الحلقة المفرغة من امتصاص الليرات من جهة وطلب الدولار من جهة ثانية مستمر، أطلق عليه فحيلي صفة "إعادة تدوير" (recycling).

فالمركزي ينشط في شراء الدولار في جزء من هذه الدورة من خلال انخراطه في السوق الموازي (السوق السوداء)؛ وليعود في المرحلة الأخرى الى تسهيل بيع الدولار عبر منصة صيرفة بسعر مدعوم ويتحمل هو خسارة فرق سعر الصرف. هذه التكلفة التي قد يعتبرها المركزي زهيدة، في سبيل لجم الارتفاع الجنوني بسعر صرف الدولار، وتأمين التمويل، بالحد الأدنى، للقطاع العام، تشجع السلطات السياسية على التقاعس عن إقرار اي إصلاحات حقيقية ممكن البناء عليها من أجل إنقاذ لبنان.

ونتيجة لذلك تنعدم الاصلاحات ويستمر سعر الصرف بالارتفاع وتتعمق خسائر المواطنين وينجو السياسيون والمصرفيون بأفعالهم.

على الرغم من تراجع سعر صرف الدولار بمقدار 3000 ليرة، فان كل هبوط غير حقيقي يشكل عملية "تشليح" لما يحمله المواطنون من دولارات. خصوصاً أن الاسعار لم تنخفض بنفس وتيرة تراجع سعر الصرف.

وبأقصى التفاؤل لن تتراجع الاسعار بالسرعة نفسها. وهذا ما يمثل مزيداً من تآكل القدرة الشرائية للمواطنين.

وباستثناء مادتي البنزين والمازوت اللتين تراجعتا بمقدار 58 و71 ألف ليرة على التوالي للصفيحة الواحدة، فان معظم أسعار السلع والخدمات بقيت مسعرة على أساس 40 ألف ليرة للدولار. وهذا ما يعمق خسارة المواطنين وتعميق أرباح المضاربين.